
الهندسة الرقمية.. الذكاء الاصطناعي وإعادة ترتيب موازين القوة
AI بالعربي – متابعات
كارين هاو صحفية أميركية حاصلة على جوائز، متخصصة في تغطية تأثيرات الذكاء الاصطناعي في المجتمعات. تكتب في عدد من المنصات المرموقة، من بينها “ذا أتلانتيك”، وتقود سلسلة “الذكاء الاصطناعي تحت المجهر” التابعة لمركز بوليتزر، وهو برنامج يدرّب آلاف الصحفيين حول العالم على كيفية تغطية قضايا الذكاء الاصطناعي.
يبدو أنّ المشهد العالمي يشهد تغيّرًا في موازين القوّة بواسطة أدوات الذكاء الاصطناعي، حيث تستخدم الشركات الكبرى الخوارزميات والبنى الرقمية لتوسيع سلطتها، وتفرض شروطها عبر احتكار البيانات واستثمار الموارد على نطاق واسع. ونجد أنّ عددًا محدودًا يتحكّم في توجيه هذه التكنولوجيا، ويعيد تعريف مفاهيم السيادة والمصلحة العامة. في هذا السياق، لا تُحدَّد مواقع القوّة بالجغرافيا، بل بمن يمتلك البنية الرقمية.
في كتابها “إمبراطورية الذكاء الاصطناعي: أحلام وكوابيس في شركة سام ألتمان OpenAI”، الصادر في مايو 2025 عن دار “بينغوين برس”، تقدّم الصحفية كارين هاو عرضًا موسّعًا ومفصّلًا لتاريخ وتحوّلات شركة OpenAI، التي تُعدّ واحدة من أبرز الجهات الفاعلة في مجال الذكاء الاصطناعي خلال العقد الأخير. ينتمي هذا العمل إلى حقل الصحافة الاستقصائية، ويعتمد على مصادر داخلية ومعايشة مباشرة لمسار الشركة منذ بدايتها حتى لحظة تحوّلها إلى لاعب مركزي في سباق تقني عالمي شديد التعقيد.
يبدأ الكتاب من نقطة تأسيس هذه الشركة كمؤسسة غير ربحية، ترفع شعار “السلامة أولًا” في تطوير الذكاء الاصطناعي، بقيادة سام ألتمان. هذا الطموح الأخلاقي شكّل في البداية إطارًا لتصوّرات مثالية عن التقنية بوصفها أداة لإنقاذ العالم من المخاطر، لا العكس. لكن المؤلّفة، التي بدأت تغطيتها للشركة عام 2019، ترصد كيف أخذت هذه المؤسسة، شيئًا فشيئًا، تنجرف نحو منطق السوق والربح والتوسّع، مدفوعة برؤوس أموال ضخمة، أبرزها استثمارات مايكروسوفت، وما تفرضه من تسارع وتنافس لا يترك مجالًا للحياد أو التباطؤ.
يُظهر الكتاب البنية الفعلية للصناعة التي باتت تهيمن على جزء كبير من المشهد العالمي. فخلف واجهة البرامج المتقدمة والواجهات اللغوية المبهرة، توجد شبكات هائلة من الموارد البشرية والمادية: مراكز بيانات تستهلك كميات هائلة من الطاقة والمياه، وعمّال في دول الجنوب العالمي يُستخدمون في “تنظيف البيانات” لقاء أجور زهيدة. هذه الحقائق التي تنقلها هاو من تجارب مهندسين في وادي السيليكون، وعمّال بيانات في كينيا، ونشطاء بيئيين في تشيلي، تشكّل مكونات ما تسميه الكاتبة “إمبراطورية جديدة”، لا تستند إلى الاحتلال أو القوّة العسكرية، بل إلى الخوارزميات والسيرفرات والبنى التحتية الرقمية.
لا يُركّز الكتاب على الجانب التقني بقدر ما يحاول تفكيك البُعد السياسي والاجتماعي للذكاء الاصطناعي، فبدلًا من الانشغال بفكرة “الوعي الاصطناعي” أو “التهديد الوجودي”، تدعو هاو القارئ إلى التأمّل في تبِعات الذكاء الاصطناعي على سوق العمل، وعلى البيئة، وعلى التفاوت في توزيع الثروات والمصادر.
يتناول جزء مهم من الكتاب حدثًا دراماتيكيًا هزّ مجتمع التكنولوجيا في 2023: إقالة سام ألتمان المفاجئة من منصبه، ثم عودته السريعة إلى قيادة OpenAI. تقدّم هاو سردًا لما جرى خلف الكواليس، بناءً على مصادر داخل الشركة، وتستعرض كيف يعكس ذلك الحدث طبيعة السلطة داخل الشركات التقنية الكبرى، حيث تتقاطع المصالح التجارية مع الطموحات الشخصية والرؤى المتضاربة حول مستقبل التكنولوجيا.
يشير الكتاب إلى أنّ الذكاء الاصطناعي أداة سياسية بامتياز، تُعاد من خلالها صياغة موازين القوى بين الدول والشركات والمجتمعات، ويُظهر كيف أنّ البُعد السياسي يتمثل في إظهار كيف أنّ امتلاك القدرة على تطوير النماذج اللغوية الضخمة، والتحكّم في البنى التحتية الحاسوبية، وتحليل البيانات الهائلة، أصبح يعادل في أهميّته امتلاك الموارد الطبيعية أو النفوذ العسكري. فالدول التي لا تمتلك شركات قادرة على المنافسة في هذا الميدان تجد نفسها في موقع التبعية، ويزداد اعتمادها على منصات وواجهات أجنبية تُملِي عليها شروطها التقنية والثقافية والاقتصادية.
إلى جانب ذلك، يعرض الكتاب كيف يتم تطويع اللغة الخطابية لشركات الذكاء الاصطناعي الكبرى لتبرير الهيمنة تحت غطاء “الابتكار” و”الصالح العام”، فالشركات التي تقود هذا القطاع تُروّج لخطابات تتحدث عن “حماية البشرية” و”منع التهديدات الوجودية”، لكنها في الوقت ذاته تُمارس ضغوطًا على الجهات التنظيمية، وتسعى إلى احتكار البيانات والنماذج، وتُقاوم أحيانًا الجهود الرامية إلى فرض الشفافية أو المساءلة. وهكذا، تتحوّل المخاوف الأخلاقية إلى أدوات لإعادة تشكيل السياسات العامة بما يخدم مصالح فئة محددة من الفاعلين الاقتصاديين.