على مدى ما لا يقل عن عقد من الزمان، اهتم علماء الآثار بتطبيق تقنيات جديدة لفهم ماضينا بشكل أفضل، وكان التصوير المجهري للإشعاع السنكروتروني بمنزلة معيار ذهبي للوصول إلى الأجزاء الداخلية للبقايا الأثرية دون تدميرها.

والتصوير المجهري للإشعاع السنكروتروني هو تقنية ناجحة جدًّا في فحص الحفريات، نظرًا إلى أن الحفريات تتنوع على نطاق واسع في الحفاظ على حجمها وشكلها وكثافتها، وتتميز بأنها تقنية مسح غير مدمرة، وتتيح للباحثين تصور البنية الدقيقة للعظام بشكل ثلاثي الأبعاد، بالإضافة إلى فحص كمية الأنسجة العظمية في كل عينة، وتعتمد على مسح الحفريات باستخدام الإشعاع السنكروتروني، وهو إشعاع كهرومغناطيسي ينشأ عند تعجيل (أو تسريع) الجسيمات المشحونة إلى سرعات قريبة من سرعة الضوء، وتكون تحت تأثير مجال مغناطيسي شديد.

لكن تلك العملية طويلة ومعقدة وتحتاج إلى أسابيع من الجهد البشري الكبير، وخاصةً بالنسبة للعينات البيولوجية مثل مومياوات الحيوانات التي تتطلب إجراء عمليات تقسيم يدوي للصور الملتقطة.

ومن هنا تأتي أهمية الدور الذي يؤديه الذكاء الاصطناعي في تقليل ذلك الجهد بشكل كبير وتقليل الوقت المتوقع للانتهاء من عمليات تقسيم الصور وتجزئتها إلى بضع ساعات تبعًا لحجم الصورة وتعقيدها، وفق دراسة نشرتها دورية “بلوس ون” (PLOS ONE)، وأجراها فريق بحثي فرنسي-مالطي مشترك؛ بهدف تطوير آلية لتقسيم الصور الخاصة بالحفريات باستخدام التعلم الآلي.

يقول جوهان بريفا -الأستاذ المشارك بقسم الاتصال والحاسب والهندسة بجامعة مالطا، والباحث الرئيسي في الدراسة- في تصريحات لـ”للعلم”: البرنامج التي طورناه متاح للاستخدام مجانًا، ويعتمد على التعلم الآلي لبناء نموذج للمواد التي يتم تقسيمها يدويًّا؛ إذ يتم استخدام هذا النموذج لتقسيم الصورة بأكملها وتجزئتها، فعلى سبيل المثال، يقوم مرفق الإشعاع السنكروتروني الأوروبي حاليًّا بتوليد كميات هائلة من بيانات الأعضاء البشرية تصل إلى 2 تيرابايت (وحدة قياس لسعة التخزين في الكمبيوتر) للفحص الواحد، ويمكن لأساليب الذكاء الاصطناعي فقط تجزئة هذه البيانات وتقسيمها، ففي لغة الكمبيوتر، تُعد تجزئة الصورة خطوةً مهمة في توفير المدخلات لفهم الصورة، عن طريق تقسيم الصورة إلى مناطق ذات معنى.

يضيف “بريفا”: تم خلال الدراسة تطبيق هذه التقنية على دراسات أثرية خاصة ببقايا حيوانات محنطة تعود إلى العصرين البطلمي والروماني في مصر القديمة (حوالي القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الرابع الميلادي)، مما يسهل على علماء الآثار العمل على فحص هذه الصور.

وأوضح “بريفا” أن العينات التي حصل عليها الباحثون من مقتنيات “متحف التاريخ الطبيعي” بمدينة جرونوبل الفرنسية و”متحف جرونوبل” بفرنسا، مضيفًا: مثل العديد من مومياوات الحيوانات الأخرى المحفوظة في المتاحف، لا نعرف سوى القليل جدًّا عن أصول هذه المومياوات التاريخية والأثرية الدقيقة.

ويتابع: أجرينا عمليات تشريح افتراضية، ما ساعدنا في الحصول على معلومات حول حياة الحيوانات وموتها في الحضارات الماضية، وقد حققت التقنية المستخدمة لفحص مجموعة من أربع عينات من مومياوات الحيوانات المصرية القديمة، دقةً إجماليةً تبلغ ما بين 94 إلى 98% عند مقارنتها بالشرائح التي تم تقسيمها يدويًّا، وزادت نسبة الدقة إلى ما بين 97 إلى 99% عند استخدام التعلم العميق (أحد أشكال الذكاء الاصطناعي، مستمد من التعلم الآلي)، مما يؤكد أهمية استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي للحصول على نتائج دقيقة.

لكن الدراسة كشفت –في المقابل- أن هذه التقنية الجديدة فيها بعض العيوب؛ إذ إنها مناسبة فقط لتقسيم وتجزئة العناصر ذات التبايُن العالي أو الحواف المحددة جيدًا، فعلى سبيل المثال، لم تميز هذه الطريقة بين الأنسجة الرخوة والعظام والأسنان داخل المومياء بعد عملية تصوير البيانات الدقيقة وإعادة البناء، ما يستوجب مزيدًا من الدراسة، وفق “بريفا”.