AI بالعربي – متابعات
في زمنٍ تتقاطع فيه التكنولوجيا مع الوعي الجمعي، أصبح من الصعب تمييز من يُشكّل آراءنا فعلاً: هل نحن الذين نختار، أم أن هناك خوارزمية تختار لنا؟
لم يعد الذكاء الاصطناعي مجرّد أداة تحليل أو دعم للحملات السياسية، بل أصبح طرفًا فاعلًا في إعادة تشكيل القناعات دون وعيٍ مباشر من الإنسان.
فاليوم، كل منشور تراه، وكل مقطع توصَى بمشاهدته، وكل خبر يظهر في مقدمة صفحتك، هو نتاج معادلة غير مرئية، صُمّمت لتؤثر على اختياراتك دون أن تُشعرك بذلك.

من الدعاية التقليدية إلى البرمجة العاطفية
في الماضي، كانت الدعاية تعتمد على الصورة والشعار والخطاب. أما الآن، فهي تعتمد على البيانات الدقيقة والمحفزات اللاواعية.
تعرف المنصات الذكية متى تغضب، ومتى تتفاعل، ومتى تميل نحو الرفض أو القبول.
إنها لا تُخاطب عقلك الواعي، بل تتحدث مباشرةً إلى جهازك العصبي، عبر توقيت الإشعارات، ونغمة العناوين، وحتى ألوان الواجهات.
يقول الباحث الأميركي “تيم وو”: “لم تعد الدعاية تحاول إقناعك، بل تحاول أن تجعلك تشعر بشيء محدد، في لحظة محددة.”
هذا هو جوهر التحكم اللاواعي في السلوك السياسي — إحداث انفعالٍ صغير كافٍ لتغيير الموقف دون نقاش فكري أو حوار داخلي.
الذكاء الاصطناعي كمُهندس للميل السياسي
منصات التواصل الاجتماعي، عبر خوارزميات الذكاء الاصطناعي، أصبحت تعرف أنماط تفكيرنا بدقة مخيفة.
يمكنها التنبؤ بميولك السياسية من خلال بضعة إعجابات أو مشاركات، وتستنتج توجهاتك الاجتماعية والاقتصادية حتى من نوع الموسيقى التي تفضّلها.
في عام 2024، كشفت دراسة لجامعة أكسفورد أن نماذج التوصية الذكية “تزيد من حدة الاستقطاب بنسبة 23%” خلال الحملات الانتخابية الكبرى.
فالخوارزمية لا تبحث عن الحقيقة، بل عن الاستمرار في جذب انتباهك، وأفضل وسيلة لذلك هي تغذيتك بالمحتوى الذي يُثيرك عاطفيًا.
وهكذا يتحول كل نقاش سياسي إلى فخٍّ انفعالي، تُديره خوارزميات مدرَّبة على معرفة “زر الغضب” داخلنا.

اللاوعي السياسي كمساحة نفوذ جديدة
في كتابه “العقل الرقمي”، يرى المفكر الإسباني “إغناسيو راموس” أن الذكاء الاصطناعي لا يؤثر في الرأي العام فقط، بل يعيد تشكيل البنية العصبية للانتباه الجماعي.
فالمستخدم اليوم لا يعيش في فضاء حر من المعلومات، بل في “بيئة إدراكية مصمَّمة” تتحكم في جرعة الغضب والتعاطف التي تصله كل يوم.
عندما تُظهِر المنصات خبرًا معينًا أكثر من غيره، فهي لا تنشره لأنه الأهم، بل لأنه الأنسب لتغذية نمطك النفسي.
إنها هندسة مزاج عام تُدار من داخل الخوارزميات، لا من مكاتب التحرير.
وهنا يتسلّل الذكاء الاصطناعي إلى اللاوعي السياسي، حيث لا تعمل الحجج ولا المنطق، بل تعمل العاطفة والتكرار والارتباط.
إنه يزرع الموقف في جذور الشعور، لا في ساحة النقاش.
من الإقناع إلى الإيحاء
الذكاء الاصطناعي السياسي لا يحتاج إلى أن يُقنعك. يكفي أن يجعلك تظن أنك قررت بنفسك.
وهذا ما يميّزه عن الدعاية الكلاسيكية.
فمن خلال المحتوى المخصص (Personalized Content) يُقدَّم لك الخبر بطريقة تتوافق مع خلفيتك ومزاجك وسلوكك.
النتيجة: تتشكّل لديك قناعة منسجمة مع ذاتك، لكنها صُنعت خصيصًا لتناسبك.
تقول الباحثة “كاسيدي روبينز” من جامعة ستانفورد: “الخطر في التخصيص المفرط أنه يجعل الإقناع غير مرئي، فيتحول من خطاب إلى إحساس.”
أي أن الرأي السياسي يصبح نتيجة شعور مستقرّ لا ندرك مصدره، وكأننا نحمل موقفًا لا نعرف من أين جاء.

الخوارزميات كقوة أيديولوجية
قد يُقال إن هذه مجرد تقنيات تسويقية. لكن الحقيقة أن الذكاء الاصطناعي أصبح أيديولوجيا في ذاته.
فهو لا ينقل المعلومة فحسب، بل يُحدّد ترتيبها وأهميتها ولغتها ونبرتها.
أي أنه يُعيد صياغة الواقع السياسي من منظورٍ تقني.
حين تُقرر الخوارزمية أن خبرًا معينًا يجب أن يُدفع للأمام، فهي تمارس “سلطة تحريرية” تفوق سلطة أي صحافي.
وهكذا، ينتقل مركز القوة من العقل السياسي الواعي إلى النظام الحسابي الذي يتحكم في تدفق المعلومات.
لم تعد السلطة في من يملك وسائل الإعلام، بل في من يملك خوارزمية التصنيف.
بين الحرية والراحة الإدراكية
يظن البعض أن الخطر في الذكاء الاصطناعي هو في “التلاعب” المتعمد، لكن الخطر الأعمق هو في الراحة التي يمنحها.
فالمنصات تُسهّل علينا التفكير، تختار لنا المحتوى “المناسب”، وتُجنبنا الإرهاق المعرفي، فنشعر بالراحة.
ومع الوقت، نُفوّض لها مهمة تكوين الرأي، لأنها أسرع وأكثر دقة ظاهريًا.
تقول الكاتبة “شوشانا زوبوف” في كتابها “رأسمالية المراقبة”:
“حين ترتاح العقول، تشتغل الخوارزميات بحرية.”
وهكذا، يصبح اللاوعي السياسي مساحةً مفتوحة لتشكيل الاتجاهات دون مقاومة فكرية تُذكر.
محركات المشاعر لا محركات بحث
إذا كانت محركات البحث القديمة تبحث عن المعلومات، فإن محركات الذكاء الاصطناعي تبحث عن الاستجابة العاطفية.
هي تقيس “التأثير” لا “الصدق”، وتضبط محتواها وفق معدل التفاعل لا وفق القيمة.
وهنا يتحوّل النقاش السياسي إلى اقتصاد انتباه، حيث تُباع القناعات وتُشترى بعدد النقرات.
لم يعد السؤال: هل ما قرأته صحيح؟
بل: هل شعرت بشيء كافٍ لتشارك؟
وهكذا تُبنى الاتجاهات السياسية على موجات من المشاعر السريعة، بينما يظل العقل التحليلي في الخلف، يشاهد بصمت.
هل يمكن استعادة الإرادة السياسية؟
السؤال الذي يفرض نفسه اليوم: كيف نُفكك هذا التأثير اللاواعي؟
الإجابة لا تكمن في إيقاف التكنولوجيا، بل في استعادة الوعي بآلياتها.
أن نفهم كيف تُصمَّم خوارزميات التوصية، وكيف تُختار الكلمات والصور، وكيف تتحكم التفاعلات في شكل النقاش العام.
إن “المقاومة السياسية” في عصر الذكاء الاصطناعي تبدأ من التفكير النقدي في بنية المنصة نفسها، لا في محتواها فقط.
فما لم نفعل، سيبقى وعينا الجمعي يُدار من خلف الشاشة، عبر خوارزميات تعرف متى نغضب ومتى نسكت.
ما بعد الإنسان السياسي
ربما يقودنا المستقبل إلى نموذج جديد من السياسة، حيث تُدار المواقف وفق أنماط بيانات جماعية، لا قرارات فردية.
وحين يحدث ذلك، سيغدو اللاوعي السياسي الذكي جزءًا من النظام الاجتماعي نفسه — آلية تنظيم جماعية تُوجّه الشعوب دون أن تشعر.
وحينها لن يكون السؤال: “من يحكم؟”
بل: “من يبرمج من يحكم؟”
إن الذكاء الاصطناعي لا يفرض سلطته بالقوة، بل بالانسجام.
يقنعنا لا لأننا نصدّقه، بل لأننا نشعر أنه يشبهنا.
وهنا تكمن خطورته الأكبر — أن ينجح في جعل الإقناع يبدو طبيعيًا، فيتسلل من اللاوعي ليصوغ السياسة كلها من جديد.
اقرأ أيضًا: سيرة ذاتية مولّدة.. هل تعرف فعلًا من أنت؟








