AI بالعربي – متابعات
في أعماق كهوف الحجر الجيري، حيث تنعكس أضواء الماضي على الجدران الرطبة، ظلّت خطوط غامضة محفورة على الطين والصخر تثير حيرة العلماء لعقود طويلة. هذه النقوش، المعروفة باسم “أخاديد الأصابع” أو Finger Flutings، تمثل أقدم أشكال الفن الرمزي للإنسان، وظلّ معناها مجهولًا حتى دخل الذكاء الاصطناعي على الخط.
خوارزميات تتتبع بصمات الأصابع القديمة
بفضل تقنيات الذكاء الاصطناعي والتعلّم الآلي، تمكّن فريق من جامعة جريفيث الأسترالية من تحليل هذه الأخاديد التي يعود عمرها إلى أكثر من 60 ألف عام.
اعتمد الباحثون على تدريب نماذج حاسوبية لدراسة حركات الأصابع وضغطها أثناء نحت الخطوط، فاستطاعت الخوارزميات التمييز بين الرجال والنساء بدقة بلغت 84%.
هذا الكشف العلمي يفتح بابًا جديدًا لفهم هوية من صنع تلك العلامات الغامضة التي غطّت جدران الكهوف عبر آلاف السنين.
مشروع بحثي رائد يعيد رسم ملامح الماضي
أطلق فريق جامعة جريفيث مشروعًا طموحًا يعتمد على الذكاء الاصطناعي لتحليل الأخاديد القديمة ضمن إطار بحثي يجمع بين علم الآثار الرقمي والتعلّم الآلي. يهدف المشروع للإجابة عن سؤال طال انتظاره: من هم الفنانون الأوائل؟
من خلال هذا الدمج بين التكنولوجيا والأنثروبولوجيا، وضع العلماء منهجية جديدة لتحديد جنس صانعي الأخاديد، وهو إنجاز لم يسبق له مثيل في دراسة الفنون البدائية.
تجربة تجمع بين الواقع المادي والافتراضي
لبناء قاعدة بيانات دقيقة، أجرى الباحثون تجربتين شملتا 96 مشاركًا بالغًا، طلب منهم رسم تسعة أخاديد بأصابعهم في بيئتين مختلفتين. الأولى واقعية باستخدام طين يشبه جدران الكهوف، والثانية رقمية عبر نظارات Meta Quest 3 للواقع الافتراضي.
أتاحت هذه المقارنة تسجيل أنماط الحركة والضغط في كل بيئة، ما ساعد على تدريب شبكتين عصبيتين شهيرتين — ResNet-18 وEfficientNet-V2-S — على تصنيف الأخاديد بحسب جنس من صنعها.
نتائج مبهرة وتحديات علمية
حققت النماذج المدربة على البيانات الواقعية دقة وصلت إلى 84%، وهو رقم مذهل نظرًا لبساطة الخطوط التي دُرست. أما النماذج الافتراضية فكانت أقل دقة بسبب غياب الإحساس اللمسي الطبيعي الذي يوجّه حركة اليد.
ورغم النجاح، حذّر العلماء من خطر ما يُعرف بـ”التعلّم الزائد” Overfitting، حيث تميل الخوارزميات إلى التقاط أنماط خاصة بالبيئة التجريبية لا يمكن تعميمها على كهوف حقيقية.
يقول الدكتور جيرفاس توكسورث، عالم الحاسوب في الفريق: “نسعى لجعل الذكاء الاصطناعي أكثر موضوعية، لكنه ما يزال يعكس بيئته. نحن في بداية الطريق فقط لفهم هذه اللغة القديمة”.
مراجعة منهجية لعلم فنون الكهوف
تأتي هذه الدراسة في وقتٍ يعيد فيه العلماء النظر في الطرق التقليدية لتحديد هوية صانعي فنون الكهوف.
فقد أكدت مراجعة علمية نُشرت عام 2024 في مجلة Journal of Archaeological Method and Theory أن الطرق القديمة المعتمدة على قياسات عرض الأصابع كانت مليئة بالتحيّزات وغير دقيقة.
فالعوامل البيئية مثل عدم انتظام السطح، وتفاوت الضغط، وتغيّر الألوان تجعل من الصعب الاعتماد على التقديرات اليدوية وحدها.
علم مفتوح المصدر يغيّر قواعد اللعبة
في خطوة تعكس روح الشفافية العلمية، قرر فريق جامعة جريفيث نشر جميع البيانات والأدوات على منصة GitHub.
يشمل المستودع كود التدريب، والبيانات الأصلية، ودفاتر Jupyter الكاملة، إضافةً إلى أدوات المعالجة المبنية على نموذج SAM2 للذكاء الاصطناعي.
يقول الدكتور روبرت هاوبت، أحد أعضاء الفريق: “ما قدّمناه ليس حلًا نهائيًا، بل بداية طريق. نريد من الباحثين الآخرين البناء على نتائجنا وتحسين أدواتنا لتحليل نقوش جديدة حول العالم”.
بعد ثقافي وإنساني يتجاوز المختبر
لا يقتصر هذا المشروع على التحليل العلمي فقط، بل يمتد ليحمل بُعدًا ثقافيًا وإنسانيًا عميقًا. في بعض المجتمعات الأصلية، خصوصًا في أستراليا، يُعتبر تحديد ما إذا كانت علامات الكهوف من صنع رجل أم امرأة جزءًا من الحقوق الثقافية في التفسير والملكية الرمزية للتراث.
تقول الدكتورة أندريا جالاندوني، المؤلفة الرئيسية للدراسة: “لسنا نبحث فقط عن هوية من صنع هذه الأخاديد، بل نحاول فهم الرسائل التي أرادوا إيصالها قبل عشرات الآلاف من السنين. هذه الخطوط هي لغة ماضية نحاول الإنصات إليها من جديد”.








