السعودية تدخل السباق العالمي لاستثمارات الذكاء الاصطناعي
خالد القصار
ليست جديدة على المملكة العربية السعودية أسبقيتها في مواكبة الحداثة وريادتها الاقتصادية عربيا ودوليا، وذلك بناء على استراتيجيات وخطط يتم تنفيذها بتصميم، ويبذل من أجل تجسيدها كلّ ما يلزم من استثمارات وموارد ومهارات في شتى القطاعات، تحت مظلة أهداف “رؤية 2030” التي انطلقت منذ 2016 ايذانا بالانتقال المتوازن والمسؤول من اقتصاد النفط إلى التنوع الاقتصادي الواسع، نحو إنتاجية أكثر فاعلية واستدامة، تتناسب مع دور المملكة في الشرق الأوسط، وفي الجغرافيا السياسية الدولية.
قبل أن يعصف الذكاء الاصطناعي التوليدي بالعالم، كانت المملكة أقرت في أكتوبر/تشرين الأول 2020، استراتيجيتها الوطنية للبيانات والذكاء الاصطناعي، من بين أهدافها جذب استثمارات محلية وأجنبية بقيمة 20 مليار دولار في حلول عام 2030، وتمكين مؤسسات البيانات الكبرى لتصبح رائدة على المستوى العالمي في أبحاث الذكاء الاصطناعي وتطويره، بما يساهم في تحقيق “رؤية 2030” وربط نحو 66 هدفا من أهدافها الـ96 المباشرة وغير المباشرة بها. كذلك، تعهدت المملكة باستثمار حكومي قيمته 20 مليار دولار لاحتضان 300 شركة ناشئة في حلول عام 2030.
صندوق جديد بـ 40 مليار دولار
وفي إشارة إلى دأب المملكة على إحداث نقلة نوعية على صعيد الذكاء الاصطناعي، وتحقيق تحول أوسع نحو الرقمنة والاقتصاد الرقمي المزدهر، توقع تقرير لشركة “برايس ووترهاوس كوبرز” أن يساهم الذكاء الاصطناعي في نحو 2,4 في المئة في الناتج المحلي الإجمالي للمملكة وبما قيمته 135 مليار دولار في الاقتصاد الوطني، في حلول عام 2030.
صندوق الاستثمارات العامة السعودي و”أندريسن هورويتز” نحو إنشاء صندوق رأس ماله 40 مليار دولار قبل عشرة أيام، كشفت صحيفة “نيويورك تايمز”، عن محادثات جرت لإنشاء صندوق قيمته 40 مليار دولار للاستثمار في الذكاء الاصطناعي، بشراكة محتملة بين صندوق الاستثمارات العامة السعودي، الذي بلغ حجم أصوله أخيرا 940 مليار دولار، و”أندريسن هورويتز”، إحدى كبرى شركات الاستثمار في “وادي السيليكون”، وممولين آخرين، وبالتعاون مع مصارف في “وول ستريت”.
من شأن إتمام هذه الشراكة، دخول السعودية السباق العالمي لتشكيل مستقبل الذكاء الاصطناعي وصناعة الرقائق وأشباه الموصلات. ترسخ هذه الشراكة دور المملكة على الساحة التكنولوجية العالمية، وليس المحلية فقط، لا سيما لجهة ما يتعلق بالأولويات الاستراتيجية لصناعة الذكاء الاصطناعي، التي تستقطب منذ أشهر رؤوس أموال بمئات مليارات الدولارات وتنمو بوتيرة متسارعة، وتشهد منافسة شديدة بين الدول الكبرى، في مقدمها الولايات المتحدة والصين واليابان ودول الاتحاد الأوروبي، إلى حد الصراع والسباق إلى التسلح بهذه التكنولوجيا.
تعكس الاستثمارات المعلنة عالميا في الأشهر الستة المنصرمة فقط، اتجاهات المستقبل لتقييم الشركات وترتيبها في الأسواق، على غرار القفزة التاريخية غير المسبوقة لشركة “إنفيديا” الأميركية، والمنافسة المحتدمة بين عمالقة التكنولوجيا للاستثمار في صناعة الرقائق وأشباه الموصلات تحديدا، على إيقاع التقدم التقني الهائل والمتتالي، مذ دقت شركة “اوبن أي. آي.” النفير العام في نوفمبر/تشرين الثاني 2022.
استثمارات السعودية تقارع أميركا والصين
واذ تشير الـ”نيويورك تايمز” الى أن المملكة تتطلع إلى دعم مجموعة من الشركات الناشئة في مجال الذكاء الاصطناعي، بما في ذلك صانعو الرقائق ومراكز البيانات الضخمة التي تتطلب رؤوس أموال كبيرة، والتي تتزايد أهميتها لتشغيل الجيل المقبل من الحوسبة، فإن هذه المبادرة، ليست الأولى ولا الأخيرة في حجمها وأهميتها وطموحها، لكنها تثبت السعودية بين المستثمرين الدوليين الكبار في تقنيات الذكاء الاصطناعي وصناعاته في العالم، ولا سيما إذا ما قيس حجم استثماراتها بتلك التي ترصدها حكومات الدول الكبرى مثل الولايات المتحدة والصين، مقارنة بمساحاتها وسكانها ونسبتها من الناتج المحلي الإجمالي، ونصيب الفرد منها. تتخطى الاستثمارات السعودية حتى الآن أضعاف الاستثمارات الحكومية للدول الأوروبية الكبرى، التي تعتبر من أهم الجهات الممولة لنهضة الذكاء الاصطناعي على مدى السنوات العشر المنصرمة.
عمليا، تتخطى الاستثمارات السعودية حتى الآن أضعاف الاستثمارات الحكومية لبعض الدول الأوروبية العظمى التي تعتبر من ضمن أهم الجهات الممولة لنهضة الذكاء الاصطناعي على مدى السنوات العشر المنصرمة، مثل المملكة المتحدة وألمانيا وفرنسا وإسبانيا التي لا تتخطى استثماراتها الحالية مجتمعة 10 مليارات دولار، وهي لا تزال في طور تحديث استراتيجياتها وتقييم استثماراتها وقوانينها للسنوات المقبلة. ولا تحتسب هنا الاستثمارات المرتبطة بشركات التكنولوجيا العملاقة مثل “جوجل” و”مايكروسوفت” و”إنتل” و”أمازون” وغيرها، التي لا تقتصر على الولايات المتحدة، بل تتوسع في العديد من الدول، والتي قد يكون للمملكة نصيب وافر منها، ومن ضمنها استهداف شراكة متينة مع “أندريسن هورويتز”، التي تدير أصولا بقيمة 35 مليار دولار، وقد تفتح مكتبا لها في الرياض، وهي دعمت شركات ناجحة من بينها “إير بي. أن. بي.” و”كوينبايس” و”فايسبوك” و”سلاك”، وتضم محفظتها نحو 100 شركة ناشئة رائدة في حقل الذكاء الاصطناعي.
شركة “آلات” رصدت 100 مليار دولار
نما الاقتصاد الرقمي السعودي من 111 مليار دولار في 2021 إلى 123 مليار دولار في 2023، أي بنسبة نمو بلغت 10,3 في المئة، بحسب أرقام هيئة الاتصالات والفضاء والتقنية السعودية. ولا تألو المملكة جهدا لمواكبة التقدم التكنولوجي العالمي، إيمانا منها بقدرة الذكاء الاصطناعي على إحداث ثورة في الصناعات، وتحسين الكفاءة، وجذب استثمارات أجنبية مباشرة، وتعزيز التنافسية، وتحفيز الابتكار، وتوفير فرص عمل جديدة، وتعزيز الخدمات العامة وتحسين جودة الحياة لمواطنيها.
أسست السعودية شركة “آلات”، باستثمار 100 مليار دولار في الصناعات والبنى التحتية الرقمية والأجهزة والخدمات المتطورة الذكية، من الآن حتى حلول عام 2030 فمنذ نحو شهر تقريبا، أعلنت السعودية إطلاق صندوق الاستثمارات العامة، شركة “آلات”، باستثمار 100 مليار دولار في الصناعات والبنى التحتية الرقمية والأجهزة والخدمات المتطورة والذكية من الآن حتى حلول عام 2030، ومن بين أهدافها قطاع الرقائق الإلكترونية، نواة الذكاء الاصطناعي وأدائه الفائق، الذي يشهد فورة كبيرة جدا على المستوى العالمي. وأعلنت شراكة في هذا الإطار مع البنك الياباني “سوفت بنك” الذي أنشأ أخيرا شركة لتصنيع أشباه الموصلات.
تتموضع المملكة إلى جانب “سوفت بنك” كأحد أهم المستثمرين العالميين في التكنولوجيا، بما يتفوق على الجهود المالية لمعظم شركات رأس المال الاستثماري الأميركية. ويشير تقرير لـ”غولدمان ساكس” صدر في أغسطس/آب الماضي الى أن التحول المنتظر والواسع النطاق على الصعيد العالمي، يحتاج إلى أن تقوم الشركات باستثمارات كبيرة في رأس المال المادي والرقمي والبشري لاكتساب تكنولوجيات جديدة وإدخالها وإعادة تشكيل العمليات التجارية. وقدر التقرير حجم هذه الاستثمارات بـ200 مليار دولار في حلول عام 2025، كشرط تحقيق مكاسب كبيرة في الكفاءة والإنتاجية.
تمهد الاستثمارات الوازنة للسعودية الطريق للمرحلة المقبلة، وهي قد توازي قريبا مجموع ما رصده تقرير “غولدمان ساكس”، بما يعنيه ذلك من بيئة متكاملة لهذه الشركات لتطوير أعمالها على أرض المملكة، لا سيما شركات التكنولوجيا الكبرى، التي ستجد في السعودية واحة خصبة للابتكار والنمو، إن في مجال تدريب نماذج الذكاء الاصطناعي وتطويرها، أو توفير البنية التحتية المناسبة كمراكز البيانات والبنية التحتية السحابية وصناعة الرقائق، أو تطوير برمجيات لتشغيل التطبيقات، والأهم توافر أجيال سعودية شابة، تتمتع بمهارات متميزة، متحمسة وواعية للمسؤوليات الملقاة عاتقها.
مؤتمر “ليب”: 13,4 مليار دولار
دور الشباب السعودي ظهر جليا في مؤتمر “ليب” (LEAP) الضخم، في نسخته الثالثة في الرياض في الرابع من مارس/آذار المنصرم. وحضره نحو مئتي ألف زائر، من 180 دولة، وأكثر من 1300 مستثمر، شغلوا جميعا فنادق الرياض بنسبة 99 في المئة. وكان لافتا انطلاق المؤتمر بإعلان مساهمة المملكة بتمويل قيمته مليار دولار في مسرّع أعمال إقليمي ناشئ في مجال الذكاء الاصطناعي، تحت مسمى (GAIA- Generative AI Accelerator)، بالتعاون ما بين “سدايا” و”مجتمع الذكاء الاصطناعي العالمي” “نيو نايتف” (New Native) ومقره الولايات المتحدة الأميركية، وغيرهما.
تتوقع جوجل كلاود” في السعودية، ذراع الحوسبة السحابية لـ”جوجل”، المساهمة بنحو 110 مليارات دولار في الاقتصاد السعودي على مدى السنوات السبع المقبلة، مما سيوفر نحو 150 ألف فرصة عمل وارتفعت قيمة الاستثمارات في التكنولوجيا، المعلنة خلاله، إلى نحو 13,4 مليار دولار، مقابل 9 مليارات دولار، كانت أعلنت في النسخة السابقة من المؤتمر، أي بارتفاع نسبته 32 في المئة في ظل انكماش استثماري في العالم.
“أرامكو ديجيتال”
كما أطلقت خلاله العديد من المبادرات الكبرى، منها أول نموذج ذكاء اصطناعي توليدي في العالم في القطاع الصناعي لشركة “أرامكو ديجيتال” التي أعلنت أيضا عزمها التعاون مع شركة “غروك” لإنشاء أكبر مركز حوسبة للذكاء الاصطناعي في العالم، يفوق ربما ما أعلنته شركة “أمازون ويب سيرفيسز” لاستثمار 5,3 مليارات دولار لإنشاء منطقة سحابية فائقة السعة في السعودية.
وفي الإطار نفسه، تتوقع “جوجل كلاود” في السعودية، ذراع الحوسبة السحابية لـ”جوجل”، المساهمة بنحو 110 مليارات دولار في الاقتصاد السعودي على مدى السنوات السبع المقبلة، مما سيوفر نحو 150 ألف فرصة عمل. وتلبي هذه المنطقة السحابية التي أطلقت في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، حاجات نحو 1,2 مليون مؤسسة صغيرة ومتوسطة في المملكة.
هذا عدا استثمارات كبيرة أخرى في إنشاء مراكز بيانات وتطوير البرمجيات والتصنيع لشركات “داتافولت” التي تخطط لاستثمار 5 مليارات دولار لبناء مراكز بيانات مستدامة ومبتكرة في السعودية بقدرة تزيد على 300 ميغاوات، و”سيرفيس ناو” (500 مليون دولار) و”ديل تكنولوجيز” و”آي. بي. إم.”. والأخيرة، تخطط لاستثمار أكثر من 200 مليون دولار في المواهب والبنية التحتية من خلال تأسيس مركز برمجيات جديد في الرياض.
في المؤشرات الاقتصادية الرئيسة، كشفت نشرة “بي. دبليو. سي. الشرق الأوسط” عن أن المملكة ارتقت في التصنيفات العالمية إلى المرتبة 17 من حيث حجم الناتج المحلي الإجمالي في عام 2022، حيث تجاوز الناتج السعودي تريليون دولار للمرة الأولى، وحافظ على ارتفاعه في عام 2023، مع توقعات لصندوق النقد الدولي بأن يصل النمو إلى 1,3 تريليون دولار في حلول عام 2028.
تسعى مدينة “نيوم” التي يعد الذكاء الاصطناعي قلبها النابض، إلى تقديم نموذج عالمي فريد يحقق الاستدامة بالاعتماد على التقنيات الرقمية الذكية المتقدمة
لا شك في أن هذه المتانة التي لطالما اتسم بها الاقتصاد السعودي، والاستثمارات الاستراتيجية والواعدة للحكومة السعودية في مجال الابتكار التكنولوجي، تحفز رؤساء الشركات العاملة في البلاد على تبني التقنيات الناشئة في الذكاء الاصطناعي، مثل الذكاء الاصطناعي التوليدي (GenAI)، كجزء من نمو أعمالهم من خلال تحسين جودة منتجات شركاتهم وخدماتها.
“سدايا”
كما يدرك هؤلاء القادة أن الذكاء الاصطناعي التوليدي سيتطلب خلال السنوات الثلاث المقبلة، من معظم القوى العاملة تطوير مهارات جديدة. وكانت المملكة أسست الهيئة السعودية للبيانات والذكاء الاصطناعي، “سدايا”، التي تستضيفها جامعة الملك عبد الله للعلوم والتكنولوجيا، بهدف تعزيز موقعها بين أفضل الدول في مجال الذكاء الاصطناعي على مستوى العالم، إذ تعمل الهيئة على تدريب 25 ألف متخصص في البيانات والذكاء الاصطناعي حتى حلول عام 2030. وفي استشراف للحاجة الملحة إلى مهارات كبيرة تستطيع أن تواكب سرعة تطور الذكاء الاصطناعي، تشرك المملكة نحو 300 ألف من طلاب الثانويات وما دون في دورات تدريبية رقمية في الذكاء الاصطناعي والبرمجة بهدف تهيئة النشء لحقبة جديدة من التطور الاقتصادي والاجتماعي وتمكينه من المساهمة في تحقيق تحول حقيقي وصلب وممنهج إلى الاقتصاد الرقمي. لا تقتصر جهود المملكة على الاستثمارات المميزة والتدريب، بل تحرص أيضا على اجتذاب المواهب، ومنح الاقامات المميزة لمن يستحقها.
“نيوم” نموذج المدينة الذكية
وقدمت المملكة الى العالم أفضل صورة لتطبيق تقنيات الذكاء الاصطناعي من خلال مشاريع كبرى تعتمد على هذه التكنولوجيا الحديثة، من ضمنها مدينة “نيوم” التي يعد الذكاء الاصطناعي قلبها النابض، تسعى إلى تقديم نموذج عالمي فريد يحقق الاستدامة بالاعتماد على التقنيات الرقمية الذكية المتقدمة، ومدينة “ذا لاين”، التي توصف بمستقبل العالم ستعتمد على استخدام الذكاء الاصطناعي بشكل كامل، في بنائها وتجميعها، على حد قول مديرها التنفيذي غايلز بندلتون. أضف إليهما مشروع البحر الأحمر، المنطقة السياحية الجديدة التي ستستخدم أنظمة ذكية لرصد الآثار البيئية وتحرّكات الزوار. تعتبر المملكة من أوائل الدول التي تبنت توصيات أخلاقيات الذكاء الاصطناعي التي اعتمدتها “اليونسكو”.
الحوكمة وأخلاقيات الذكاء الاصطناعي
تعتبر المملكة من أوائل الدول في تبني توصيات أخلاقيات الذكاء الاصطناعي التي اعتمدتها منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة، “اليونسكو”، في نوفمبر/تشرين الثاني 2021 بمشاركة 193 دولة. وفي سبتمبر/أيلول 2022 أطلقت خلال القمة العالمية للذكاء الاصطناعي في نسختها الثانية مبادئ أخلاقيات الذكاء الاصطناعي. وفي يوليو/تموز 2023 وافق مجلس الوزراء على إنشاء “المركز الدولي لأبحاث وأخلاقيات الذكاء الاصطناعي” في الرياض.
وحصدت المملكة المركز الأول في العالم في مؤشر الاستراتيجيا الحكومية للذكاء الاصطناعي، وفقا لمؤشر الذكاء الاصطناعي العالمي، متقدمة على ألمانيا والصين، اللتين احتلتا المركزين الثاني والثالث، مما يدل على الجهود التي تبذلها البلاد وعلى تمتعها بإمكانات حقيقية لدفع الابتكار الحقيقي والنمو الاقتصادي.
المصدر: المجلة