الذكاء الاصطناعي بين الرعب والحب
يتجدد الحديث عن موضوع الذكاء الاصطناعي وآثاره في البشرية، هل هو أمر مفيد أم مرعب؟ هل سيقضي على الوظائف؟ هل سيشكل نقطة تدهور جديدة للأخلاقيات؟ هل سيتحول البشر إلى عناصر قليلة الحيلة في عالم تتحكم فيه الآلات؟ الجديد في الأمر أن الحديث اليوم لا يقتصر على فكرة أو مفهوم نظري قابل للتطبيق، وإنما حل وخدمة متاحة بدأ الناس فعليا استخدامها، بشكل يومي وحيوي ومباشر، إمكانات هذه الخدمة تصنع مثالا وتجسيدا واضحا لما يمكن أن يصبح أمرا سائدا، أو قد نقول أصبح بالفعل أمرا سائدا.
عصف بمواقع التواصل الاجتماعي الأسبوع الماضي، خصوصا المجتمعات التقنية، التدشين التجريبي لخدمة Chatgpt، وهي نسخة مطورة من خوارزمية “جي بي تي 3” التي تقوم على صناعة المحتوى النصي بعد تحليل ملايين النصوص والمصادر واستجماعها بطريقة ذكية تخدم غرضا محددا، تقوم بتطويرها شركة “أوبين أيه آي”.
تعمل الأداة الجديدة chatgpt بأسلوب الدردشة، حيث يتفاعل المستفيد من الخدمة وكأنه يتحدث مع شخص حقيقي، ويستطيع السؤال والطلب بطريقة مباشرة. بعضهم ينظر إليه وكأنه نسخة محدثة من محرك البحث جوجل لكن ذكية جدا. وبعضهم يتعامل معه كخادم مطيع وذكي مجرد من المشاعر والتحيزات. تعتمد الخدمة على جودة المحتوى على شبكة الإنترنت، لكن يعيد إخراجه بعناية ترفع من قيمة المخرج.
على الأرجح لن يتمكن هذا الروبوت الافتراضي من صنع معلومات غير موجودة ولا يتحرج معتذرا عن الإجابة إذا اضطر، لكنه استثنائي في ربط المعلومات ببعضها، وفي صياغة الإجابات بطريقة واضحة ومتسقة ومنطقية، ويجيد التعمق في بعض المجالات وبدرجة مخيفة.
تتميز هذه الخدمة في إعادة تفعيل حلول الإجابات المفتوحة وإعادة صنع المحتوى، ويراها البعض علامة فارقة في تاريخ تطبيقات الذكاء الاصطناعي اللغوية قد تجعل من 2022 نقطة تحول واضحة في مقدرة وانتشار هذه التطبيقات الذكية. وخدمة الدردشة هذه ليست المثال الوحيد، فهناك عدد من الشركات المنبثقة من شركات الإنترنت الضخمة وغيرها من الشركات الناشئة التي جمعت الملايين وتتخصص في هذا المجال. كان إيلون ماسك من المؤسسين لشركة أوبين أيه آي، وتقوم اليوم “مايكروسوفت” بدعمها بشكل مباشر تقنيا.
سأسرد مجموعة من أمثلة الاستخدامات الحقيقية التي ذكرها المغردون في تويتر خلال الأيام الماضية وقاموا بتجربتها بشكل عملي وناجح: المساعدة على كتابة نص مسرحي مكتمل الأركان. الإجابة عن مسألة لغوية رياضية معقدة بطريقة مثالية تلخص وتؤكد فهم السؤال وتشرح الخطوات العملية وتسرد الحل بطريقة لغوية واضحة. صياغة العقود والاتفاقيات والبنود المطلوبة في سياق قانوني معين “عقد عمل، عقد إيجار، إلخ”. تطوير مستند أو نموذج لغوي محدد الاستخدام ومواءمته مع غرض محدد “مثلا، وصف وظيفي لمدير مالي في شركة تجزئة، أو إرشادات السلامة في مركز غوص بحري”. كتابة كود برمجي يحل مشكلة يتم شرحها بشكل بسيط وبلغة عادية. المشاركة في نقاش علمي تتابعي يسرد الحقائق ويبينها بشكل متسلسل ومنطقي. الشرح الواضح والمبسط لمسألة فنية معقدة. تلخيص الأسلوب الأمثل لمعالجة تحدي إداري استراتيجي في خطوات قابلة للتطبيق.. والقائمة تطول.
بالطبع هناك من حاول التذاكي على البرنامج وإثبات قصوره في بعض الجوانب أو حاجته إلى التطوير أو تمريره لبعض التحيزات الموجودة على المحتوى الخاص بشبكة الإنترنت، لكن هذا لا يقلل – في نظري – من التغيير الجذري الذي يحدث اليوم، خصوصا من زاوية نشر هذا النوع من الممارسات وتعميمها بهذا الشكل. وعلى الرغم من أن السؤال الأهم الذي يتداوله المشاركون: هل سيأخذ هذا التطبيق وظائفنا؟ إلا أن مسألة التحكم في الذكاء الاصطناعي والسيطرة عليه أكبر من مسألة الوظائف فقط. هناك جوانب كثيرة مثل مخاطر إساءة الاستخدام، ربما في الأبحاث النووية أو الفيروسية، وصعوبة ضبط عملية التطوير المتسارعة، وتحديات الأطر الأخلاقية التي تعجز عن استيعاب ما يحصل.
ما يحدث اليوم وصل بالإثارة إلى حد كبير، جعله يكسب عديدا من المعجبين المتحمسين للاستفادة من مزايا هذا التطور، وجعله يرصد المحذرين الذين لا يترددون في تجسيد مخاوفهم، ولا نعلم إن كان الأمر سيتحول قريبا إلى حب وإعجاب أو رعب وخوف.