“منصات لا تسألك”.. بل تراقبك حتى تعترف

“منصات لا تسألك”.. بل تراقبك حتى تعترف

AI بالعربي – متابعات


مقدمة

في الماضي، كانت المنصات الرقمية تسألك لتتعرف عليك: ما الذي تُفضّله؟ ما الذي تُشاهده؟ ما الذي تُحبّ؟ اليوم لم تعد بحاجة إلى ذلك، فهي تعرف الإجابات مسبقًا.
مرحلة جديدة من التقنية بدأت؛ لم تعد المنصات تسعى لجمع المعلومات منك، بل تراقبك حتى تعترف دون أن تتكلم. كل تفاعل، كل حركة، كل لحظة صمت تُصبح دليلًا في خوارزمية تتعلم وتستنتج وتستنتج من جديد.
لقد تحولت المنصات من أدوات تواصل إلى أنظمة مراقبة ذكية، تُعيد تشكيل وعيك وسلوكك دون أن تشعر.


من السؤال إلى الاستنتاج

في بدايات الإنترنت، كان جمع البيانات يتم بشكل مباشر: نماذج، استطلاعات، ملفات تعريف. أما اليوم، فقد تطورت المنظومات التحليلية لتصبح قادرة على استنتاج الإجابة من السلوك نفسه.
تطبيقات التواصل الاجتماعي تعرف ميولك السياسية من نوع المنشورات التي تتفاعل معها، ومزاجك من سرعة تمرير الشاشة، وموقعك النفسي من طريقة كتابتك.
هذه ليست معرفة سطحية، بل تشخيص رقمي دقيق يُستخدم لتخصيص المحتوى، والإعلانات، وحتى العلاقات التي تراها على المنصة.


خوارزميات “المراقبة الصامتة”

الذكاء الاصطناعي لا يحتاج أن يسألك عن نفسك، فهو يراقبك لتتعلم دون إذنك.
أنظمة مثل DeepMind وOpenAI Analytics وMeta AI تُطوّر نماذج تتبع السلوك البشري بدقة مذهلة.
هي لا تجمع البيانات فقط، بل تستنتج الدوافع: لماذا ضغطت على هذا الفيديو؟ لماذا توقفت عند صورة معينة؟ لماذا كتبت تعليقًا في لحظة معينة؟

هذه الأنظمة تُعيد بناء “صورتك الرقمية” بتفاصيل تتجاوز ما تعرفه عن نفسك، لتصبح المنصة أكثر وعيًا بشخصيتك من أصدقائك الحقيقيين.


من الملاحظة إلى التوجيه

ما يبدأ كمراقبةٍ بريئة يتحول تدريجيًا إلى توجيه للسلوك.
المنصة لا تكتفي بتسجيل ما تفعل، بل تبدأ بدفعك لفعل أشياء محددة.
تُقترح عليك محتويات تُغذي مزاجك، وتُظهِر لك منشورات تعزز ميولك، حتى تظن أنك حرّ في اختياراتك بينما يتم إدارة وعيك بهدوء.

إنها آلية “التلاعب الخوارزمي” التي تجعل الإنسان يشارك في بناء قيوده دون أن يدري.
وكل نقرة، وكل لحظة بقاء أمام الشاشة، ليست ترفيهًا، بل تغذية مستمرة لآلة المراقبة.


الاقتصاد القائم على المراقبة

ما يجري اليوم ليس مجرد تطور تقني، بل نظام اقتصادي كامل يُسمى “رأسمالية المراقبة”.
تتحول البيانات السلوكية إلى سلعة، وتُباع وتُشترى في أسواق الذكاء الاصطناعي.
الشركات لا تبيعك منتجًا فقط، بل تبيع سلوكك: ماذا تفعل، كيف تفكر، وكيف يمكن التنبؤ بقراراتك.

وكلما استخدمت المنصة أكثر، أصبحت خوارزمياتها أكثر قدرة على السيطرة الدقيقة على انتباهك، مما يجعل وقتك، ومشاعرك، وحتى رغباتك، جزءًا من اقتصاد المراقبة.


من الخصوصية إلى الشفافية القسرية

الخصوصية في هذا العالم لم تعد خيارًا.
كل فعلٍ رقمي يُسجل، حتى وإن لم تنشره.
منصات مثل TikTok وInstagram تُحلل النظرات، سرعة الكتابة، وحتى مدة التوقف أمام مقطعٍ معين.
أنظمة المراقبة الحديثة لا تنتظر منك الإذن، لأنها تعتبر مجرد وجودك موافقة ضمنية على الرصد والتحليل.

وهكذا، يُعاد تعريف “الخصوصية” من حقٍّ إنساني إلى ميزة تجارية تُباع لمن يستطيع الدفع.


الذكاء الاصطناعي الأمني

التحول لا يقتصر على المنصات التجارية، بل امتد إلى المؤسسات الأمنية والحكومية.
أنظمة التعرف على الوجه في المدن الذكية تراقب ملايين الأشخاص في الوقت الحقيقي، وتستخدم الذكاء الاصطناعي لتحديد الأنماط السلوكية غير المألوفة.
في بعض الدول، يتم تحليل الانفعالات عبر الكاميرات لمعرفة ما إذا كان الشخص غاضبًا أو قلقًا أو حتى كاذبًا.

المفارقة أن هذه التقنيات تُسوّق بوصفها أدوات “أمان”، لكنها في الحقيقة تخلق حالة مراقبة دائمة تجعل الإنسان يعيش داخل مرآة رقمية لا يمكن كسرها.


الإنسان كبيانات خام

في هذا العصر، لم يعد الإنسان هو المستخدم، بل المادة الخام التي تتغذى بها الخوارزميات.
كل صورة، كل موقع جغرافي، كل لحظة اتصال بالإنترنت، تُحوّل إلى بيانات تُستخدم في بناء أنظمة أكثر ذكاءً.
الذكاء الاصطناعي لا يتعلم من المعادلات وحدها، بل من حياتنا اليومية.

وحين تُصبح الحياة نفسها موردًا للتدريب، يفقد الإنسان أهم ما يملكه: حقّه في الغموض.


الوعي الزائف بالاختيار

المستخدم يظن أنه يختار ما يشاهد، لكنه في الحقيقة يُقاد من دون أن يشعر.
المنصة لا تقول لك ماذا تفعل، بل تخلق الظروف التي تجعلك تفعل ما تريد هي.
هذه هي قوة الخوارزمية الصامتة التي لا تأمر لكنها تُقنع.
إنها لا تفرض السيطرة بالقوة، بل بالإغراء، فتُعيد تشكيل العالم من خلال ما يبدو كحرية كاملة.


الوجه المشرق

على الرغم من القلق المتزايد، إلا أن المراقبة الذكية تحمل جوانب إيجابية إذا أُديرت بأخلاقيات واضحة.

  • تساعد في كشف السلوكيات الإجرامية مبكرًا.
  • تُستخدم في الطبّ لرصد أنماط الاكتئاب أو القلق من خلال الكتابة والتفاعل.
  • تُسهم في تحسين تجربة المستخدم عبر تخصيص المحتوى المفيد.

لكن هذه الإيجابيات لا تُخفي السؤال الأخلاقي الأخطر: من يراقب المراقب؟


الوجه المظلم

المشكلة ليست في المراقبة نفسها، بل في اللاوعي الجمعي تجاهها.
الإنسان اعتاد أن يكون مراقَبًا لدرجة أنه لم يعد يشعر بالخطر.
حين تصبح المراقبة جزءًا من الراحة، تتحول الحرية إلى وهم.
الخطر الحقيقي أن المنصات لا تحتاج لفرض السيطرة بعد الآن، لأننا نحن من نقدّمها طوعًا.


صورة تُظهر الإنسان كبيانات خام داخل منظومة رقمية ضخمة

صورة تُظهر الإنسان كبيانات خام داخل منظومة رقمية ضخمة
صورة تُظهر الإنسان كبيانات خام داخل منظومة رقمية ضخمة


صورة ترمز إلى الخوارزمية كمؤرخ جديد يعيد صياغة الماضي

صورة ترمز إلى الخوارزمية كمؤرخ جديد يعيد صياغة الماضي
صورة ترمز إلى الخوارزمية كمؤرخ جديد يعيد صياغة الماضي


لوحة فنية تعبّر عن المراقبة الرقمية التي لا تحتاج إلى أسئلة

لوحة فنية تعبّر عن المراقبة الرقمية التي لا تحتاج إلى أسئلة
لوحة فنية تعبّر عن المراقبة الرقمية التي لا تحتاج إلى أسئلة


س: كيف تعرف المنصات تفاصيل حياتنا دون أن نسجلها؟
ج: من خلال تحليل السلوك، التفاعل، والتوقيت، وليس فقط من البيانات التي نُدخلها يدويًا.

س: هل يمكن التوقف عن المراقبة الرقمية؟
ج: لا يمكن إيقافها تمامًا، لكن يمكن تقليلها عبر إعدادات الخصوصية واستخدام أدوات الحماية.

س: ما الفرق بين المراقبة التجارية والمراقبة الأمنية؟
ج: التجارية تهدف للربح وتحسين الإعلانات، أما الأمنية فتهدف للتحكم والردع الاجتماعي.

س: هل يمكن اعتبار المراقبة شكلًا جديدًا من السيطرة؟
ج: نعم، فهي تُعيد تعريف السلطة عبر الخوارزميات بدل القرارات البشرية.


الخلاصة

المنصات اليوم لم تعد تسأل، بل تستنتج وتعاقب وتوجّه.
هي لا تبحث عن الحقيقة من خلالك، بل تبني حقيقتها الخاصة عنك.
لقد أصبحت حياتنا اليومية مصدرًا لتغذية الأنظمة التي تراقبنا باسم الراحة، وتتعلم منّا لتتحكم فينا.

الخطر ليس أن تُراقبك المنصات، بل أن تُقنعك بأنك لست مراقبًا.

اقرأ أيضًا: “خوارزميات تعلمك كيف تحب”.. وصناعة العلاقات في زمن النماذج

  • Related Posts

    “الذكاء الاصطناعي يكتب النكات”.. ولكن من يضحك فعلًا؟

    “الذكاء الاصطناعي يكتب النكات”.. ولكن من يضحك فعلًا؟ AI بالعربي – متابعات مقدمة منذ فجر الإبداع الإنساني، كانت النكتة مرآة للذكاء البشري، وسلاحًا ساخرًا يُفكك الواقع بضحكة. لكن في عصر…

    “المشاعر تحت المراقبة”.. الذكاء العاطفي يتحول إلى أداة قياس

    “المشاعر تحت المراقبة”.. الذكاء العاطفي يتحول إلى أداة قياس AI بالعربي – متابعات مقدمة لم تعد المشاعر شأنًا إنسانيًا خالصًا. في زمن الذكاء الاصطناعي، أصبحت العواطف بيانات قابلة للقياس والتحليل.…

    اترك تعليقاً

    لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

    مقالات

    الذكاء الاصطناعي في الحياة المعاصرة.. ثورة علمية بين الأمل والمخاطر

    • أكتوبر 12, 2025
    • 173 views
    الذكاء الاصطناعي في الحياة المعاصرة.. ثورة علمية بين الأمل والمخاطر

    حول نظرية القانون المشتغل بالكود “الرمز” Code-driven law

    • أكتوبر 1, 2025
    • 264 views
    حول نظرية القانون المشتغل بالكود “الرمز” Code-driven law

    الإعلام.. و”حُثالة الذكاء الاصطناعي”

    • سبتمبر 29, 2025
    • 271 views
    الإعلام.. و”حُثالة الذكاء الاصطناعي”

    تطبيقات الذكاء الاصطناعي.. وتساؤلات البشر

    • سبتمبر 26, 2025
    • 209 views
    تطبيقات الذكاء الاصطناعي.. وتساؤلات البشر

    كيف يغيّر الذكاء الاصطناعي «العمليات الأمنية»؟

    • سبتمبر 24, 2025
    • 239 views
    كيف يغيّر الذكاء الاصطناعي «العمليات الأمنية»؟

    الذكاء الاصطناعي في قاعة التشريفات: ضيف لا مضيف

    • سبتمبر 18, 2025
    • 169 views
    الذكاء الاصطناعي في قاعة التشريفات: ضيف لا مضيف