AI بالعربي – متابعات
لم تعد العفوية، في الفضاء الرقمي، كما كانت تُفهم سابقًا. لم تعد لحظة غير مخططة، ولا تعبيرًا يخرج بلا حساب، ولا زلة لغوية تكشف الإنسان خلف الكلمات. العفوية اليوم أصبحت نمطًا قابلًا للتصميم، وسلوكًا يمكن تدريبه، وأثرًا بصريًا ولغويًا تُتقنه النماذج الذكية بدقة مقلقة. ما يبدو لنا تلقائيًا، قد يكون في الحقيقة نتاج آلاف المحاولات الإحصائية للوصول إلى “الشكل المناسب للعفوية”.
في هذا التحوّل، لا يختفي الإنسان من المشهد، بل يُعاد توظيفه. يصبح توقيعه حاضرًا، بينما قراره غائب. يصبح صوته مستخدمًا، بينما مصدره خوارزمي.
العفوية التي كانت دليل حياة، تتحوّل إلى أسلوب إنتاج.

العفوية كخاصية تصميم
في أنظمة الذكاء الاصطناعي الحديثة، لا تُعد العفوية خللًا، بل هدفًا. النماذج اللغوية لا تُدرَّب فقط على الصواب، بل على الانحراف المقبول. تُعلَّم متى تتردد، متى تستخدم جملة ناقصة، متى تُقحم تعبيرًا دارجًا، ومتى تُظهر شكًا أو تردّدًا محسوبًا. كل ذلك لإنتاج إحساس “الإنسانية”.
المفارقة أن العفوية، التي كانت نقيض التخطيط، أصبحت ثمرة تخطيط معقّد. فالنموذج لا يقول ما يخطر له، بل ما تشير البيانات إلى أنه سيُستقبل بوصفه عفويًا. هنا تتحوّل العفوية من تجربة داخلية إلى نتيجة خارجية.
يقول أحد باحثي التفاعل الإنساني–الآلي: “النموذج لا يشعر بالعفوية، لكنه يعرف شكلها.” وهذه المعرفة الشكلية كافية لإقناع المتلقي.
التوقيع البشري بوصفه قناعًا
في كثير من المحتوى المولّد اليوم، يُضاف “الطابع البشري” عمدًا. اسم كاتب، صورة شخصية، أسلوب لغوي متكرر. هذا التوقيع لا يعني أن الإنسان كتب النص، بل أنه صادق عليه، أو سمح بمروره، أو وفّر له خامته الأسلوبية. الإنسان هنا لا يبدع من الصفر، بل يُضفي شرعية.
هذا التوقيع يمنح المحتوى مصداقية عاطفية. المتلقي لا يتفاعل مع النص فقط، بل مع وهم العلاقة. يشعر أن هناك شخصًا خلف الكلمات، حتى لو كان هذا الشخص قد اكتفى بالضغط على زر.

لماذا ننجذب إلى العفوية المصطنعة؟
لأنها مريحة. العفوية المصطنعة خالية من الإحراج، من التناقض الحاد، من الصمت الثقيل. هي عفوية بلا مخاطرة. تضحك في الوقت المناسب، تتأثر في اللحظة المتوقعة، وتتوقف قبل أن تُربك. إنها نسخة مُهذّبة من الإنسان.
الخوارزميات تعلّمت أن الجمهور لا يبحث دائمًا عن الصدق، بل عن الإحساس بالصدق. وهذا الإحساس يمكن توليده، وتكراره، وتحسينه. ومع الوقت، يبدأ الذوق العام في التكيّف. تصبح العفوية الحقيقية — بتعثّرها وتناقضها — أقل قبولًا.
هل نفقد الثقة أم نغيّر تعريفها؟
السؤال ليس بسيطًا. نحن لا نعيش خدعة كاملة، لأننا نعرف — نظريًا — أن الكثير مما نراه مولّد. لكننا نقبل به، لأن التجربة تعمل. هنا تتغيّر الثقة من كونها علاقة أخلاقية إلى كونها تجربة استخدام. نثق بما لا يؤذينا، لا بما هو حقيقي.
هذا التحوّل يعيد تعريف الأصالة. لم تعد الأصالة مرتبطة بالمصدر، بل بالأثر. إذا جعلني المحتوى أشعر بشيء، فهو “صادق” بما يكفي، حتى لو لم يكن بشريًا.

المبدع بين الذوبان والمقاومة
أمام هذا الواقع، يجد المبدع نفسه في منطقة رمادية. إما أن يتبنّى الأدوات، ويُعيد تعريف دوره بوصفه مخرجًا للأسلوب، لا كاتبًا للنص. أو أن يقاوم، ويتمسّك بعفوية غير محسوبة، حتى لو بدت أقل جاذبية رقميًا.
بعض الكتّاب والفنانين بدأوا بالفعل في تعمّد ما لا يمكن للنموذج إتقانه: التناقض غير المبرر، الصمت، القفز غير المنطقي، التجربة الشخصية الثقيلة. ليس لأن الذكاء الاصطناعي لا يستطيع تقليدها، بل لأنه لا يحتاجها.
هل العفوية المصطنعة خداع؟
هي ليست خداعًا كاملًا، لكنها إعادة تشكيل لما نتوقعه من العفوية.
هل يمكن التمييز بينها وبين العفوية الحقيقية؟
أحيانًا، لكن مع تطور النماذج يصبح الفرق أدق وأقل وضوحًا.
ما دور الإنسان في هذا النوع من المحتوى؟
غالبًا دور إشرافي أو أسلوبي، لا إبداعي كامل.
هل هذا يهدد قيمة التعبير الإنساني؟
يهدد شكله السائد، لا جوهره.
كيف يمكن الحفاظ على العفوية الحقيقية؟
بقبول عدم الكمال، وبإنتاج محتوى لا يسعى دائمًا للإرضاء.
في النهاية، تقليد العفوية ليس دليلًا على تفوّق الآلة، بل على هشاشة تعريفاتنا. حين يصبح ما يبدو إنسانيًا قابلًا للتوليد، نُضطر إلى طرح سؤال أعمق: هل العفوية ما نقوله دون تفكير، أم ما نشعر به قبل أن نصوغه؟ في هذه المساحة غير القابلة للبرمجة، لا يزال الإنسان حاضرًا، حتى لو غطّته الخوارزمية مؤقتًا.
اقرأ أيضًا: الخطاب الديني تحت عين الذكاء الاصطناعي








