الذكاء الاصطناعي
أحمد مصطفى
هناك فورة مبالغة فيما يتعلق بتطبيق “تشات جي بي تي” تشبه إلى حد كبير تلك التي صاحبت انتقال استخدام العملات المشفرة من “الويب المظلم” أو عمليات الإنترنت السوداء إلى الإنترنت العادي.
وكانت بيتكوين، العملة المسفرة الرئيسية، مقصورة لدى تطويرها على معاملات المجرمين ومنتهكي القانون من عصابات جريمة منظمة وتجارى مخدرات ودعارة كي يصعب تعقب تعاملاتهم، وتحول البيتكوين إلى أموال رسمية بعد ذلك.
ثم أصبحت المشفرات، وهي ليست عملة مضمونة من بنك مركزي أو مستندة لاقتصاد ولا تخضع لأي قواعد أو معايير، أدوات تداول رقمي على هامش أسواق المال تحقق مكاسب وخسائر هائلة للمضاربين عليها. لكن الأهم والأخطر أن عملية “تعدين” تلك المشفرت تستهلك من الكهرباء ما يحتاج إلى توليدها بوقود يزيد من الانبعاثات المسببة للتغير المناخي أكثر من الصناعات الثقيلة أحيانا.
رغم كل الميزات التي يتم الترويج لها في تطبيق الذكاء الاصطناعي الجديد، فهو ليس أمرا غير مسبوق. إذ أن الذكاء الاصطناعي تطور تكنولوجي موجود منذ سنوات، ربما الشائع لدى الناس أنه في الروبوتات التي تستخدم في صناعات كثيرة من السيارات إلى الأدوية. لكنه مكون أساسي في كثير من استخدامات التكنولوجيا، بما فيها محركات البحث على الإنترنت وتحليل البيانات الهائلة وغيرها.
وهناك برامج كمبيوترية كثيرة، من المحاسبة المالية إلى سيناريوهات توقعات الطقس وحركة الأسواق المالية تعتمد على الذكاء الاصطناعي.
ولا يقتصر ذلك على خوارزميات التصنيف والعرض للبيانات والمعلومات فحسب وإنما في استخلاص نتائج منها أيضا.
وبالتالي فالتطبيق الأخير، على أهمية أنه أكثر تطورا، لكنه ليس سوى مجرد تطوير لبرامج كمبيوترية هي ذكاء صناعي بالفعل ابتكرها البشر على مدى العقود الأخيرة. أما الميزة التي أثارت الاهتمام المبالغ فيه فتتعلق بأن البرنامج الكمبيوتري الجديد يمكنه أن “يبدع” نصا متماسكا حسب الطلب مستفيدا من المعلومات والبيانات المتاحة على الإنترنت.
وهكذا فهو يمثل تحديا لبرامج البحث الشهيرة التي يلجأ إليها مستخدمو الإنترنت لاستدعاء معلومات وبيانات لإعداد نصوصهم.
وهكذا يبدو البرنامج وكأنه “يفكر” وينتج “محتوى” بشكل مبدع يريد مسوقوه أن يقولوا إنه يقوم بذلك بشكل أفضل من العقل البشري – لذا التركيز على مسألة “الذكاء” الصناعي.
لكن مرة أخرى، ليس الأمر أكثر من برنامج كمبيوتري أكثر تطورا يسهل على البشر تجميع المعلومات والبيانات في نصوص كالتي ينتجها البشر. وبالتالي كانت هالة “التسويق” تلك كما يحدث أحيانا مع الحديث عن “روبوت” ذكي يمكنه أن يفكر ويتصرف ربما أفضل من البشر.
ليس القصد التقليل من أهمية البرنامج، الذي ابتكر مطوروه بالفعل برنامجا مضادا للكشف عن مدى “أصالة” إنتاجه. بالضبط كما يحدث مع كل تطور في برمجيات القرصنة أن تنتج شركات الحماية برامج كمبيوترية مضادة لحماية الأجهزة والمعلومات المخزنة عليها. وذلك نهج تسويقي معروف منذ الأزل، فعندما يتشبع السوق بسلعة ما يقوم المنتجون بابتكار سلع جديدة للحفاظ على النشاط الاقتصادي من تصنيع وبيع وتجارة. وفي هذا السياق يكون الابتكار والتطوير في تسهيل حياة الناس.
ولمن يتابع أخبار الاقتصاد، نلاحظ تراجعا كبيرا في عائدات شركات التكنولوجيا العالمية الكبرى سواء من عدم نمو أعداد المشتركين إلى انخفاض كبير في الاعلانات الرقمية. وبالطبع هنا تأتي الحاجة لابتكار منتجات جديدة تزيد أعداد الزبائن وتستعيد المفقود من الإعلانات الرقمية تعظيما للعائدات والأرباح.
صحيح أن كل تطور تكنولوجي هو أمر محمود وتقدم على طريق جعل حياة البشر أسهل، لكن كي ينصرفوا إلى نشاطات أخرى في سياق إعمار الأرض ومواجهة تقلبات الطبيعة. وليس بدواعي الكسل الذهني والعضلي حتى نتحول إلى حيوانات زاحفة.
ففي النهاية، كل هذه الابتكارات التكنولوجية هي من صنع البشر. ومهما كانت عبقرية من طوروها فهم قادرون أيضا على تحويلها من شيء مفيد إلى سلاح مدمر، ويظل العقل البشري الذي يبتكر قادرا على نقض الابتكار بابتكار آخر.
قد يتجاوز تطبيق تشات جي بي تي محركات البحث التقليدية الكبرى مثل غوغل وغيرها، لكن هذا لن يعني اختفاء غوغل وأمثاله. ولا يعني وصول “الذكاء الاصطناعي” إلى مرحلة متقدمة أنه يمكن أن يتجاوز العقل البشري الذي ابتكره. نعم، تلك مادة خصبة لأفلام وقصص الخيال العلمي التي تروج لاستيلاء الروبوتات الذكية على البشرية وأن يجعل الذكاء الصناعي الإنسان غير ذي معنى على الأرض. لكن ذلك إلى حد كبير “كلام سيما” كما يقول عامة الناس.
ولنضرب مثالا مبتسرا، يبدو أقرب لما يصفه البعض بأنه “تفكير رجعي متخلف”، وهو أن كل تلك المبتكرات في مجال الذكاء الاصطناعي تعمل بأجهزة تستهلك الكهرباء. فماذا لو انقطع التيار الكهربائي، وحين عودته أو استبداله بمولدات وبطاريات حدث أن هذا البرنامج أو ذاك لم يشتغل بالطريقة الصحيحة. تصور مثلا أن روبوتا يشتغل بالذكاء الصناعي يجري عملية جراحية وفجأة حدث glitch أو كما نقول “الكمبيوتر أو الهاتف الذكي هنج”؟ يمكن ببساطة أن يقطع الروبوت أجزاء من الجسم ويلقي بها في الحوض رغم أنها سليمة.
ليس هذا من قبيل الشطط، أو معاداة التطور التكنولوجي أو الخوف على مهن بشرية أن تستولي عليها الروبوتات والذكاء الاصطناعي.
ولكنها احتمالات منطقية جدا، لذا تجد في المجالات الاستراتيجية الحساسة التي تعتمد على التكنولوجيا المتطورة خيار “العودة للتشغيل اليدوي” مع إجراءات تأمين وسلامة تضمن ألا تحدث كوارث في الثواني الفاصلة بين وقف التشغيل بالذكاء الاصطناعي واللجوء للاستخدام اليدوي.
التطبيق الجديد مهم وجيد، لكنه ليس بالقدر الذي تصوره حملات التسويق التي تشبه بائع الأدوية المنزلية زمان الذي كان ينادي “شربة الحاج محمود” التي تشفي من كل الأمراض.