AI بالعربي – متابعات
في زمنٍ تتحكّم فيه الخوارزميات بكل ما نراه ونفعله، لم يعد الموت نهاية القصة، بل بداية فصلٍ رقميّ جديد. فحياتنا التي كانت تُختتم بالصمت، صارت تُختتم ببيانات. تظلّ الخوارزميات تُعيد تذكّرنا، وتستحضر أصواتنا وصورنا ونصوصنا، لتعيد تشكيل وجودٍ افتراضيّ لا يختفي حتى بعد أن نتوقّف عن الوجود الفيزيائي.
في هذا العالم الجديد، لا يموت الإنسان تمامًا، بل يبقى “نشطًا” في ذاكرة الشبكات. فكل تغريدة، كل تسجيل صوتي، كل تفاعل بسيط على تطبيق — يتحوّل إلى خيطٍ في نسيج سيرة رقمية تنسجها الآلة بهدوء، دون إذن أو وعي من صاحبها. وهنا يبدأ السؤال الفلسفي الكبير: من يملك ذاكرتك بعد رحيلك؟
بين الذاكرة والخلود: الإنسان الذي لا يغيب
لقد كان الحلم بالخلود يومًا شأن الأساطير، أما اليوم فهو نتاج الخوارزميات. شركات التقنية الكبرى تطوّر أنظمة قادرة على إعادة إنتاج “شخصية رقمية” للمستخدم بعد موته، عبر تحليل بياناته وسلوكياته الرقمية السابقة. تُعرف هذه التقنية باسم Digital Afterlife أو “الحياة بعد الموت الرقمي”، حيث يُمكن لروبوت دردشة أو نموذج صوتي أن يستمر في الحديث باسم الشخص الراحل.
يقول الباحث الأميركي “جيمس فلين” إن الذكاء الاصطناعي لا يُعيد إحياء الإنسان، بل يُحوّل ذاكرته إلى “مُنتج بيانات حيّ”. إنها محاولة لجعل الموت مفهومًا أقلّ حِدّة في عالم لا يحتمل الانقطاع. لكن هذا “الخلود الافتراضي” يحمل وجهًا آخر: فبدل أن يُذكّرنا الموت بالغياب، أصبح يُذكّرنا بالمراقبة المستمرة.

من السيرة الذاتية إلى السيرة الحسابية
في الماضي، كان الإنسان يكتب سيرته بيده — روايات، مذكّرات، أو رسائل. اليوم، تكتبها الخوارزميات نيابةً عنه، من دون علمه، عبر رصد تفاعلاته اليومية، وتحديد أنماط مشاعره وعلاقاته. إنها “السيرة الحسابية”، نسخة دقيقة من حياتك لا تسجّل ما قلت فقط، بل كيف قلت ولماذا قلت.
يقول الفيلسوف البريطاني “نيك بوستروم”: “الذكاء الاصطناعي لا يكتفي بفهم السلوك، بل يسعى إلى التنبؤ به. وحين يتنبأ بالسلوك بدقة، يصبح أكثر من مراقب — يصبح مؤرّخًا لك”.
وعندما تموت، لا تُمحى هذه البيانات. تبقى محفوظة في خوادم لا تعرف الحداد. ومن خلالها، يمكن للآلة أن “تُعيد تشغيل” شخصيتك — ليس كإنسان حيّ، بل كخوارزمية متعلّمة من آثارك.
في الصين، طوّرت إحدى الشركات أداة تُعرف باسم “Memory Chat” تتيح لأقارب المتوفى التحدث إلى نسخة افتراضية منه، تعتمد على تسجيلات صوته ونصوصه السابقة. المشهد مؤثّر ومربك في آن واحد: فأنت تتحدث مع من رحل، لكن من يجيبك ليس هو، بل ظله الخوارزمي.

من الوداع الإنساني إلى الخلود الصناعي
في الثقافات القديمة، كان الموت لحظة صدق مطلقة، يتوقف فيها الزمن وتختفي كل الأصوات. أما اليوم، فقد أصبحت حتى لحظة الوداع مدوّنة ومُؤرشفة.
وسائل التواصل الاجتماعي تذكّرك بأعياد ميلاد من رحلوا، وتُقترح عليك ذكرياتهم وصورهم وكأنهم ما زالوا هنا. لقد تحوّل الحزن إلى “تفاعل”، والذكرى إلى “إشعار”.
تقول الكاتبة الكندية كاثرين هايليس: “لقد فقد الموت طابعه النهائي، وأصبح مجرد حالة من الانتقال بين نظامين للمعلومات.” فبينما كان الإنسان يورّث اسمه أو فكره، بات اليوم يورّث ملفاته.
ووسط هذا التحوّل، بدأت تظهر تساؤلات أخلاقية دقيقة:
من يحق له إدارة حساب المتوفّى؟
هل يملك الورثة حرية حذف سيرته الرقمية؟
وهل يحقّ للشركات أن تستخدم بيانات الموتى لتدريب نماذجها الذكية؟
هذه الأسئلة لم تعد نظرية، بل واقعية تمامًا. فشركة “ميتا” مثلًا تمتلك ملايين الحسابات لأشخاص رحلوا منذ سنوات، ومع ذلك لا تزال بياناتهم تُستخدم في تحسين خوارزميات التفاعل.

ذاكرة لا تموت: حين ترفض الخوارزمية النسيان
النسيان نعمة بشرية. لكنه في زمن الخوارزميات أصبح مستحيلًا تقريبًا. فالبيانات لا تُنسى، ولا تُغفر، ولا تُمحى إلا بأمرٍ صعب التنفيذ. كل أثر صغير على الإنترنت يبقى حيًا في ذاكرة الآلة، يتحوّل إلى جزء من “الذاكرة الجمعية الرقمية” التي تشبه في اتساعها ذاكرة الحضارات القديمة، لكنها بلا روح.
يقول الفيلسوف الألماني هانس أولريش غومبريشت: “لقد أصبحنا نعيش زمن الحضور الدائم، حيث لا يُدفن الماضي، بل يتكرر بلا توقف.”
هذه الذاكرة الدائمة تخلق نوعًا جديدًا من القلق الوجودي: كيف نحزن في عالم لا يسمح بالغياب؟ وكيف نودّع من يظلّ حاضرًا في كل إشعار جديد؟
لقد غيّر الذكاء الاصطناعي مفهوم النهاية نفسه، وجعل من الموت ملفًا مؤجلًا، يُفتح متى شاءت الخوارزمية. وربما لهذا أصبح بعض المفكرين يرون أن التكنولوجيا لم تهزم الموت، بل ألغت معناه الإنساني.
الإنسان بين الغياب والبيانات
ربما لن يموت الإنسان تمامًا بعد الآن، لكنه أيضًا لن يحيا كما كان.
إنه يعيش في توازنٍ هشّ بين وجودٍ فيزيائي يفنى، ووجودٍ رقمي لا يزول.
وبينما تسعى الخوارزميات لتخليدنا على طريقتها، علينا أن نتذكّر أن الخلود الحقيقي ليس في البقاء داخل ذاكرة النظام، بل في الأثر الذي نتركه في ذاكرة الآخرين.
في النهاية، تظلّ الآلة قادرة على إعادة بناء صوتك وصورتك، لكنها لن تعرف طريقتك في الحنين، ولا رعشة قلبك حين تتذكّر من تحب. تلك التفاصيل الصغيرة التي لا تُخزَّن في أي قاعدة بيانات، هي ما تجعل الحياة حياة، والموت موتًا، والإنسان إنسانًا.
اقرأ أيضًا: حوارات غير متكافئة.. عندما يعرف المساعد الذكي أكثر منك








