AI بالعربي – متابعات
لم تكن الكراهية يومًا اختراعًا تقنيًا. هي شعور قديم، إنساني، يتغذّى على الخوف، والجهل، والإقصاء، والتجربة المؤلمة. لكنها في العصر الرقمي لم تعد مجرّد انفعال عابر أو موقف شخصي، بل أصبحت بنية قابلة للتضخيم، والتوجيه، وإعادة الإنتاج على نطاق واسع. هنا لا تصنع الخوارزميات الكراهية من العدم، لكنها تتقن شيئًا أخطر: تنظيمها، وتسريعها، ومنحها مسارات انتشار تجعلها أكثر حضورًا وتأثيرًا مما كانت عليه في أي وقت مضى.
السؤال إذن ليس: هل الخوارزميات “تكره”؟
بل: كيف تُعيد تشكيل شروط ظهور الكراهية، وكيف تجعلها أكثر فاعلية، وأقل تكلفة، وأشد عدوى؟

الخوارزميات، في جوهرها، لا تملك موقفًا أخلاقيًا. هي لا تميّز بين حبّ وكراهية، بل بين محتوى يُبقي المستخدم أطول، ومحتوى يُفقده الاهتمام. ومن هنا تبدأ المشكلة. لأن الكراهية، بوصفها شحنة انفعالية قوية، تملك قدرة عالية على جذب الانتباه، وإثارة التفاعل، وإنتاج ردود فعل سريعة. ما يثير الغضب يُشارك أكثر، وما يستفزّ ينتشر أسرع، وما يُقسّم الناس إلى “نحن” و“هم” يُبقيهم متيقظين.
من الانفعال إلى الخوارزمية
حين يتفاعل المستخدم مع محتوى مشحون، لا تسأل الخوارزمية عن السبب الأخلاقي لهذا التفاعل، بل تسجّله كإشارة إيجابية. ومع تكرار الإشارات، تبدأ في اقتراح محتوى مشابه، ثم أكثر حدّة، ثم أكثر تطرفًا. لا لأن الخوارزمية “تريد” نشر الكراهية، بل لأنها تعلّمت أن هذا النوع من المحتوى فعّال.
بهذه الطريقة، تتحوّل الكراهية من موقف فردي إلى مسار مُقترح. المستخدم لا يبدأ بالضرورة متطرفًا، لكنه يُدفَع تدريجيًا عبر سلسلة توصيات تُضيّق مجال الرؤية، وتعيد تأكيد الانحياز، وتُغذّي الإحساس بالتهديد. وهنا، لا تعود الكراهية نتيجة قناعة، بل نتيجة تعرّض متكرر.
يقول أحد باحثي أخلاقيات الذكاء الاصطناعي: “الخوارزمية لا تُقنعك بأن تكره، لكنها تُقنعك بأن كراهيتك مبرّرة، ومشتركة، ومؤكَّدة بالبيانات.” وهذا الإحساس بالجماعة هو ما يمنح الكراهية قوتها.
الفقاعة المعرفية كحاضنة للكراهية
أحد أخطر آثار التخصيص الخوارزمي هو ما يُعرف بـ“فقاعات الترشيح”. المستخدم يرى ما يشبهه، ويُفكّر مثله، ويؤكّد مخاوفه. الآراء المخالفة تُقصى، أو تُعرض في صورة كاريكاتورية تُسهّل رفضها. ومع الوقت، تتشكّل بيئة معرفية مغلقة، حيث يبدو الآخر دائمًا مخطئًا، أو شريرًا، أو مهدِّدًا.
في هذه البيئة، لا تحتاج الكراهية إلى حجج قوية. يكفي تكرار السردية، وتضخيم الاستثناءات، وربط الخوف بصورة أو قصة أو وسم. الخوارزمية، دون قصد، تصبح محرّكًا لهذا التكرار، لأنها تكافئ المحتوى الذي يُبقي المستخدم داخل الفقاعة.

اللغة المُشفّرة للكراهية
مع تطوّر أنظمة الإشراف الآلي، لم تختفِ الكراهية، بل غيّرت لغتها. ظهرت رموز، وتلميحات، ونكات، ومصطلحات بديلة تحمل المعنى ذاته دون أن تُرصد بسهولة. الخوارزميات تتعلّم هذه الأنماط ببطء، بينما تنتقل اللغة أسرع. وهكذا تنشأ لعبة قطّ وفأر بين الإشراف والمحتوى، يكون فيها المستخدم أكثر مرونة.
هذه اللغة المُشفّرة تجعل الكراهية تبدو أحيانًا “مقبولة”، أو “ساخرة”، أو “نقدية”، بينما تؤدي الوظيفة نفسها: نزع الإنسانية عن الآخر، وتبرير إقصائه، أو تحميله مسؤولية مشكلات معقّدة.
من التصميم إلى المسؤولية
هل يعني ذلك أن الخوارزميات “تصمّم” الكراهية عمدًا؟ ليس بالمعنى المقصود. لكنها تُصمّم بيئة تُكافئها. التصميم هنا لا يتعلق بالنية، بل بالبنية. حين تُبنى الأنظمة على تعظيم التفاعل دون اعتبار كافٍ للعواقب، تصبح الكراهية نتيجة جانبية متوقعة.
المسؤولية إذن موزّعة. على الشركات التي تختار معاييرها، وعلى المصمّمين الذين يحدّدون ما يُكافَأ، وعلى المجتمعات التي تستهلك دون وعي. الكراهية الرقمية ليست خطأ مستخدم واحد، بل نتيجة نظام كامل.

هل يمكن تفكيك هذا المسار؟
تفكيك الكراهية الخوارزمية لا يكون بالمنع وحده، ولا بالرقابة الصمّاء. بل بإعادة التفكير في ما يُكافَأ. في إدخال معايير تُثمّن التنوّع، وتُبطئ الانتشار، وتُعيد السياق. في تعليم المستخدم كيف تُوجّه انتباهه، وكيف لا يتحوّل تفاعله إلى وقود.
كما يتطلب الأمر شفافية أكبر: أن يعرف الناس لماذا يرون ما يرونه، وكيف تُتّخذ القرارات الخوارزمية، وما حدودها. الوعي لا يُنهي الكراهية، لكنه يحدّ من سهولة استغلالها.
هل الخوارزميات تخلق الكراهية من الصفر؟
لا، لكنها تضخّمها وتمنحها مسارات انتشار فعّالة.
لماذا تنتشر الكراهية أسرع من الخطاب الهادئ؟
لأنها تثير انفعالًا قويًا يزيد التفاعل، وهو ما تكافئه الأنظمة.
هل يمكن تصميم خوارزميات أقل تحفيزًا للكراهية؟
نعم، عبر تغيير معايير التقييم، وإدخال اعتبارات أخلاقية وسياقية.
ما دور المستخدم في هذه الدائرة؟
دوره أساسي، لأن كل تفاعل هو إشارة تُغذّي النظام.
هل الحل تقني فقط؟
لا، هو تقني وثقافي وتعليمي في آن واحد.
في النهاية، الخوارزميات لا تحمل ضغينة، لكنها قد تحوّل الضغينة إلى بنية. وما لم ننتبه إلى كيف تُكافَأ مشاعرنا في الفضاء الرقمي، قد نجد أنفسنا نعيش داخل أنظمة لا تصرخ بالكراهية، لكنها تُرتّبها، وتُسرّعها، وتتركنا نتحمّل نتائجها.
اقرا أيضًا: الخطاب الديني تحت عين الذكاء الاصطناعي








