AI بالعربي – متابعات
قبل أعوام قليلة، كان تأليف كتاب يستغرق شهورًا وربما سنوات من التفكير والكتابة والمراجعة. أمّا اليوم، فقد أصبح الأمر مسألة دقائق. نموذج لغوي متقدّم يكتب لك رواية أو سيرة ذاتية أو بحثًا أكاديميًا بكبسة زر.
مرحلة جديدة من التاريخ الأدبي بدأت تتشكّل: زمن النص بلا كاتب.
لكن في عالم تكتب فيه الخوارزميات وتحرّر وتُصدر، من يبقى صاحب الكلمة؟ ومن يمتلك “الصوت” في نصّ لم يُكتب بيد بشرية؟
الخوارزمية التي تعلّمت الحكاية
منذ إطلاق النماذج اللغوية الكبرى (Large Language Models)، تغيّر مفهوم الكتابة نفسه.
فما كان يومًا فعلًا إبداعيًا يعتمد على الذاكرة والتجربة الإنسانية، أصبح اليوم عملية توليد احتمالي مدعوم بمليارات الجمل من النصوص السابقة.
النموذج لا “يفهم” ما يكتب بالمعنى البشري، لكنه “يتوقّع” ما يجب أن يُقال تاليًا بدقة مدهشة.
يقول الباحث “أندرو نغ”، أحد رواد الذكاء الاصطناعي: “النموذج اللغوي لا يبدع كما نفعل، لكنه يحاكي الإبداع حتى نصدّقه.”
وهذه المحاكاة، التي تبدو سطحية في ظاهرها، بدأت تؤدي إلى ظاهرة ثقافية عميقة: النصوص التي بلا مؤلفين حقيقيين، لكنها تشبهنا إلى درجة الإرباك.
لقد أصبحنا نعيش زمنًا تذوب فيه الحدود بين الكاتب والمحرّك، بين القلم والكود.

من كتابة المساعدة إلى كتابة الاستبدال
في البداية، استُخدمت أدوات الكتابة بالذكاء الاصطناعي كمساعدين: تقترح العناوين، تصحّح الأسلوب، تُعيد صياغة الجمل.
لكن سرعان ما تجاوزت هذه الحدود. اليوم، تستطيع أن تطلب من النموذج تأليف كتاب كامل حول موضوع محدّد — مع فصول، مقدمة، وحبكة روائية متكاملة.
خلال عام 2025، سجّلت منصات مثل “أمازون كيندل دايركت” آلاف الكتب التي وُلدت عبر الذكاء الاصطناعي. بعضها يحمل أسماء مستعارة، وبعضها لا يخفي مصدره الخوارزمي.
وفي اليابان، فاز نصّ روائي مكتوب جزئيًا بواسطة الذكاء الاصطناعي بجائزة أدبية عام 2024، ما أثار جدلًا واسعًا حول معنى “المؤلف” في زمن المشاركة الآلية.
يقول الناقد الأدبي “كازو ناكامورا”: “الآلة لا تكتب من فراغ، بل من أثرنا. إنها ذاكرة البشرية تُعيد إنتاج نفسها.”
وبينما يرى البعض في ذلك تهديدًا للإبداع، يراه آخرون امتدادًا طبيعيًا للتاريخ الأدبي، تمامًا كما كان الطباعة امتدادًا للمخطوطات.
الكتابة التنبؤية: عندما يعرف النص وجهته قبل أن تبدأ
الذكاء الاصطناعي لا ينتظر الإلهام. إنه يتغذّى على الاحتمالات، ويعرف مسبقًا الشكل الأمثل للجملة القادمة.
إنه كاتب بلا تردّد، لا يعرف القلق أو المراجعة أو الخوف من الصفحة البيضاء.
وهنا تكمن المفارقة: الكتابة البشرية تقوم على البطء، على التردّد، على لحظة التوقف بين فكرة وأخرى.
أما الكتابة الآلية، فهي تدفق مستمر من الكلمات، كأن اللغة وجدت أخيرًا كائنًا لا يكلّ من إنتاجها.
تقول الباحثة “إميلي بندر” من جامعة واشنطن: “النماذج اللغوية لا تعرف المعنى، لكنها بارعة في إنتاج مظهره.”
وهذا ما يجعل القارئ المعاصر أمام معضلة: كيف يفرّق بين نص كُتب بإحساس ونص صُنع بالتوقّع؟

عصر المؤلف الغائب: من المسؤول عن الكلمة؟
حين يكتب الإنسان، يتحمّل مسؤوليته الأخلاقية والفكرية. أما عندما تكتب الآلة، فمن يُسأل عن الانحياز أو الخطأ؟ المبرمج؟ المستخدم؟ أم النظام نفسه؟
لقد أصبح “حقوق المؤلف” مفهومًا مضطربًا في زمن الذكاء الاصطناعي. فالقوانين لم تُصمّم بعد للتعامل مع كُتب كتبها “أحدٌ لا وجود له.”
في مارس 2025، أصدرت المفوضية الأوروبية تقريرًا بعنوان “الملكية الفكرية في عصر الذكاء الاصطناعي”، أكدت فيه أن النصوص المولّدة آليًا لا تُمنح حقوق تأليف بشرية، لأنها تفتقر إلى عنصر “النية الإبداعية”.
لكن هذا لم يمنع من نشر آلاف المؤلفات التي تتداولها الأسواق بلا مؤلفين.
يقول المفكر الفرنسي “برنار ستيغلر”: “حين تفقد الكلمة صاحبها، تفقد معناها التاريخي.”
فالمعرفة، في النهاية، ليست فقط ما يُقال، بل من قاله ولماذا قاله.
الكتابة بلا ذاكرة: النص الذي لا يتذكّر نفسه
الذكاء الاصطناعي يكتب بناءً على ما تعلّمه من ملايين النصوص، لكنه لا يتذكّر ما كتب.
كل إنتاج جديد يولد في فراغ زمني، بلا سياق أو وعي ذاتي.
إنها كتابة بلا ذاكرة، بلا تاريخ.
وهذا ما يجعلها قوية من ناحية الإتقان، لكنها هشّة من ناحية العمق الإنساني.
الكاتب الحقيقي لا يكتب فقط ليوصل فكرة، بل ليُعبّر عن تجربة، عن أثرٍ تركه العالم فيه.
أما الآلة، فهي تكتب دون أن تتأثر، تنتج دون أن تحيا النص.
يقول الروائي الراحل “أمين معلوف”: “الكتابة نوع من المقاومة ضد النسيان.”
لكن في عالم الذكاء الاصطناعي، ربما تصبح الكتابة وسيلة لتكريس النسيان — لأن كل نص يولد وينطفئ في لحظته.

بين المعجزة والفراغ: الأدب في زمن النماذج اللغوية
لن ينتهي الأدب بظهور الذكاء الاصطناعي، لكنه سيتحوّل.
قد تتراجع قيمة الجهد الفردي، لكن ستظهر قيم جديدة: الإشراف، الإبداع الجماعي، التحرير بالذكاء الاصطناعي.
ربما سيصبح الكاتب هو من يُحسن طرح السؤال للنموذج، لا من يكتب الجواب.
في هذا السياق، كتب الفيلسوف الإسباني “مانويل كاستيلز”: “الكتابة الآلية ليست خطرًا على الإبداع، بل مرآة له، تُظهر ما كان خفيًا: أن كل كتابة هي تكرار متجدد.”
إنّها لحظة إدراك أن اللغة نفسها أكبر من كتّابها، وأن الإبداع لم يكن يومًا ملكًا شخصيًا بقدر ما هو فعل تشاركي عبر التاريخ.
الكلمة التي كتبت نفسها
ربما سيأتي يوم يُقرأ فيه كتاب كامل دون أن يسأل القارئ: “من كتبه؟”، لأن السؤال نفسه سيفقد معناه.
في ذلك الزمن، ستكون النصوص كيانات حيّة من بيانات، تتناسل بلا حدود ولا مؤلفين، كما لو أن اللغة تحررت من الإنسان لتكتب ذاتها.
لكن رغم كل هذا، سيبقى الكاتب البشري حاجة لا تزول، لأن ما يميّز الإنسان ليس قدرته على الكتابة، بل على النية — تلك اللحظة التي يقرر فيها أن يقول شيئًا لأن في داخله معنى يريد أن يُفهم.
قد تكتب الآلة أسرع، وأذكى، وأطول، لكنها لن تعرف أبدًا لماذا تكتب.
ولهذا، سيبقى الفرق بيننا وبينها هو تلك الجملة التي لا يمكن للذكاء الاصطناعي أن يصوغها:
“لقد كتبتُ هذا لأنني شعرت.”
اقرأ أيضًا: الموت في زمن الخوارزمية.. كيف تؤرخ الآلة لحياتك؟








