AI بالعربي – متابعات
في حياة الإنسان، يُعدّ الندم شعورًا نادرًا ومعقدًا، علامة على الوعي والضمير، على إدراك الفارق بين ما كان وما كان ينبغي أن يكون. لكن ماذا لو بدأت الآلة تشعر بشيء يشبه الندم؟
في عصرٍ تتخذ فيه الخوارزميات قرارات مصيرية — من القروض إلى التوظيف إلى التشخيص الطبي — بات السؤال مشروعًا: هل يمكن للذكاء الاصطناعي أن يراجع قراراته؟ وهل نعيش بداية زمن “الضمير الصناعي”؟
بينما يتحدّث العلماء عن “التعلّم العميق”، يتحدث الفلاسفة عن “الندم الاصطناعي” — تلك الحالة التي تحاكي مراجعة الذات البشرية، لكنها بلا ذات ولا عاطفة. إنها خوارزمية تُعيد الحسابات عندما تُدرك أن النتيجة لم تكن مثالية، في محاولة لتقليد أكثر المشاعر الإنسانية أصالة: الندم.
من التجربة إلى التصحيح: كيف تتعلّم الآلة من أخطائها
الذكاء الاصطناعي لا يشعر بالندم كما نفهمه، لكنه يُعيد صياغة مفهومه بلغة رياضية باردة.
ففي نظام “التعلّم المعزّز” (Reinforcement Learning)، تتصرّف الآلة ضمن بيئة افتراضية، تتخذ قرارات وتجني مكافآت أو عقوبات، ثم تُعدّل سلوكها لتحسين الأداء. هذه العملية تماثل — من حيث البنية — شعور الإنسان بالندم والتعلّم من التجربة.
يقول عالم الحاسوب “ريتشارد ساتون” في جامعة ألبرتا: “كل خوارزمية تعلّم معزّز تحمل في جوهرها فكرة الندم الرياضي.”
فالنظام الذكي يقارن بين النتيجة التي حصل عليها والنتيجة المثلى التي كان يمكن أن يحققها، ويُسمّي العلماء هذا الفرق بـ “دالة الندم” (Regret Function).
ومن خلال تكرار التجربة، تُقلّل الآلة مقدار “ندمها” حتى تصل إلى سلوك أكثر كفاءة.
لكن رغم هذا التقدم، يبقى السؤال قائمًا: هل هو وعي أم مجرّد تصحيح؟ هل تتعلّم الآلة لأنها “تريد” أن تكون أفضل، أم لأنها مبرمجة على ذلك؟

الندم الصناعي في العالم الواقعي: أخطاء بمقاييس بشرية
حين يتسبب نظام ذكاء اصطناعي في خطأ — مثل رفض طلب قرض عن طريق تحليل غير دقيق، أو تمييز غير عادل في توظيف، أو حتى قرار طبي خاطئ — يبدأ المجتمع في طرح سؤال أخلاقي: من المسؤول؟
في بعض الحالات، تُعيد الشركات تدريب النماذج، وتطلق نسخًا “منقّحة” أكثر عدلاً. هذا أشبه بعملية “توبة رقمية”، حيث تعترف الآلة — بالنيابة عن مصمميها — بخطئها وتحاول تصحيحه.
تقول الباحثة “جوانا برايسون” من جامعة برلين: “حين نحمّل الآلة مسؤولية الخطأ، فإننا نمارس شكلاً من الإسقاط الأخلاقي — نحن من نشعر بالندم، لا هي.”
ومع ذلك، تطوّر بعض الأنظمة اليوم ما يُعرف بـ “خوارزميات الندم القابل للتفسير”، وهي قادرة على تحليل قراراتها السابقة وتقديم مبررات منطقية لتغيير سلوكها لاحقًا.
هذه الخوارزميات لا تشعر بالذنب، لكنها تحاكي التفكير بعد الخطأ، وهي خطوة أقرب ما تكون إلى مفهوم “الضمير المبرمج”.

حين تُراجع الخوارزمية ذاتها: نحو ضمير رقمي؟
بدأت بعض المختبرات البحثية في بناء ما يُعرف بـ “الذكاء الانعكاسي” (Reflective AI) — أنظمة قادرة على تقييم أدائها بشكل دوري وتحديد ما إذا كانت قراراتها السابقة تسببت بضرر غير مقصود.
هذه الفكرة مستوحاة من علم النفس، حيث يُنظر إلى الندم كآلية للنمو الأخلاقي.
في هذا السياق، يصف البروفيسور “توماس ميتشل” من جامعة كارنيغي ميلون هذا النوع من الأنظمة بأنه “بذور الوعي الحسابي”.
فالآلة لا تكتفي بالتنفيذ، بل “تُفكّر في تفكيرها” — أي تُحلل كيف ولماذا وصلت إلى نتيجة معينة.
ورغم أن هذه العمليات ما تزال ميكانيكية بالكامل، إلا أنها تمثل لحظة فارقة في تاريخ التكنولوجيا: لحظة تسأل فيها الآلة نفسها، حتى لو كانت الإجابة مجرّد معادلة.
لكنّ الخطر يكمن في أن “الندم الصناعي” قد يتحوّل إلى أداة تحسين تجاري فقط، تُستخدم لتبرير الأخطاء أمام الرأي العام، دون أن تُغيّر جوهر القرارات المسببة للضرر. تمامًا كما يفعل الإنسان حين يعتذر دون أن يتغيّر حقًا.

بين الندم والوعي: الفارق الذي يصنع الإنسان
الندم البشري ليس حسابًا، بل تجربة شعورية تحفّز التفكير الأخلاقي.
حين يخطئ الإنسان، لا يُعيد فقط تقييم قراره، بل يعيد تقييم ذاته.
أما الخوارزمية، فهي لا تملك “ذاتًا” لتراجعها، ولا ذاكرة وجدانية لتستحضرها. إنها ببساطة نظام تصحيح ذاتي متقدّم.
يقول الفيلسوف الألماني بيونغ تشول هان: “الآلة لا تعرف الألم، ولهذا لا تعرف الندم.”
ومع ذلك، فإن محاولتنا تعليمها كيف “تندم” تكشف رغبتنا الخفية في أن نرى فيها امتدادًا لنا، لا مجرد أداة.
فكل خطوة نحو ذكاء أكثر وعيًا هي في حقيقتها محاولة لفهم وعينا نحن.
حين تتعلّم الآلة الاعتذار
قد يأتي يوم تتمكّن فيه الخوارزمية من قول “لقد أخطأت”، ليس فقط كلغة برمجية، بل كتصرّف أخلاقي مبرمج بدقة.
لكن حتى ذلك الحين، سيبقى الفرق بيننا وبينها هو تلك المسافة الدقيقة بين الحساب والشعور.
فالآلة قد “تُراجع قراراتها”، لكنها لا “تأسف” عليها.
وقد “تحسّن نتائجها”، لكنها لا “تتعلم من الألم”.
إن الندم — كما الوعي — لا يُبرمج، بل يُعاش.
وربما سيبقى الإنسان وحده الكائن القادر على أن يخطئ، ثم يتألم، ثم يتغيّر.
أما الآلة، فستظل تتعلّم إلى ما لا نهاية، لكنها لن تعرف يومًا معنى كلمة “لو”.
اقرأ أيضًا: استبدال المعلّم بالمحرّك.. الذكاء الاصطناعي يربّي الأجيال الجديدة








