الذكاء الاصطناعي يتعلّم ما يعرفه الرضيع عن العالم المادي
AI بالعربي – متابعات
إذا وقع مني قلم، فأنت تعلم أنه لن يظل معلقًا في الهواء، بل سيسقط على الأرض، وبالمثل، إذا اصطدم القلم بطاولة المكتب في أثناء سقوطه، فأنت تعلم أيضًا أنه لن ينفُذ من خلالها، بل سيستقر فوق المكتب.
تبدو لنا هذه الخصائص الأساسية للأجسام المادية بدهية؛ فالرضّع الذين لا تتجاوز أعمارهم ثلاثة أشهر يعرفون أن الكرة لا تزال موجودةً حتى بعد أن تغيب عن أنظارهم، وأنها لا يمكن أن تنتقل وحدها من موقعها وراء الأريكة لتستقر فوق الثلاجة.
ورغم أن أنظمة الذكاء الاصطناعي تتقن الألعاب المعقدة، مثل الشطرنج والبوكر، إلا أنها لم تُحرز بعدُ المعرفة “البدهية” التي يولد بها الرضيع أو يتعلمها بصورةٍ تبدو تلقائيةً خلال الأشهر القليلة الأولى من عمره.
يقول جوشوا تينينباوم، أستاذ العلوم المعرفية في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا بالولايات المتحدة الأمريكية، والذي أجرى بعض الأبحاث حول هذا الموضوع: “من المذهل أنه رغم التقدم الذي أحرزته تقنيات الذكاء الاصطناعي، ما زلنا لا نملك أنظمة ذكاء اصطناعي تقترب من محاكاة البداهة البشرية”، مضيفًا أننا “إذا تمكنّا يومًا ما من بلوغ هذه المرحلة، فإن فهم آليات عمل البداهة ونشأتها لدى البشر” سوف يعود علينا بفائدةٍ كبيرة.
نشرت دورية «نيتشر هيومان بيهيفيور» Nature Human Behavior بتاريخ 11 يوليو دراسةً أجراها فريق من شركة «ديب مايند» DeepMind، وهي شركة تابعة لتكتل «ألفابيت» Alphabet للشركات القابضة الذي يملك شركة جوجل، تُعدّ هذه الدراسة خطوةً جديدةً نحو التوصل إلى كيفية تغذية الآلات بهذه المعرفة البدهية، وفهم كيفية تطورها لدى البشر، وقد توصل الباحثون الذين أجروا الدراسة إلى نموذج لـˈالفيزياء الحدسيةˈ، من خلال تغذية أحد أنظمة الذكاء الاصطناعي بالمعرفة الفطرية التي يرى المتخصصون في علم النفس النمائي أن الطفل يمتلكها عندما يولد، كما ابتكر الفريق وسيلةً لاختبار ذلك النموذج، تشبه الأساليب المستخدمة في قياس الإدراك عند الرضّع.
عادةً ما تخضع أنظمة التعلّم العميق -التي صارت واسعة الانتشار في أبحاث الذكاء الاصطناعي- للتدريب من أجل تحديد الأنماط التي تتخذها تكوينات البكسلات في مشهدٍ ما، وبذلك، يمكن لهذه الأنظمة التعرف على جسمٍ ما مثل وجهٍ أو كُرة، لكن لا يمكنها التنبؤ بما سيحدث لهذه الأجسام عندما تصبح جزءًا من مشهدٍ تفاعلي، تتحرك فيه ويصطدم بعضها ببعض، ولهذا فقد سعى فريق البحث من أجل التصدي للتحدي الأصعب الذي تواجهنا به الفيزياء الحدسية، وذلك بابتكار نموذج يسمى «بلاتو» PLATO (وهو اختصار لعبارة بالإنجليزية تعني “تعلُّم الفيزياء عن طريق الترميز التلقائي وتعقُّب الأجسام”) الذي يُعنى بالتركيز على الأجسام بكاملها، وليس على بكسلاتٍ منفردة، ثم قام الفريق بتدريب «بلاتو» على حوالي 300,000 مقطع فيديو حتى يتعلم سلوك جسمٍ ما، مثل سقوط الكرة، أو ارتدادها بعد الاصطدام بجسمٍ آخر، أو تدحرجها خلف أحد الحواجز وظهورها مرةً أخرى على الجانب الآخر منه.
كان الهدف من ذلك هو جعل «بلاتو» يفهم الظواهر التي تمثل انتهاكًا لقوانين الفيزياء الحدسية، مستعينًا بخمسة مفاهيم أساسية هي: ديمومة الأشياء (أي أن الأجسام تبقى موجودةً حتى بعد أن تغيب عن النظر)، والصلابة (أي أن الأجسام صلبة فيزيائيًّا)، والاستمرارية (أي أن الأجسام تتحرك في مسارات متصلة ولا يمكن أن تختفي وتعاود الظهور في مكانٍ بعيدٍ على نحوٍ غير متوقع)، وعدم قابلية التغيير (أي أن خصائص الأجسام تظل كما هي دائمًا)، والقصور الذاتي الاتجاهي (أي أن الجسم لا يغير اتجاهه إلا بموجب قانون القصور الذاتي)، وقد أبدى «بلاتو» “دهشته”، مثلما يفعل الرضيع، عندما رأى على سبيل المثال جسمًا متحركًا ينفذ من خلال جسمٍ آخر، دون أن يرتد إلى الوراء عند الاصطدام، أما فيما يتعلق بالتمييز بين المشاهد الممكنة والمشاهد المستحيلة من الناحية المادية، فقد حقق النموذج تفوقًا ملحوظًا على أحد أنظمة الذكاء الاصطناعي التقليدية الذي تدرّب على مقاطع الفيديو نفسها، ولكن دون أن تتم تغذيته بمعرفةٍ بدهيةٍ بخصائص الأجسام.
يقول لويس بيلوتو، الباحث الذي قاد الفريق التابع لشركة «ديب مايند»، خلال مؤتمر صحفي: “يعتقد علماء النفس أن البشر يستخدمون الأجسام لفهم العالم المادي، لذلك فإذا ابتكرنا نظامًا كهذا، ربما ازددنا اقترابًا من اختراع [نموذج للذكاء الاصطناعي] يمكنه حقًّا فهم العالم المادي”.
كانت الجهود السابقة التي سعت إلى تعليم الفيزياء الحدسية لأنظمة الذكاء الاصطناعي -من خلال تغذيتها بمستوياتٍ متفاوتةٍ من المعرفة المادية الفطرية أو المكتسبة- قد أحرزت نجاحات متباينة، وقد سعت هذه الدراسة الجديدة لفهم الفيزياء الحدسية بالطريقة نفسها التي يعتقد المتخصصون في علم النفس النمائي أن الرضيع يستخدمها، إذ يكشف الرضيع في البداية عن وعيٍ فطريٍّ بماهية الأجسام، ثم يلي ذلك تعلُّم الطفل للقواعد الفيزيائية التي تحكم سلوك الأجسام، وذلك من خلال مراقبته حركتَها من حوله.
تقول سوزان هسبوس، أستاذ علم النفس بجامعة نورث وسترن الأمريكية، والتي لم تشارك في إعداد البحث ولكنها شاركت في كتابة مقالٍ نُشر في قسم «أنباء وآراء» بالتزامن مع نشر البحث في دورية «نيتشر هيومان بيهيفيور»: “إن المثير والفريد في هذا البحث هو أن الباحثين استندوا فيه استنادًا وثيقًا إلى منطلقات علم النفس المعرفي والعلوم النمائية”، مضيفةً: “نحن نولَد بمعرفة فطرية، لكنها لا تكون حينئذٍ معرفةً متكاملة… ثم ينمّي الأطفال تلك المعرفة -تمامًا مثلما يفعل هذا النموذج الحاسوبي- من خلال التجارب والبيئة المحيطة”.
يؤكد باحثو شركة «ديب مايند» أن أبحاثهم ليست مؤهلةً في هذه المرحلة لتطوير قدرات الروبوتات أو السيارات ذاتية القيادة أو غيرها من تطبيقات الذكاء الاصطناعي الشائعة في العصر الحالي، إذ إن النموذج الذي طوروه سوف يحتاج إلى قدرٍ أكبر من التدريب على أجسامٍ موجودةٍ في سيناريوهات واقعية، قبل أن يمكن دمجه في أنظمة الذكاء الاصطناعي، ومع إدخال مزيد من التطوير على ذلك النموذج، من المتوقع أن يُسهم في تقدم علم النفس النمائي، وبالتحديد الأبحاث التي تتناول كيفية فهم الرضّع للعالم من حولهم، إذ لا يزال المتخصصون في علم النفس النمائي حتى الآن يناقشون قضية ما إذا كانت المعرفة البدهية مكتسبةً أم فطرية، وهو نقاشٌ ممتدٌّ على مدار ما يقرب من 100 عام، منذ أن أجرى عالِم النفس السويسري جان بياجيه أبحاثه التي تناولت مراحل التطور المعرفي.
تقول هسبوس: “يمكن تحقيق تعاون مثمر بين أنظمة الذكاء الاصطناعي والعلوم النمائية، إذ تستقي أنظمة الذكاء الاصطناعي الأفكار من العلوم النمائية وتدمجها في عمليات النمذجة”، مضيفةً: “أعتقد أن هذا التعاون قد يثمر عن علاقة منفعة متبادلة بين طرفي المعادلة”.