AI بالعربي – متابعات
لم تعد السيطرة في العصر الرقمي تُمارَس عبر القوانين الصريحة أو الخطابات الفجّة أو الأوامر المباشرة. ما نشهده اليوم أكثر هدوءًا، وأكثر فاعلية، وأصعب في الرصد. إنها هيمنة لا تُشبه القمع، ولا تحتاج إلى عنف رمزي واضح، لأنها تتخفّى داخل أكثر الأفعال اعتيادية: المحادثة اليومية. سؤال عابر، اقتراح لطيف، ردّ متفهّم، نبرة محايدة. هكذا تبدأ الهيمنة الناعمة، دون أن ترفع صوتها، ودون أن تعلن نفسها.
نحن لا نعيش تحت سلطة تُملي علينا ما نفعل، بل داخل نظام يُحادثنا باستمرار. يسألنا عمّا نريد، ثم يقترح ما “قد يناسبنا”، ثم يتعلّم من استجابتنا، ويعيد ترتيب العالم من حولنا وفق هذا التعلّم. المحادثة هنا ليست تواصلًا فقط، بل آلية ضبط.

في هذا السياق، يصبح الحوار واجهة ناعمة لعمليات حسابية معقّدة. الكلمات التي نراها ليست بريئة، لأنها نتيجة نماذج توقّعية بُنيت على ملايين المحادثات السابقة. النظام لا يعرفنا كأفراد، لكنه يعرف أنماطًا تشبهنا، ويخاطبنا من خلالها. وهنا تبدأ المفارقة: نشعر بأننا مفهومون، بينما نحن مُدرَجون.
اللغة بوصفها أداة تشكيل
اللغة التي تستخدمها الأنظمة الذكية ليست حيادية. اختيار كلمة بدلًا من أخرى، ترتيب الجمل، درجة الحزم أو اللطف، كلها قرارات تصميمية. حين يقول لك النظام “ربما ترغب في…” فهو يفتح الباب ظاهريًا، لكنه في الواقع يحدّد الإطار. الإطار اللغوي يسبق القرار، ويُضيّق مساحته دون أن يُغلقها.
يقول أحد باحثي فلسفة اللغة الرقمية: “الهيمنة الحديثة لا تُقنعك بفكرة، بل تُدرّبك على صياغة أسئلتك بطريقة تخدمها.” فالسؤال نفسه يصبح موجهًا. ما لا تسأل عنه، يختفي من الأفق.
ومع تكرار المحادثات، تتكوّن علاقة اعتياد. لا نعود ننتبه إلى نبرة الاقتراح، ولا إلى ما تم استبعاده. نكتفي بالاختيار من قائمة غير معلَنة.
من التفاعل إلى الاعتماد
في البداية، نستخدم المساعد الذكي لتوفير الوقت. ثم نستخدمه لتبسيط القرار. ثم نستخدمه لأننا اعتدنا عليه. في هذه المرحلة، لا يعود السؤال: هل هذا الاقتراح صحيح؟ بل: لماذا أبحث بنفسي؟ الاعتماد لا يُفرض، بل ينمو.
الهيمنة الناعمة تعمل عبر الراحة. كلما كانت التجربة أسهل، قلّ استعدادنا للمساءلة. ومع الوقت، تتحوّل المحادثة إلى مرجعية. ما تقوله الآلة يبدو “منطقيًا” لأنه متّسق، ومتكرّر، وخالٍ من التناقض البشري.

المحادثة كمساحة جمع بيانات
كل حوار هو أيضًا عملية استخراج. ليس فقط لما نقوله، بل لكيف نقوله. التردّد، التكرار، الانفعال، الصمت. هذه التفاصيل تُغذّي النموذج، وتجعله أكثر قدرة على التنبؤ. ومع تحسّن التنبؤ، تقلّ الحاجة إلى السؤال. يبدأ النظام في الاستباق.
وهنا يتحوّل الحوار من تفاعل إلى إدارة. ما يُعرض عليك لم يعد ردًّا فقط، بل خطوة ضمن مسار محسوب. الهيمنة لا تظهر في الإجابة، بل في المسار الذي تقودك إليه سلسلة الإجابات.
من الفرد إلى الذوق العام
ما يبدو تجربة شخصية، هو في الحقيقة لبنة في بناء جماعي. استجابتك تُعدّل النموذج الذي سيخاطب غيرك. ومع الوقت، تتشكّل نبرة عامة: ما هو مقبول، ما هو معتدل، ما هو “عقلاني”. الآراء الحادة تُلطَّف، الأسئلة المربكة تُهمَّش، والاختلاف يُعاد صياغته ليبدو قابلًا للاحتواء.
الهيمنة هنا لا تُسكت الأصوات، بل تُعيد ترتيبها. لا تمنعك من الكلام، لكنها تجعل بعض الكلام أقل حضورًا، وأقل وصولًا، وأقل “ملاءمة”.

هل نحن ضحايا أم شركاء؟
الإجابة معقّدة. نحن نشارك لأننا نريد الفائدة، والسهولة، والسرعة. لكن المشاركة لا تعني التكافؤ. المستخدم يقدّم ذاته، والنظام يراكم السلطة. ومع ذلك، لا يمكن اختزال الأمر في نية سيئة. الهيمنة الناعمة غالبًا ما تكون نتيجة تصميم يسعى إلى الكفاءة، لا السيطرة. لكنها تظل هيمنة حين تغيب الشفافية.
الوعي داخل الحوار
استعادة التوازن لا تعني الانسحاب، بل الانتباه. أن نلاحظ كيف تُصاغ الأسئلة، وكيف تُرتَّب الخيارات، وما الذي لا يُذكر. أن نحتفظ بمسافة نقدية، حتى داخل أكثر المحادثات ودّية. لأن أخطر أشكال التأثير هو ذاك الذي لا نشعر به.
هل كل محادثة مع الذكاء الاصطناعي شكل من أشكال السيطرة؟
لا، لكنها تحمل قابلية التأثير غير المباشر.
ما الفرق بين المساعدة والهيمنة؟
المساعدة توسّع الأفق، الهيمنة ترتّبه دون إعلان.
هل يمكن تصميم محادثات أكثر أخلاقية؟
نعم، عبر الشفافية وإظهار منطق الاقتراح وحدوده.
هل الاعتماد مشكلة بحد ذاته؟
يصبح مشكلة حين يُلغي السؤال ولا يختصر الجهد فقط.
كيف نحافظ على استقلال القرار؟
بالمقارنة، وبالعودة إلى مصادر بشرية، وبقبول التعقيد.
في النهاية، الهيمنة الناعمة لا تأتيك في صورة أمر، بل في شكل حوار. لا تطلب الطاعة، بل الفهم. ومع كل محادثة ناعمة، يُعاد رسم حدود القرار دون أن ننتبه. والسؤال الحقيقي ليس: ماذا تقول لنا الآلة؟ بل: كيف تغيّرنا ونحن نُصغي؟
اقرأ أيضًا: نهاية السرد التقليدي.. صعود القصة التنبؤية








