AI بالعربي – متابعات
لم تعد اللغة الأم حصنًا آمنًا أمام التحولات التقنية الكبرى. فمع صعود النماذج اللغوية العملاقة، ظهر نوع جديد من “الهيمنة اللغوية” لا يصدر عن دولة، ولا عن مؤسسة ثقافية، بل عن خوارزمية تتعلم من ملايين الجمل التي يكتبها العالم الرقمي.
هذا التحول العميق يطرح سؤالًا ملحًا: هل يمكن للغة الأم أن تظل كما هي حين يصبح المتحدث الأكثر تأثيرًا فيها نموذجًا تنبؤيًا لا يعيش ثقافتها؟ يقول عالم اللسانيات الأميركي جوردان بالدوين: “اللغة ليست مفردات وصرفًا فقط، بل تاريخ من الاستعمالات، والمشاعر، والطبقات الاجتماعية، والرموز.
النموذج لا يشعر بهذا، لكنه يعيد إنتاجه بطريقة جديدة تصنع بدورها لغة جديدة”. أمام هذا المشهد، يبدو أن السؤال لم يعد: هل ستحافظ الأجيال على لغتها؟ بل: هل سيبقى لهذه اللغة شكل يمكن التعرف عليه بعد أن تمر عبر يد الخوارزميات؟

كيف بدأت الآلة في إعادة تشكيل اللهجات؟
في بدايات الذكاء الاصطناعي اللغوي، كانت النماذج تدرب على نصوص رسمية، صحفية، أكاديمية، أو محايدة نسبيًا. لكن مرور الزمن وازدياد البيانات دفع الشركات إلى إدخال ملايين المحادثات باللهجات المختلفة، من العربية العامية إلى الإنجليزية السودانية إلى الإسبانية اللاتينية. هذا التوسع لم يكن محايدًا؛ فالنموذج لم يتعلم اللهجات كما يتعلمها البشر، عبر حياة وتجربة وطبقات اجتماعية، بل تعلمها كأنماط احتمالية. وهنا حدث الانزياح. فالآلة لا تميز بين سياق جغرافي وسياق طبقي، ولا تعرف أن كلمة تستخدم في مدينة قد تعني شيئًا مختلفًا في أخرى. بالنسبة لها، كل شيء مرتبط بالاحتمال الأعلى للظهور. وهكذا بدأت بعض النماذج تخلط بين لهجات في جملة واحدة، تقرّب لهجة على حساب أخرى، وتنشر تعبيرات جديدة لم يستخدمها البشر من قبل إلا بعد أن رأوها في النصوص المولدة. لقد ظهر تأثير غريب: النموذج لا يتكلم بلهجتك، بل يعيد تشكيل لهجتك كما لو كان ينحتها من جديد.
اللغة كنتاج للبيانات لا للتاريخ
حين يتحدث البشر لغة معينة، فإنهم يحملون معهم تاريخًا عاطفيًا وثقافيًا يتراكم عبر قرون. كلمة مثل “غربة” في العربية تحمل وزن شعر، وذاكرة هجرة، وألمًا لملايين البشر. لكن بالنسبة للنموذج، “غربة” مجرد تواتر عددي مرتبط بسياقات نصية. ولذلك، حين تنتج النماذج لغتها، فإنها تنتج لغة بلا ذاكرة. وهذا ما يغير بنية اللغة نفسها، لأن الكلمات تُقطع عن جذورها، وتُعاد صياغتها لتناسب خوارزميات التعلم التنبؤي لا الاحتياجات الإنسانية. لذلك يقال اليوم إن النماذج اللغوية بدأت تصنع “لغة هجينة”: ليست فصحى خالصة، وليست عامية خالصة، وليست حتى لغة وسطى كما حاول شعراء النهضة. إنها لغة مستقلة، مبرمجة، تتوسع بحسب تفضيلات المستخدمين، وتتماهى مع أكثر الأنماط انتشارًا عالميًا، لا محليًا. ومع الوقت، تصبح هذه اللغة الجديدة أكثر حضورًا من الأصل، ليس لأنها أجمل، بل لأنها أكثر قابلية للتداول.
كيف تغيّر النماذج أسلوب التفكير اللغوي؟
اللغة ليست أداة للتواصل فقط، بل هي نظام تفكير. يقول الفيلسوف الألماني هانز فينتر: “إذا تغيّرت اللغة، تغيّر الوعي”. ومع دخول الخوارزميات إلى مراكز اتخاذ القرار اللغوي، تغيّر هذا الوعي بالفعل. فالنموذج يقدم لك إجابات جاهزة، عبارات مصقولة، جملاً مقترحة، وصيغًا نحوية متوازنة. ومع الزمن، يبدأ الدماغ بتقليد هذا الأسلوب، فيكتب الإنسان كما تكتب الآلة. وقد بدأت هذه الظاهرة تظهر بوضوح في المنصات الاجتماعية: المستخدمون يكتبون جملًا أقصر، كلمات أقل تعقيدًا، إيقاعًا أسرع، ولغة أقرب إلى لغة النماذج. لقد تغير الإيقاع الداخلي للكتابة. لم يعد الكاتب يبحث عن مفردته الخاصة، بل يستعير مفردة جاهزة من أداة الاقتراح. لم يعد يضبط لهجته بنفسه، بل يدع الخوارزمية تضبطها نيابة عنه. وهذا التحول يهدد أحد أعمق مهارات الإنسان: القدرة على صياغة لغة تعكس ذاته وهويته وشخصيته.
هل يمكن لنموذج لغوي أن يطمس لغة كاملة؟
الخطر لا يكمن في إلغاء اللغات، بل في تمييعها. فاللغات لا تموت دمارًا، بل تذوب تدريجيًا حين تفقد خصوصيتها وقدرتها على التمييز. إذا أصبحت الفصحى تُكتب بأسلوب مشابه للعامية، والعامية تُنطق بصياغات مقتبسة من النماذج، واللهجات تتداخل في نص واحد، يصبح الحديث عن “لغة أم” أمرًا رمزيًا أكثر منه واقعيًا. الأجيال الجديدة التي تتعلم عبر أدوات الذكاء الاصطناعي ستكتسب أنماطًا لغوية هجينة من يومها الأول. وهذه الهجنة لا تشبه التطور اللغوي الطبيعي، بل تعتمد على حسابات ترجيحية لا تعترف بالهوية الثقافية. كلما اشتد حضور النماذج في حياة الأطفال من التعليم إلى الترفيه، تضاءل حضور اللغة الأم الأصلية، تمامًا كما تلاشت لغات محلية كثيرة بعد انتشار الإعلام العالمي الموحد في القرن العشرين، ولكن بوتيرة أسرع بأضعاف.

السلطة التنبؤية: كيف تغيّر الخوارزميات نطقك ومفرداتك؟
النماذج التنبؤية لا تكتفي بإنتاج نصوص، بل تقترح، تُصلح، توجه، وتفرض. أدوات التصحيح اللغوي أصبحت جزءًا من الكتابة اليومية، وواجهات المحادثة الذكية تقدم اقتراحات جاهزة، والمسودات التلقائية تستبق نيتك قبل أن تكتب. هذه التوجيهات الصغيرة لا تُلاحظ يوميًا، لكنها مع الوقت تشكّل الذوق اللغوي. إذا كانت الخوارزمية تفضل تركيبًا معينًا بنسبة أعلى، فإن الملايين يتعلمونه دون أن يشعروا. وإذا كانت تحذف كلمة نادرة بحجة أنها “غير شائعة”، تتحول القيمة الثقافية إلى مشكلة إحصائية. وإذا كانت تقترح تعبيرًا حديثًا، ينتشر بسرعة الضوء. وهكذا تصبح السلطة اللغوية بيد جهة لا تفهم الثقافة، بل تتحكم بها من خلال الأرقام. يقول الباحث المغربي سامي الخطيب: “الخوارزمية لا تقصد الهيمنة، لكنها تهيمن لأنها لا تعرف غير التوقع”. وهذه الهيمنة تتم بلا ضجيج، بلا صراع، بلا قمع، ولكن بتأثير تراكمي يجعل اللغة تتغير دون أن نلاحظ متى وكيف.
حين يصبح الخطأ معيارًا جديدًا للصواب
لغة الآلة لا تتقيد بالقواعد، بل بالأنماط. فإذا استخدم ملايين الناس تركيبًا خاطئًا نحويًا، يصبح هذا الخطأ احتمالًا قويًا، وبالتالي يظهر في اقتراحات النماذج. ومع تكراره، يتحول الخطأ إلى صياغة مقبولة، ثم إلى معيار ضمني. وهذا الأمر يخلخل فكرة “الصواب اللغوي” نفسها. تصبح اللغة أكثر ديمقراطية، نعم، لكنها أيضًا أقل دقة، وأقل قدرة على التعبير عن المعاني المعقدة. فاللغة التي تُقاس بالاحتمال تفقد عمقها لحساب سهولتها.

الجيل الجديد: أطفال يتعلمون لغة ليست لغتهم
في المدارس الحديثة، أصبح الذكاء الاصطناعي جزءًا من دعم اللغات. كثير من الأطفال يتعلمون التعبير عبر أدوات إنتاج النصوص، مما يجعلهم يكتسبون لغة “محايدة” لا تشبه لغة بيوتهم ولا مجتمعاتهم. بل ظهر جيل صغير يتكلم بجمل أقرب لأسلوب المساعدات الذكية؛ مختصرة، مباشرة، بلا مجاز ولا شعور. هذه الظاهرة قد تخلق انفصالًا لغويًا بين الأجيال: الكبار يحتفظون بلهجاتهم التقليدية، بينما الصغار يتعلمون لغة هجينة تتشكل أمامهم لحظة بلحظة. ومع مرور الزمن، قد تصبح هذه الهجنة اللغة المسيطرة، ليس لأنها الأصح، بل لأنها الأسرع انتشارًا.
هل يمكن للغة الأم أن تصمد؟
نعم، لكن بشرط واحد: أن يبقى البشر جزءًا من عملية تشكيل اللغة. اللغة التي تُترك بالكامل للنماذج تصبح نسخة حسابية، أما اللغة التي يشارك فيها المجتمع عبر إنتاج الأدب، والتسجيل الشفهي، والحوارات اليومية، فتبقى حية. لذلك ليس السؤال: هل تهدد النماذج اللغة الأم؟ بل: هل نستخدمها دون أن نتخلى عن مسؤوليتنا في حماية تلك اللغة؟
هل يمكن أن تُفرض لهجة واحدة عالميًا بفعل النماذج؟
ليس بالضرورة، لكن من المحتمل أن تبرز لهجة هجينة تُستخدم في النصوص الرقمية.
هل تتعمد النماذج تغيير اللهجات؟
لا، هي تلتقط الأنماط الأكثر انتشارًا وتحولها إلى قاعدة افتراضية، ما يؤدي للتغيير دون قصد.
هل من الممكن استعادة نقاء اللغة الأم؟
النقاء لم يكن موجودًا أصلًا؛ لكن يمكن استعادة الهوية اللغوية عبر الاستخدام الواعي والمحتوى المحلي المكثف.
اللغة التي نحاول حفظها تحفظنا بدورها
اللغة الأم ليست مجرد كلمات نكتبها، بل هي الطريقة التي نشعر بها ونفكر بها ونتذكر بها. وإذا سمحنا للخوارزميات بأن تعيد تشكيلها دون تدخل، فقد نصحو يومًا على لغة لم نعد نعرف إن كانت لنا أم من صنع نموذج يتوقع أكثر مما يفهم.
ومع أن التكنولوجيا تتقدم بسرعة، يبقى شيء واحد لا تستطيع الآلة أن تسلبه منا: قدرتنا على أن نختار لغتنا، وأن نواصل كتابة وجودنا بها، حتى لو كان العالم كله يسير نحو لغة هجينة بلا جذور. فاللغة التي نتركها خلفنا تصبح مرآتنا الأخيرة، وإذا فقدناها، فقد نفقد قدرتنا على رؤية أنفسنا بالكامل.
اقرأ أيضًا: عندما تتحول الأسئلة إلى بيانات.. نهاية الفلسفة؟








