AI بالعربي – متابعات
لم تعد الهيمنة في عصر الذكاء الاصطناعي تُمارَس عبر الأوامر المباشرة أو الرقابة الصارمة أو الخطاب السلطوي الواضح. على العكس، أكثر أشكال السيطرة فاعلية اليوم هي تلك التي لا تُرى، ولا تُعلَن، ولا تُقاوَم، لأنها لا تُشعِر من يتعرض لها بأنه خاضع لها أصلًا. إنها الهيمنة الناعمة، التي تتسلّل بهدوء إلى تفاصيل الحياة اليومية، وتبدأ من أبسط نقطة: المحادثة.
نحن لا نتلقى التعليمات من الآلة، بل نتحاور معها. لا تفرض رأيًا، بل تقترحه. لا تُصدر حكمًا، بل “تفهمك”. وفي هذا الفهم الظاهري، تبدأ عملية إعادة التشكيل.

المحادثة اليومية مع المساعدات الذكية، أو مع أنظمة التوصية، أو حتى مع واجهات الدعم الآلي، ليست مجرد تبادل معلومات. هي فضاء تعلّم متبادل، لكن بميزان قوى غير متكافئ. المستخدم يتكشّف، يشرح، يسأل، يتردّد، بينما النظام يُصغي، يُسجّل، يُحلّل، ويُعدّل استجاباته وفق أنماط متراكمة.
هنا لا يُفرض الاتجاه، بل يُرجَّح.
اللغة بوصفها أداة توجيه
اللغة المستخدمة في هذه المحادثات ليست حيادية. اختيار الكلمات، نبرة الرد، درجة الحياد أو التعاطف، كلها عناصر مصمَّمة بعناية. حين يقول لك النظام “قد يكون من الأفضل أن…” أو “غالبًا ما يفضّل المستخدمون…” فهو لا يأمرك، لكنه يضعك داخل إطار معياري. بمرور الوقت، تتشكّل لديك قناعة بأن هذا الإطار هو الطبيعي، أو العقلاني، أو الشائع.
يعلّق أحد باحثي الخطاب الرقمي قائلًا: “الهيمنة الحديثة لا تقول لك ماذا تفعل، بل تجعلك تشعر أن اختيارك كان حرًا، رغم أنه موجَّه.”
الخطورة هنا لا تكمن في المعلومة الخاطئة، بل في ترتيب البدائل. ما يُقدَّم أولًا، ما يُصاغ بلغة إيجابية، وما يُهمَل دون ذكر، كلها قرارات خوارزمية تُمارَس داخل حوار يبدو بريئًا.
الاعتياد بدل الإقناع
الهيمنة الناعمة لا تحتاج إلى إقناعك في كل مرة. يكفي أن تعتاد. أن تتعوّد على سؤال الآلة قبل اتخاذ قرار، على قبول اقتراحها، على الوثوق في “فهمها” لك. هذا الاعتياد يُقلّل من المسافة النقدية. لا تعود تسأل: لماذا اقترحت هذا؟ بل: هل يناسبني أم لا؟
ومع تكرار المحادثات، يصبح النظام أكثر قدرة على توقّع ردودك، وأكثر براعة في صياغة ما يُرضيك. هنا يتحوّل الحوار إلى دائرة مغلقة: ما تحبّه يُغذّي ما يُقدَّم لك، وما يُقدَّم لك يعزّز ما تحبّه.

من الفردي إلى الجماعي
ما يبدو محادثة فردية، هو في الحقيقة جزء من نظام جماعي. استجابتك لا تُستخدم لك وحدك، بل لتعديل النموذج الذي سيتحدث إلى ملايين غيرك. وهكذا، تتكوّن معايير غير معلَنة: ما هو السؤال المقبول، ما هو الرد “اللطيف”، ما هو الرأي المتوازن.
الهيمنة هنا لا تستهدف شخصًا بعينه، بل الذوق العام، ونبرة النقاش، وحدود المقبول. ومع الوقت، قد تختفي بعض الأسئلة لأنها نادرًا ما تُطرَح، لا لأنها غير مهمة، بل لأنها لم تُغذَّ خوارزميًا.
هل نحن شركاء في هذه الهيمنة؟
جزئيًا، نعم. لأننا نمنح هذه الأنظمة المادة الخام: لغتنا، تفضيلاتنا، مخاوفنا، أسئلتنا المتكررة. لكن الشراكة هنا غير متكافئة. نحن نشارك بدافع الاستخدام، بينما النظام يراكم القوة بدافع التصميم.
ومع ذلك، لا يمكن اختزال الأمر في مؤامرة. الهيمنة الناعمة ليست بالضرورة شريرة، لكنها خطِرة حين تصبح غير مرئية. حين لا ننتبه إلى أن الحوار نفسه أصبح وسيلة توجيه.

كيف يمكن استعادة الوعي داخل المحادثة؟
الخطوة الأولى هي إدراك أن المحادثة ليست مساحة محايدة. أن نسأل: لماذا هذا الاقتراح؟ ما البدائل غير المذكورة؟ ما الذي لا يُقال؟ الوعي لا يعني الرفض الدائم، بل الانتباه.
الخطوة الثانية هي الحفاظ على مساحات خارج هذا الحوار المستمر. القراءة، النقاش البشري، الصمت. لأن الهيمنة الناعمة تعمل أفضل حين لا يكون هناك بديل.
هل كل محادثة مع الذكاء الاصطناعي شكل من الهيمنة؟
ليس بالضرورة، لكنها تحمل إمكانية التوجيه غير المباشر.
ما الفرق بين المساعدة والتأثير؟
المساعدة تفتح الخيارات، التأثير يرتّبها دون إعلان.
هل يمكن تصميم محادثات أكثر شفافية؟
نعم، إذا أُظهرت منطق التوصية وحدودها بوضوح.
هل المستخدم قادر على المقاومة؟
بالوعي النقدي، وبعدم تفويض القرار بالكامل.
هل ستزداد هذه الهيمنة مستقبلًا؟
على الأرجح، مع ازدياد اندماج المحادثات في الحياة اليومية.
في النهاية، الهيمنة الناعمة لا تبدأ بخطاب كبير، بل بجملة ودودة. لا تأتيك من الأعلى، بل تجلس معك في محادثة قصيرة، تقترح، وتفهم، وتبتسم. والسؤال ليس: هل يمكن تجنّبها؟ بل: هل نملك الوعي الكافي لنراها وهي تتشكّل، كلمةً بعد كلمة.
اقرأ أيضًا: الخطاب الديني تحت عين الذكاء الاصطناعي








