أميركا والصين.. مواجهة متعددة الجبهات في سباق الذكاء الاصطناعي
AI بالعربي – متابعات
تتجه النقاشات في واشنطن حول الذكاء الاصطناعي بصورة متزايدة إلى كيفية فوز الولايات المتحدة بسباق الذكاء الاصطناعي ضد الصين، وكانت إحدى أولى إجراءات الرئيس دونالد ترمب عند عودته لمنصبه هي التوقيع على أمر تنفيذي يعلن الحاجة إلى “الحفاظ على هيمنة أميركا العالمية في مجال الذكاء الاصطناعي وتعزيزها”، وفي “قمة باريس” حول الذكاء الاصطناعي في فبراير (شباط) الماضي، شدد نائب الرئيس جي دي فانس على التزام الإدارة بضمان أن “تظل تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي الأميركية هي المعيار الذهبي عالمياً”، وفي مايو (أيار) الماضي أشار المسؤول عن ملف الذكاء الاصطناعي والعملات الرقمية في إدارة ترمب، ديفيد ساكس، إلى ضرورة “الفوز في سباق الذكاء الاصطناعي” لتبرير تصدير رقائق الذكاء الاصطناعي المتقدمة إلى الإمارات والسعودية.
ونظراً لإمكانات الذكاء الاصطناعي في تحويل قوة وازدهار الدول خلال العقود المقبلة فإن الفوز في هذا السباق أفضل من خسارته، لكن تحديد من يتصدر يعتمد على كيفية تعريف الفوز، وأحد التعريفات الشائعة هو أن تكون الدولة الأولى التي تصل إلى مستوى “الذكاء الاصطناعي العام” (اختصاراً “إي جي أي”) AGI وهو نموذج ذكاء اصطناعي ذكي بقدر أو أكثر من أفضل الخبراء البشريين في مجموعة واسعة من المهمات الإدراكية، إذ يمكن أن يفتح الذكاء الاصطناعي العام الباب أمام اختراقات غير مسبوقة في مجالات العلوم والتكنولوجيا والإنتاجية الاقتصادية، وقد تجني الدولة التي تطوره أولاً فوائد غير متناسبة.
لكن السباق نحو الذكاء الاصطناعي العام ليس السباق الحاسم الوحيد في هذا المجال، ويجب على الجيوش وأجهزة الاستخبارات الاستفادة من الإمكانات التحويلية للذكاء الاصطناعي والتخفيف من آثاره المزعزعة، وبالمثل يمكن للدول أن تكتسب ميزة تنافسية إذا تمكنت من تبني الذكاء الاصطناعي على نطاق واسع في الاقتصاد والمجتمع، كما تتنافس الحكومات على إنشاء وامتلاك المعايير وسلاسل التوريد والبنية التحتية التي ستدعم النظام التكنولوجي العالمي، ويجب على الجميع تجنب سباق نحو القاع في مجال أمان الذكاء الاصطناعي من خلال العمل، أحياناً بصورة مشتركة، لإدارة الأخطار الأمنية الناتجة من إساءة استخدام الذكاء الاصطناعي أو خروجه عن السيطرة.
وعند أخذ هذه السباقات الإضافية في الاعتبار تبدو وضعية الولايات المتحدة غير مستقرة، فعلى رغم أن الشركات الأميركية لا تزال تحتفظ بتقدم مهم، وإن كان يتقلص، في طليعة أبحاث وتطوير الذكاء الاصطناعي، لكن واشنطن قد تخسر في سباقات أخرى، إذ تمتلك الصين مزايا كبيرة ولا يبدو أن أياً من القوتين العظميين متحمسة للتعاون لتجنب الكارثة، ونظراً إلى الإمكانات الهائلة للذكاء الاصطناعي في تغيير العالم فإن الأخطار جسيمة، فالخسارة قد تعني تبعية اقتصادية وضعفاً عسكرياً وتراجعاً في القيادة العالمية للولايات المتحدة، ولا يزال بالإمكان تجنب هذا المستقبل القاتم، لكن على الولايات المتحدة أن تحشد إستراتيجية ذكاء اصطناعي متماسكة توازن بين الابتكار والتكامل وتخفيف الأخطار، لتحويل ديناميكيتها التكنولوجية الهائلة إلى ميزة إستراتيجية دائمة.
سباق الابتكار
يشكل سباق “الذكاء الاصطناعي العام” المنافسة الأكثر بروزاً وراهنية في سباقات تلك التكنولوجيا، وبدعم من حكوماتها يستعر السباق على الابتكار بين شركات مثل “أوبن إيه آي” و”أنثروبيك” Anthropic و” غوغل ديب مايند” Google DeepMind في أميركا، و”ديب سيك” الصين، ولا أحد يعرف على وجه الدقة كيف ستتطور هذه التكنولوجيا، فقد تكون النماذج اللغوية الضخمة أولى بوادر ظهور الذكاء الاصطناعي العام، أو قد يظهر الذكاء الحقيقي فجأة عندما تتجاوز النماذج عتبة معينة، وفي كلتا الحالين يمتلك الذكاء الاصطناعي العام القدرة الكافية لتحويل مصادر القوة الوطنية والتنافسية، مما يجعل من مصلحة القوتين الرائدتين في الذكاء الاصطناعي تأمين ميزة السبق.
وحاضراً تملك المختبرات الأميركية تفوقاً ملموساً تسانده ضوابط تصدير أشباه الموصلات، يكفل استمرار الولايات المتحدة في التفوق على الصين في الحوسبة الرقمية ولكنه تفوق هش، إذ استطاعت الصين المحافظة على المركز الثاني بمسافة غير بعيدة، بالاستناد إلى الابتكار المحلي والتحايل على ضوابط تصدير أشباه الموصلات وسرقة الملكية الفكرية، وتعمل الشركات الصينية للذكاء الاصطناعي، مثل “ديب سيك”، على تطوير تقنيات تقترب من نظيراتها الأميركية بما لا يزيد على بضعة أشهر، وقد تساعد مقاربة بكين المستندة إلى المركزية في تقوية وتعزيز ابتكارات القطاع الخاص والتمرس بها أيضاً، بأسرع مما تستطيعه واشنطن.
السباق لتحقيق “الذكاء الاصطناعي العام” ليس المنافسة الوحيدة في مضمار الذكاء الاصطناعي
في المقابل يعزز النظام الأميركي المفتوح الابتكار لكنه بطبيعته عرضة للتجسس ولانتشار التقدمات الخوارزمية بسرعة، وقد تؤدي الاختراقات في تصميم الخوارزميات أو ظهور نماذج بديلة لتطوير الذكاء الاصطناعي إلى تقليص أهمية هيمنة أميركا على أشباه الموصلات، كما أن انتشار هذه الابتكارات قد يمكن مختبرات الذكاء الاصطناعي الصينية من تجاوز نظيراتها الأميركية.
وإضافة إلى ذلك فإن إدارة ترمب، مدفوعة بأولويات سياسية أخرى، تتراجع عن الاستثمار في البحث والتطوير الأساس في مجال الذكاء الاصطناعي، وتثني المواهب الأجنبية عن العمل في أميركا، مما قد يعوق جهود الذكاء الاصطناعي الأميركية خلال الأعوام المقبلة، وعلاوة على ذلك يستجيب القطاع الخاص الأميركي لدوافع تجارية قد لا تتماشى دائماً مع الأولويات الوطنية، فعلى سبيل المثال قد تغرى شركات الذكاء الاصطناعي ببناء قدراتها الحوسبية حيثما تتوفر البنية التحتية للطاقة، سواء داخل أميركا أو خارجها، وقد أثبتت البيئات التنظيمية المواتية والموارد الوفيرة في الشرق الأوسط جاذبيتها بالفعل، وسيبنى أول مجمع لمراكز بيانات ذكاء اصطناعي بقدرة خمسة غيغاوات في الإمارات وليس في أميركا، وذلك نتيجة قرار إدارة ترمب الأخيرة بتصدير مئات الآلاف من شرائح الذكاء الاصطناعي المتقدمة إلى أبوظبي.
صحيح أن واشنطن تستفيد من هذا الترتيب، إذ من المقرر أن تدير شركات أميركية مثل “أوبن إي أي” و”مايكروسوفت” معظم سعة هذه المراكز، لكن نقل البنية التحتية الحيوية إلى الخارج، حيث قد تكون معايير الأمان أضعف، قد يفتح الباب أمام الصين ومنافسين آخرين للحصول على موارد حوسبة متقدمة ونماذج ذكاء اصطناعي، وحتى لو تمكنت أميركا من الحفاظ على صدارتها في سباق الابتكار فقد لا يكون ذلك كافياً، وتشير الاتجاهات السوقية الحالية إلى أن نماذج الذكاء الاصطناعي المتقدمة أصبحت متاحة على نطاق واسع وغير مميزة بما يكفي لمنح أي طرف تفوقاً تقنياً واضحاً، وإذا استمر هذا الاتجاه عند ظهور الذكاء الاصطناعي العام فإن النصر سيعتمد على القدرة الفعالة على تبني الذكاء الاصطناعي، ولا يوجد ما يضمن أن أميركا ستكون في الصدارة.
ضمان التفوق
في مجال الأمن القومي يتطلب اعتماد الذكاء الاصطناعي بصورة فعالة فهم القدرات التي يتيحها (والتهديدات التي يفرضها) الذكاء الاصطناعي المتقدم، ودمجه في الهياكل القائمة بطريقة تضمن تفوقاً عسكرياً حاسماً، ويعِد دمج الذكاء الاصطناعي بتحسين معالجة المعلومات الاستخباراتية وتسريع اتخاذ القرارات المبنية على البيانات وتحسين اللوجستيات وتوزيع الموارد وتمكين أنظمة ذاتية متطورة، وربما حتى تطوير “سلاح خارق”، مثل سلاح إلكتروني يمكنه شل البنية التحتية الحيوية للعدو ونظام القيادة والسيطرة، أو استخدامه دفاعياً لجعل الدولة منيعة ضد الهجمات السيبرانية، وتحتاج الحكومة الأميركية والقطاع الخاص إلى التعاون لتحقيق تكامل الذكاء الاصطناعي، لكن التعاون الحالي لا يزال محدوداً بصورة مقلقة، إذ تفتقر وكالات الأمن القومي إلى الوصول الباكر إلى أحدث نماذج الذكاء الاصطناعي، وهو ما من شأنه تسريع دمج هذه التقنيات في عملياتها، ولا تزال الشراكات بين المختبرات الرائدة في الذكاء الاصطناعي والـ “بنتاغون” وغيرها من وكالات الأمن القومي في مراحلها الأولى، كما تعوق دورات الشراء الطويلة والثقافات التشغيلية المقاومة للتغيير ونقص البنية التحتية والبيانات وسوء الفهم حول قدرات الذكاء الاصطناعي، سواء من خلال التقليل أو المبالغة في تقدير إمكانياته، قدرة الحكومة على الاستفادة الكاملة من الابتكارات المقبلة من وادي السيليكون، وعلى رغم الاعتراف الواسع بهذه المشكلات فإن معالجتها أثبتت صعوبتها.
في المقابل يسهل النظام السلطوي في الصين عملية الدمج بين المدني والعسكري مما يمنحها ميزة هيكلية في تبني الذكاء الاصطناعي، وتضمن الأوامر الحكومية تحويل التقدم التكنولوجي بسرعة إلى قدرات عسكرية واستخباراتية، وقد تبنى “جيش التحرير الشعبي” الذكاء الاصطناعي بنشاط ويسعى إلى الحصول على إسهامات من القطاعين التجاري والأكاديمي، ومن خلال مسابقات الذكاء الاصطناعي ومنصات الشراء العامة المصممة لتحويل الأبحاث المدنية إلى تطبيقات عسكرية، يخطط الجيش لتطوير قدرات “الحرب الخوارزمية” و”الحرب الشبكية” بحلول عام 2030، ولا يقتصر الأمر على استخدام الخوارزميات في أنظمة الأسلحة بل يشمل الانتقال إلى نوع جديد من الحروب يعتمد فيه التفوق العسكري على سرعة وتعقيد وموثوقية تلك الخوارزميات.
البقاء في طليعة الابتكار ضروري لكنه غير كاف للفوز في سباق الأمن القومي، وقد تحقق الولايات المتحدة اختراقات علمية وتكنولوجية متتالية لكنها قد تفشل في إدراك اللحظة التي يفتح فيها الذكاء الاصطناعي مساراً تكنولوجياً جديداً نحو قدرة عسكرية أو استخباراتية ثورية، وغالباً ما تجعل الهياكل البيروقراطية في واشنطن، المصممة للتحسينات التدريجية، من الصعب تخيل الإمكانات غير المتوقعة للتقنيات الناشئة، وفي المقابل قد يتمكن نظام اتخاذ القرار المركزي في بكين من تحديد واستغلال هذا المسار التحويلي بسرعة أكبر، مما قد يترك الولايات المتحدة متفوقة تكنولوجياً ولكن متأخرة إستراتيجياً.
أهمية عملية التكامل
سيتعين على الفائز في سباق الذكاء الاصطناعي أيضا دمج الذكاء الاصطناعي في الاقتصاد الوطني لضمان إتاحته على نطاق واسع وانتشاره في قطاعات التعليم والطاقة والمال والصحة واللوجستيات والتصنيع، وترفد الولايات المتحدة حاضراً بمزايا متفوقة وبارزة تأتيها من شركات التكنولوجيا الأميركية التي تتولى صنع التطبيقات الذكية المخصصة للمستهلك والأعمال، وبنية تحتية رقمية ضخمة ومنظومة متوثبة من رؤوس الأموال الاستثمارية تمول الابتكار، ومستوى مرتفع نسبياً من محو الأمية الرقمية، وعلى رغم ذلك فإن نجاح الولايات المتحدة ليس مكفولاً، وإذا أخفقت الأطراف الفاعلة داخل كل مستويات الشركات والحكومة في خلق الدوافع الصحيحة لإدماج الذكاء الاصطناعي وإرساء ثقة شعبية كافية فيه، فلربما عانى القطاع الخاص في عملية تبني الذكاء الاصطناعي بسرعة تكفي للاستثمار في المنافع المتأتية من زيادة الإنتاجية وتكوين قيم مضافة جديدة، ويضاف إلى ذلك خطر ألا يكتفي الذكاء الاصطناعي بتعزيز اليد العاملة البشرية بل يتحول إلى بديل عنها، وقبل فترة وجيزة حذّر المدير التنفيذي لشركة “أنثروبيك”، داريو أمودي، من أن الذكاء الاصطناعي قد يفضي إلى بطالة تلامس الـ 20 في المئة داخل الولايات المتحدة خلال الأعوام الخمسة المقبلة، ومن شأن تحقق ذلك الاحتمال إحداث زعزعة عميقة داخل الاقتصاد والمجتمع الأميركيين معاً.
وفي المقابل قد تكون الصين على وشك تحقيق أداء مفاجئ في سباق التبني الاقتصادي، إذ يركز قادة الأعمال الصينيون بالفعل على تطبيقات الذكاء الاصطناعي أكثر من تركيزهم على تطوير النماذج ذاتها، فعلى سبيل المثال تسهم النماذج مفتوحة المصدر التي تطورها “ديب سيك” في خفض الكُلف لجميع نماذج الذكاء الاصطناعي الصينية ما يتيح لمزيد من الشركات تجربة هذه التكنولوجيا، وقد يمنح هذا الصين ميزة في ابتكار منتجات تغير قواعد اللعبة، كما أن الحكومة الصينية أقل عرضة للتبعات السياسية الناتجة من استبدال الذكاء الاصطناعي للعمالة، ففي حين تثير أتمتة الوظائف القلق في واشنطن، فقد ترحب بكين بتبني الذكاء الاصطناعي كحل لنقص العمالة الناتج من شيخوخة السكان وتقلصهم السريع.
حتى إذا استطاعت الولايات المتحدة الاحتفاظ بريادتها في الابتكار فإن ذلك قد لا يكفي
وحتى لو تمكنت أميركا من الحفاظ على صدارتها في الابتكار فقد لا يكون ذلك كافياً، وحتى لو تبنت الذكاء الاصطناعي في اقتصادها بالحماسة نفسها التي تبديها الصين، فقد تخسر السباق الشامل إذا كانت الصين في موقع أفضل للاستفادة من التقدمات التصنيعية التي يتيحها الذكاء الاصطناعي، ولا سيما في مجال الروبوتات، إذ تتصدر الصين العالم في تركيب الروبوتات الصناعية، وقد اشترى المصنعون الصينيون نصف الحصة السوقية العالمية عام 2024، كما أن عدد الروبوتات لكل موظف في الصين تجاوز المعدل العالمي بصورة كبيرة، وتزداد الأتمتة القصوى شيوعاً في قطاع التصنيع مع انتشار “المصانع المظلمة” مثل منشأة الهواتف الذكية التابعة لشركة “شايومي” Xiaomi التي تعمل على مدار الساعة دون عمال بشريين، ومع تطور الذكاء الاصطناعي في مجالي الاستدلال المكاني والذكاء المجسد، أي الذكاء الذي يمكن الروبوتات من التفاعل مع بيئتها المادية والتعلم منها، فقد تصبح الروبوتات قادرة على أداء مجموعة أوسع بكثير من المهمات البدنية المعقدة.
وعلى رغم تفوق الشركات الأميركية في البرمجيات والخدمات، وهي مجالات يتوقع أن تحقق مكاسب إنتاجية كبيرة نتيجة تبني الذكاء الاصطناعي، فقد تراجعت أميركا أمام الصين خلال العقود الأخيرة في الصناعات المادية، بما في ذلك التصنيع واللوجستيات والطاقة والبنية التحتية، وبفضل سياستها الصناعية المدفوعة من الدولة وقاعدتها التصنيعية الضخمة، تستطيع الصين نشر الذكاء الاصطناعي على نطاق واسع في هذه القطاعات وقد تطلق مكاسب إنتاجية هائلة تمكنها من تجاوز الاقتصاد الأميركي أخيراً.
ترتيب الأوراق
تتسابق القوى التكنولوجية الدولية على تقديم البنية التحتية الرقمية التي سيستند إليها العالم في تطوير الذكاء الاصطناعي وتبنيه وتوظيفه ونشره واستعماله، وعلى رغم أن السباق يتمحور أساساً بين الولايات المتحدة والصين لكنه يشهد مشاركة الدول التكنولوجية الراسخة الأخرى (على غرار فرنسا واليابان وهولندا وكوريا الجنوبية وتايوان والمملكة المتحدة)، ولاعبين طموحين صاعدين (على غرار البرازيل والهند والسعودية والإمارات)، ويسعى كل مشارك في السباق إلى السيطرة على البيانات والرقاقات الإلكترونية ومراكز البيانات، وكذلك الحال بالنسبة إلى النماذج التأسيسية التي يتطلبها الذكاء الاصطناعي، إضافة إلى ممارسة التأثير في المقاييس والمعايير العالمية في الذكاء الاصطناعي، ووفق صيغة وضعها ساكس المسؤول عن الذكاء الاصطناعي والعملات المشفرة في إدارة ترمب، فإنه “إذا استعمل 80 في المئة من العالم البنية التكنولوجية الأميركية فهذا يعني الفوز، وإذا استخدم 80 في المئة من العالم التكنولوجيا الصينية، فهذا يعني الخسارة”.
وقد منحت ضوابط التصدير الأميركية على أشباه الموصلات الولايات المتحدة تفوقاً مؤثراً، وتحوز الشركات الأميركية القدرة على الوصول إلى الرقاقات التي تحتاج إليها في إرساء قوة الحوسبة، وكذلك يرغب معظم العالم في الرقاقات الأميركية لأنها الأفضل في السوق، وتسعى إدارة ترمب إلى استثمار ذلك التفوق من خلال “إغراق السوق” بالرقائق ومراكز البيانات الأميركية، بدءاً من دول شريكة مثل السعودية والإمارات، والفكرة هي ترسيخ استخدام التكنولوجيا الأميركية في الأماكن التي تشجع فيها قوى السوق على استثمارات ضخمة في البنية التحتية الرقمية.
لكن في الدول ذات الدخل المنخفض وعدد العملاء القليل والبنية التحتية الأساس المحدودة مثل الاتصال بالإنترنت والكهرباء، فإن إستراتيجية واشنطن القائمة على اتباع قوى السوق ستؤدي إلى نقص في الاستثمار، وهذا هو الواقع في مجموعة واسعة من الدول في أفريقيا وأميركا اللاتينية والشرق الأوسط وجنوب آسيا كما جنوب شرقها التي تتجه إلى الذكاء الاصطناعي لتعزيز نموها الاقتصادي.
وتتمتع الصين بموقع يؤهلها للتفوق على الولايات المتحدة في هذه المناطق من خلال تقديم نماذج ذكاء اصطناعي أقل تقدماً ولكن أرخص بكثير، إضافة إلى دعم البنية التحتية المادية والرقمية اللازمة لتشغيلها، وقد لا تكون الصين قادرة حالياً على تصدير رقائق من الطراز الأول، لكن بالنسبة إلى عدد كبير من الدول النامية التي تعطي الأولوية للكلفة وسهولة الوصول على حساب الأداء المتقدم، فإن عروض الصين الكافية قد تكون جذابة للغاية.
والتنازل عن هذه الأسواق الناشئة ينطوي على خطر مستقبلي تفوز فيه الولايات المتحدة بالسباق التكنولوجي في الخطوط الأمامية، لكنها تتخلى عن قيادة منظومة الذكاء الاصطناعي العالمية لمصلحة الصين، وتمتد تبعات ذلك بالنسبة إلى واشنطن إلى ما هو أبعد من فقدان النفوذ الجيوسياسي والفرص التجارية، فغالباً ما تجسد نماذج الذكاء الاصطناعي والبنية التحتية الصينية قيم الاستبداد الرقمي مما يمكن بكين من تصدير آليات الرقابة الحكومية والتأثير في السرديات التاريخية والسياسية خارج حدودها.
وتسهل هذه النماذج عمليات المراقبة من خلال تشغيل أنظمة التعرف إلى الوجه والصوت وتحليل كميات هائلة من البيانات لمتابعة الأفراد ورصد “السلوكيات المشبوهة”، كما تقوم تلقائياً بحجب المحتوى المنتقد للحزب الشيوعي الصيني أو المرتبط بمواضيع حساسة مثل “ميدان تيان أنمين” وتايوان وهونغ كونغ والإيغور أو الزعيم الصيني شي جينبينغ، وتعمل خوارزمياتها أيضاً على تنظيم ونشر الدعاية المؤيدة للصين.
في المقابل تعكس نماذج الذكاء الاصطناعي الأميركية التزاماً أقوى بالقيم الديمقراطية والشفافية وحماية الخصوصية وخيارات المستخدم وأطر حماية البيانات مما يساعد في تقليل فرص إساءة استخدام الحكومات لهذه التقنيات، وتعد خطوة حاسمة لضمان توافق التقنيات التي تشكل الحياة الحديثة حول العالم مع القيم الديمقراطية هي أن تبادر واشنطن إلى تحفيز شركات الذكاء الاصطناعي الأميركية للاستثمار وبناء البنية التحتية في الدول النامية، وقد تؤدي السياسات السيئة إلى تراجع الولايات المتحدة في سباق بناء وإدارة البنية التحتية العالمية للذكاء الاصطناعي، ففرض ضوابط تصدير صارمة للغاية قد ينفر الحلفاء أو يدفع الدول المترددة نحو المنتجات الصينية، وعلى النقيض فإن التراخي في ضبط تصدير رقائق الذكاء الاصطناعي المتقدمة قد يخلق فرصاً غير مقصودة للشركات الصينية للحصول عليها أو الوصول إليها عن بعد، مما قد يسرع وتيرة الابتكار التكنولوجي في الصين، وإذا لم تستطع واشنطن صياغة رؤية مقنعة لحوكمة التكنولوجيا، رؤية توازن بعناية بين الأمن القومي والانفتاح الاقتصادي والقيم الديمقراطية، فقد تتجه الشراكات الدولية المحتملة إلى جهات أخرى، فالصين لا تبيع الذكاء الاصطناعي وحسب بل تقدم مجموعة أدوات شاملة للتحديث السريع بشروط مالية وسياسية جذابة لجزء كبير من العالم، وبالنسبة إلى دولة نامية تتطلع إلى الاستفادة من الذكاء الاصطناعي لتحقيق مكاسب اقتصادية وتحسين الحوكمة فإن العرض الصيني غالباً ما يكون الخيار الأكثر عملية وسهولة.
سباق إلى الهاوية؟
وحتى في ظل تنافس الولايات المتحدة والصين في سباق الذكاء الاصطناعي فلا يمكنهما تجاهل أن الذكاء الاصطناعي العام والنماذج المتقدمة الأخرى تحمل في طياتها تهديدات محتملة، ومن الضروري ألا يسمح أي الطرفين بأن يؤدي التطوير السريع ونشر الذكاء الاصطناعي إلى زيادة احتمال وقوع كارثة، فقد يكون تسليح النماذج من قبل جهة غير حكومية أو دولة مارقة أو تصعيد عسكري غير مقصود ناتج من الذكاء الاصطناعي أو فقدان السيطرة على أنظمة فائقة الذكاء كارثياً بحق، ولمنع مثل هذه النتائج يجب على القوى الكبرى في الذكاء الاصطناعي أن تتجنب التهاون في إجراءات السلامة أثناء سعيها الحثيث إلى التنافس.
ومن بين الأخطار الكارثية الأكثر إلحاحاً على المدى القريب أن تتمكن جهات غير حكومية من الوصول إلى أنظمة ذكاء اصطناعي متقدمة وتشن هجمات سيبرانية واسعة النطاق تدمر الأنظمة المالية، أو تصمم وتطلق مسببات أمراض قاتلة وسريعة الانتشار، ولم تعد هذه الأخطار محصورة في عالم الخيال العلمي، فقد توقعت الشركات الرائدة في تطوير الذكاء الاصطناعي أن تتجاوز نماذجها هذا العام الحدود الداخلية التي وضعتها لقدرات خطرة، تقاس بما يعرف بـ “الرفع”، أي مدى تعزيز النموذج لقدرات جهة خبيثة بصورة كبيرة.
ومن التهديدات التي تقترب بسرعة أيضاً احتمال ظهور ذكاء فائق غير متوافق مع القيم أو النيات البشرية يتبع إجراءات تعرّض رفاه الإنسان للخطر بسبب تصميم معيب أو تعليمات غامضة أو نتائج غير متوقعة، وتظهر الأدلة المتزايدة أن نماذج الذكاء الاصطناعي المتقدمة قد تظهر سلوكاً خادعاً أو تآمرياً مما يجعل هذا الخطر أكثر واقعية.
ولكلّ من واشنطن وبكين مصلحة في منع انتشار القدرات الخطرة للذكاء الاصطناعي وظهور ذكاء اصطناعي عام مارق، وهذا القاسم المشترك يخلق فرصة للتعاون بين القوتين العظميين في الذكاء الاصطناعي، حتى وسط تنافسهما التكنولوجي الشديد لفهم أخطار سوء الاستخدام وعدم التوافق بصورة أفضل، وتحديد وتطوير تدابير فاعلة للتخفيف من هذه الأخطار.
وبالنسبة إلى واشنطن فإن السعي إلى إيجاد طرق للتخفيف من تهديدات الذكاء الاصطناعي، وهو أمر أدركته إدارة ترمب، يعد سياسة رشيدة بغض النظر عما تفعله القوى الأخرى، وحتى لو لم يؤد الذكاء الاصطناعي المارق إلى كارثة عالمية فإن وقوع حادثة كبيرة مرتبط بالذكاء الاصطناعي مصدرها الولايات المتحدة، سواء كانت عرضية أو نتيجة للإهمال، سيقوض الثقة بالتكنولوجيا الأميركية، وإذا بدا أن الولايات المتحدة غير قادرة على إدارة القوة الهائلة للذكاء الاصطناعي فإن قيادتها العالمية وسلطتها الأخلاقية ستكون موضع شك، وقد تستغل الصين هذا الفراغ في النفوذ من خلال تقديم وعود بالاستقرار والسيطرة.
وصفة النجاح
ثمة ترابط وتشابك وثيق في مسارات الصين والولايات المتحدة ضمن مختلف سباقات الذكاء الاصطناعي، فمثلاً سيعزز الفوز في التوصل إلى تطوير “الذكاء الاصطناعي العام” مكانة الدولة الفائزة في مجالات الأمن الوطني والفاعلية الاقتصادية والتأثير التكنولوجي العالمي، كما أن الضغوط التنافسية التي تطلقها سباقات تطوير وتبني الذكاء الاصطناعي تفاقم خطر حدوث نتائج كارثية، إذ تؤدي العجلة والتنافس إلى تقويض معايير الأمان، وهو خطر لا يمكن لأية دولة الإفلات منه، لذا فإن النجاح في سباق الذكاء الاصطناعي يتطلب إستراتيجية تحرز تقدماً على جبهات متعددة في آن مع إدارة الأخطار الأمنية الناجمة عن الذكاء الاصطناعي غير المنضبط.
وكجزء من إستراتيجية شاملة يجب على واشنطن بذل الجهود كلها لتجنب أن تعتبر كأنها أخذت على حين غرة حيال الاختراقات الكبرى المتعلقة بتقدم الذكاء الاصطناعي في “وادي السيليكون” أو الصين أو مراكز الذكاء الاصطناعي الناشئة حول العالم، فالتفاجؤ قد يعني الفشل في التعرف إلى تهديدات جديدة أو تفويت فرص استباق الصين في الاستفادة من التقدم، ولمنع ذلك يجب على الحكومة الأميركية الحفاظ على تواصل وثيق مع قادة الصناعة المحليين ومراقبة الاختراقات التكنولوجية الوشيكة في الخارج عن كثب، ويعد تحويل وزارة التجارة لمعهد سلامة الذكاء الاصطناعي التابع لها إلى “المركز الأميركي لمعايير وابتكار الذكاء الاصطناعي”، مع تركيزه الجديد على التعاون مع القطاع الصناعي في البحث واختبار نماذج الذكاء الاصطناعي المتقدمة، خطوة في الاتجاه الصحيح، كما ينبغي على وزارات وهيئات الأمن القومي أن تظل على اطلاع دائم بأحدث تطورات الذكاء الاصطناعي المتقدم، وأن تستكشف حالات الاستخدام المحتملة، وبالمثل يجب على أجهزة الاستخبارات توسيع نطاق مراقبتها للجهود الأجنبية في الذكاء الاصطناعي مع التركيز بصورة خاصة على تطورات الصين وأهدافها، إضافة إلى القوى الناشئة في مجال الذكاء الاصطناعي في الشرق الأوسط.
وينبغي لإدارة ترمب أيضاً أن تحدد سبلاً لتسهيل تطوير الذكاء الاصطناعي المتقدم، ويجب أن تضمن حصول شركات الذكاء الاصطناعي على الموارد اللازمة لتطوير النماذج ونشرها، بما في ذلك القدرة الحوسبية الهائلة (على صورة أشباه الموصلات) والبيانات عالية الجودة والمهارات العالمية وإمدادات الطاقة الكافية. ومن المهم ألا تؤدي هذه الجهود إلى خلق مشكلات جديدة، فمثلاً لتلبية الطلب المتزايد على الطاقة من دون تفاقم تغير المناخ ينبغي لواشنطن أن تستثمر في مصادر طاقة أنظف مثل الطاقة النووية.
قد يواجه القطاع الخاص صعوبة في تبني الذكاء الاصطناعي بالسرعة الكافية للاستفادة من فوائده
وتستلزم تلك الأمور أن تدافع واشنطن عن تفوق التكنولوجيا الأميركية، وبغية ضمان عدم تمكن الخصوم من الاستنساخ السريع للتطورات في الذكاء الاصطناعي ستحتاج الحكومة الأميركية إلى تعزيز الضوابط الصارمة على التقنيات كأشباه الموصلات المتقدمة ومعدات صناعتها، وتمتين إجراءات الأمن في مختبرات البحوث ومراكز البيانات بهدف منع التجسس عليها ودرء سرقة الملكية الفكرية، وفرض التحقق الصارم من هوية المستخدمين على منصات الحوسبة السحابية حتى لا تتحول إلى أدوات غير مقصودة لتقدم الخصوم التكنولوجي.
وللحفاظ على موقع الولايات المتحدة في طليعة الابتكار مع حماية المصالح الوطنية يجب على الحكومة الأميركية تطوير نموذج شراكة عامة – خاصة قابل للتوسع والتكيف، للتعاون مع الشركات العاملة في مجال الذكاء الاصطناعي المتقدم، وينبغي أن تساعد هذه المبادرات الحكومة في تسريع تبني الذكاء الاصطناعي المتقدم وتعزيز ممارسات الأمن الحكيمة، ويمكن لشركات الذكاء الاصطناعي الأميركية الاستفادة من الوصول إلى معلومات استخباراتية حساسة حول الخصوم الذين يحاولون استهدافها، كما يمكن للقطاعين العام والخاص الاستفادة من تطوير مشترك لتطبيقات الذكاء الاصطناعي التي تعزز الأمن القومي، مثل أدوات الأمن السيبراني والدفاع البيولوجي المتقدمة.
ومع توسع الصين في قدراتها الصناعية باستخدام الذكاء الاصطناعي والروبوتات، يجب على صانعي السياسات في واشنطن توسيع نطاق تبني الذكاء الاصطناعي ليشمل ما هو أبعد من قطاع التكنولوجيا، وينبغي لإدارة ترمب أن تتعاون مع الكونغرس لإطلاق مبادرة مخصصة لـ “الذكاء الاصطناعي” لتسريع البحث والتطوير والاستثمار في الروبوتات وتطبيقات الذكاء الاصطناعي في قطاعات التصنيع واللوجستيات والطاقة والبنية التحتية، ومن خلال الحوافز الضريبية ومنح الابتكار والمشاريع التجريبية المشتركة بين القطاعين العام والخاص يمكن للحكومة أن تشجع المصانع والمخازن ومراكز النقل على دمج الأنظمة المدعومة بالذكاء الاصطناعي، مما يردم الفجوة بين قدرات البرمجيات الأميركية المتقدمة وأرضيات المصانع المتأخرة.
ويجب على صانعي السياسات أيضاً التحرك الآن لمساعدة العمال الذين سيفقدون وظائفهم بسبب الذكاء الاصطناعي في هذه القطاعات الصناعية، ويعني ذلك زيادة كبيرة في الاستثمارات في تعليم العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات (اختصاراً “ستيم”) STEM والتدريب المهني وبرامج إعادة التأهيل والتطوير المهني، وهي خدمات تمكن العمال المتضررين من الأتمتة من الانتقال بسرعة إلى وظائف جديدة، مثل صيانة الروبوتات أو الإشراف على أنظمة الذكاء الاصطناعي.
ولتوفير الوضوح للشركات والحماية للعمال في اقتصاد يتمحور حول الذكاء الاصطناعي يجب تحديث قوانين العمل والتنظيمات ذات الصلة، ومع استخدام الشركات المتزايد للخوارزميات في جدولة نوبات العمل، وعمل مزيد من الموظفين بعقود قصيرة الأجل، ينبغي تحديث قوانين الأجور وساعات العمل لضمان تعويض عادل وشفاف وساعات عمل محددة بوضوح، كما يجب تعديل إرشادات السلامة في أماكن العمل لتشمل معايير التفاعل الآمن بين البشر والروبوتات في أرضيات المصانع، وسيكون تعزيز إعانات البطالة وأنواع الدعم المباشر للدخل للأشخاص المتأثرين بصورة غير متناسبة بالأتمتة أمراً بالغ الأهمية للتخفيف من العواقب المحتملة المزعزعة للاستقرار الناتجة من فقدان الوظائف على نطاق واسع.
على القوى المتنافسة في سباق الذكاء الاصطناعي تجنب تقليص معايير السلامة في خضم التنافس المتسارع
وإذا كانت الولايات المتحدة تسعى إلى قيادة منظومة تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي العالمية فعليها أيضاً أن توفر الذكاء الاصطناعي المتقدم ومراكز البيانات لما هو أبعد من الدول الغنية فقط، ولمنافسة أنظمة الذكاء الاصطناعي الصينية “الجيدة لدرجة كافية” في العالم النامي، ينبغي لإدارة ترمب أن تستكشف شراكات عامة – خاصة لتوفير وصول سخي إلى أنظمة الحوسبة السحابية الأميركية للباحثين ورواد الأعمال في هذه الدول، كما ينبغي توسيع أدوات التمويل المدعومة من الحكومة مثل القروض منخفضة الفائدة وضمانات القروض والاستثمارات في الأسهم وتأمين الأخطار السياسية والحوافز الضريبية، وذلك من خلال وكالات مثل “مؤسسة تمويل التنمية الدولية”، ويجب أن توجه هذه الحوافز نحو بناء البنية التحتية الرقمية في الأسواق الناشئة المهمة مثل البرازيل وغانا والهند وإندونيسيا وكينيا والمكسيك ونيجيريا والفيليبين وفيتنام.
وأخيراً يجب على إدارة ترمب اتخاذ خطوات لتقليل خطر أسوأ السيناريوهات والاستعداد لها في حال وقوعها، وينبغي إجراء تمارين محاكاة للأزمات وسيناريوهات كارثية تتضمن إساءة استخدام الذكاء الاصطناعي أو ظهور ذكاء فائق مارق، ومن شأن هذه التمارين أن تمنح القادة الكبار فرصة لتجريب الاستجابة للأزمات وتحديد الثغرات في الجاهزية وتحسين قدرتهم على اتخاذ القرار تحت الضغط، وأبعد من ذلك ثمة واجب عميق وملزم للولايات المتحدة والصين حيال نفسيهما والعالم، يقضي بتعاونهما معاً لتخفيف أخطار الذكاء الاصطناعي، فعقب أزمة الصواريخ الكوبية عام 1962 عمل الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة على وضع حواجز وقائية حول التنافس النووي، ودخل الطرفان في مفاوضات نجم عنها “اتفاق حظر الانتشار النووي” عام 1970 الذي أقر بأن انفلات السباق النووي قد يوصل الإنسانية إلى حافة الهاوية.
وحاضراً تحتاج واشنطن وبكين إلى خريطة طريق مماثلة تعمل على تضييق المسافة التي تفصل التنافس في الذكاء الاصطناعي عن التعاون في تلك التكنولوجيا، وبالتالي يستطيع الطرفان الشروع في صوغ اتفاق ثنائي عن تشارك المعلومات حول الحوادث في الذكاء الاصطناعي، وتبادل أفضل الممارسات المتعلقة بأمن الذكاء الاصطناعي وضبطه وتوافقه مع القيم الإنسانية، ويفترض بمحادثات تالية مستفيضة أن تركز على كيفية التعامل سيناريوهات سوء استعمال “الذكاء الاصطناعي العام” أو انفلاته من السيطرة.
إن فكرة وجود سباق واحد ومحدد للذكاء الاصطناعي بين الولايات المتحدة والصين لا تعكس التعقيد الحقيقي للمنافسة الجارية اليوم، فالتحدي لا يكمن في الفوز بمسابقة واحدة حاسمة بل في التفوق في منافسة متعددة الجبهات سيحدد مآلها ميزان القوى العالمي، ويتطلب التنقل بين هذه المجالات المتشابكة من التنافس التكنولوجي والإستراتيجي في الذكاء الاصطناعي أن تتبنى واشنطن إستراتيجية شاملة، ومن دونها قد يؤدي النجاح في سباق واحد إلى خلق نقاط ضعف في سباق آخر، كما أن إهمال أي منها قد يضعف موقع الولايات المتحدة العالمي بصورة لا يمكن إصلاحها.