AI بالعربي – متابعات
يُسهِم استخدام الذكاء الاصطناعي حاليًا في إحداث نقلة نوعية في عديدٍ من المجالات البحثية. وتساعد إحدى أدواته الجديدة على استكمال النصوص المفقودة وتقدير النطاق الزمني لتاريخ النقوش القديمة وأصلها الجغرافي.
تتّسع بخطى مطّردة احتمالات أن يؤدِّي الذكاء الاصطناعي إلى ميكنة المهام والأنشطة المختلفة، لتشمل هذه الاحتمالات مزيدًا من مجالات الحياة، ومن ثمَّ تتفاقم احتمالية قضائه على بعض الوظائف. بل إن ضربات هذه الموجة المتنامية قد امتدت الآن لتطال حقل دراسات العالم القديم الذي يسوده الركود. ففي ورقة بحثية نُشِرت مؤخرًا في دورية Nature، يطرح الباحث يانيس أسايل وفريقه البحثي1 أداة تستخدم الذكاء الاصطناعي تُسمَّى «إيثاكا» Ithaca، ابتُكرت لنقل تقنيات التعلّم العميق إلى عالم الدراسات الكلاسيكية، وتفسير نصوص اليونانية القديمة، التي نُقشت في الأصل على الحجر. بيد أنه لا ينبغي تفسير هذا التقدم على أنه يُشكِّل خطرًا يهدد قرونًا طويلة من الممارسات التي جرت عليها العادة، بل على أنه مُكمّل لهذا التراث.
وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن دراسات الماضي تستند دائمًا إلى أدلة غير كافية. وكلما كان الماضي مُغرِقًا في القِدَم، جاءت هذه الأدلة في صورة متناثرة ومتفرقة. وقد دأب المؤرخون على استخدام فرضيات لسد الفجوات بين خيوط الأدلة غير المتّصلة هذه، وعلى تعديل تلك الفرضيات بصفة دورية. وينطبق هذا بالمعنى الحرفي للكلمة على دراسات النصوص المنقوشة (علم دراسة النقوش). إذ يتعيَّن على علماء دراسة النقوش تطوير مهاراتهم، عبر دراسات مُضنية واكتساب خبرات واسعة، للتمكّن من ملء الفجوات في النصوص التي صمدت في شكل قطع مُجزَّأة، ولدراسة تاريخ مواد هذه القطع، وأصلها ومصدرها. وقد جرت العادة حتى الآن على الاعتماد في هذه الأنشطة على الخبرة الواسعة لمجتمع من الباحثين، يتعلّم أفراده تدريجيًا التعرَّف على الاصطلاحات اللغوية لمجتمعات معينة، وممارساتها المتعارَف عليها (مثل آليات التصديق على مراسيم معينة). وتتيح أداة «إيثاكا» طريقة قائمة على الحوسبة للتصدي لتلك المهام (الشكل 1). وتستخدم التعلم العميق لإثبات صحة النتائج وتحسينها. ويمكن لمثل هذه الطريقة أن تثير مخاوف حقيقية من احتمال الاستغناء عن الحاجة إلى الدراسات البشرية، وهي مخاوف لا تختلف كثيرًا عن الشواغل التي نلمسها في ميادين خبرة أخرى.
وفي مجال العلوم والدراسات الإنسانية، أحرز الباحثون المتخصصون في دراسات العالم القديم تقدّمًا مذهلًا في تبنّيهم للأدوات الرقمية التي تُتيح لهم استعراض مواد هذا المجال واستغلالها. على سبيل المثال، في عقد الثمانينيات من القرن الماضي، برز إلى الوجود عددٌ من أول الموارد المرجعية، مثل المجموعة الثرية من النصوص الأدبية التي تضمّها مكتبة بيرسيوس الرقمية للنصوص اليونانية واللاتينية القديمة (انظر: go.nature.com/3t5yvub). وأُتيحت تلك المواد على أقراص مدمجة في التسعينيات، ثم نُقلت إلى شبكة الإنترنت خلال العقد الأول من القرن الحاليّ. وبزوغ مثل هذه المشروعات مبكِّرًا جعل بناء كثير من هذه المواد قائمًا في الأساس على اعتبارها أدوات بحث. ومنذ ذلك الحين، استُخدِمت شبكة الإنترنت لعرض البيانات التي قد يغدو نشرها عبر وسائل أخرى فادحَ التكلفة، ومثال على ذلك حركة النشر الثورية لـ «ألواح فيندولاندا» Vindolanda Tablets (انظر go.nature.com/3jz5c1d) على الإنترنت، وهي ألواح حوت مجموعة من المراسلات بين الجنود الرومان وعائلاتهم التي أقامت في المناطق المحيطة بجدار هادريان في بريطانيا أواخر القرن الأول وأوائل القرن الثاني الميلادي.
ولعل هذا التبنّي المُبكِّر لصيغ البيانات الرقمية في هذا المجال، كان الدافع المُلهِم الذي يسَّر تطوير أداة «إيثاكا»، عبر توفير مجموعة بيانات تدريبية يسهل لأداة الذكاء الاصطناعي تلك الوصول إليها. وكان المورد الرئيسي الذي استخدمه أسايل وفريقه البحثي في تدريب الأداة يتمثَّل في مجموعة من البيانات بخصوص النقوش اليونانية يمكن التنقيب عنها في قاعدة بيانات معهد باكارد للعلوم الإنسانية بمدينة سانتا كلاريتا في ولاية كاليفورنيا الأمريكية. وهي ليست مجموعة عشوائية من المواد، بل تضمَّنت عروضًا إيضاحية لـ178,551 نص منقوش، صدرت بشأنها أحكام علمية بالفعل، ونُقل ما بها من كلمات وأحرف مقروءة ومواضع غير مقروءة بعناية وحرص شديدين. ومن الأدوات الأخرى التي مكّنت من القيام بالمهمة، معجم أسماء الأشخاص اليوناني في جامعة أكسفورد بالمملكة المتحدة، والذي وُلد ضمن مشروع انطلق قبل وقت طويل من ميلاد الإنترنت، بناءً على عقود من البحث العلمي الدقيق، لتحديد المواقع والتواريخ المرتبطة بكل مثال لاسم استُخدم في العالم الإغريقي القديم. وقد نجحت أداة «إيثاكا» في تسخير هذه الخبرات وتوسيع نطاقها، في محاكاة للعمليات العصبية الدماغية لدى الباحثين.
وسمح استخدام هذه الموارد لأداة «إيثاكا» بتعلّم الأنماط السائدة في تسمية الأشخاص، وفي لغة النصوص المنقوشة التي تعود إلى بقاع وفترات معينة. ثم سخَّر الفريق البحثي الأداة لدراسة مجموعة من النصوص المتناثرة والمتفرقة، وتقديم اقتراحات لإكمال المواضع المفقودة من هذه النصوص، بالإضافة إلى تحديد مصدر النصّ وتاريخه. وعندما قُورنت هذه المخرجات بالأحكام المقابلة التي توصَّل إليها باحثون من أصحاب الخبرة، وجد واضعو الدراسة أن «إيثاكا» تفوَّقت بصورة ملحوظة على الباحثين في دقة نتائجها وثراء هذه النتائج.
نُقِشَت مراسلات فيندولاندا على شرائح خشبية قابلة للتلف، صمدت إلى اليوم بمحض المصادفة. أما في المناطق الأخرى من العالم اليوناني والروماني القديم، حيث توافرت بسهولة أنواع جيّدة من الأحجار، غالبًا ما كانت الوثائق العامة والخاصة تُنقش على الأحجار الأكثر متانة. وصمد بعض هذه النقوش محتفظًا إلى حد مقبول بشكله تمامًا، لكن بمرور الوقت تحوّل كثير منها لقطع وأجزاء متناثرة. وأدَّى اكتشاف هذه النصوص ونشرها، بدءًا من أوائل القرن التاسع عشر، إلى تغيير جذري في علاقتنا بالماضي القديم. فالأبحاث الدقيقة من هذه النوعية، تسهم باستمرار -على سبيل المثال- في تغيير مفهومنا عن عالم أثينا القديم؛ وهو مجتمع أنتج عديدًا من الوثائق، واحتضتنه مجموعة من التلال التي أتاحت لأفراده كميات وفيرة من الرخام فائق الجودة، الذي يمكن نقش مثل هذه الوثائق بسهولة عليه.
نتيجة لذلك، اتَّسع نطاق دراستنا للعالم القديم، بعدما انصبَّ تركيزها على نحو شبه تام في البداية على النصوص الأدبية، ليشمل مجموعة واسعة من المصادر؛ بداية من قوائم التسوّق وانتهاءً بقصائد الشعر. وبإمكان تلك النقوش أن تُفرِز لنا دائمًا معلومات جديدة؛ لتلقي الضوء على الحياة الأسرية للمجتمعات، أو على جوانب حياتها الاقتصادية أو السياسية، وتقتضي منا باستمرار تقييم المعلومات التي نعتقد أننا على دراية بها. وقد تأتي مثل هذه البيانات المثيرة للتأمل من اكتشافات أُزِيح النقاب عنها حديثًا (وهي التي تستحوذ على العناوين الرئيسية في الأخبار)، أو من إعادة النظر في مواد كنا نعتقد أننا نفهمها، باستخدام أدوات مثل «إيثاكا».
ولا شكَّ في قدرة أداة «إيثاكا» على الاكتشاف. وهي قدرة لا تُغنِي عن الخبرة التحليلية، ولكنها تشحذ تلك الخبرة بصورة فائقة. ومن السهل أن تُحرِّف الآمال والتوقعات التي نعقدها على هذه الأداة منظورنا للأمور. مع ذلك، تجدر الإشارة إلى أن هذه الأداة تتصدَّى لأي جزء من أي نص دون التأثر بتحيّزات بشرية. إذ يمكن لها أن تتصدى بصورة متّسقة لجميع النصوص، سواء كانت -تلك النصوص- ذات أهمية واضحة أو غير ذات أهمية ظاهريًا. ومن الأهمية بمكان، أنها بالإضافة إلى ذلك، لا تُقدِّم إجابة ثابتة تقطع بالمتن المحتمل للنص المفقود، بل تقدم مجموعة من الإجابات المُرتَّبة حسب احتمال ملاءمة هذا المتن المفقود للنص. ويتمثَّل الهدف المُعلن للمشروع في “تعظيم الإمكانات التي قد تتحقق من تضافُر جهود المؤرخين مع تقنيات التعلم العميق”. ولا يمكن للأداة أن تحلّ محل الباحث، لكنها عوضًا عن ذلك، تخدم كمرشد للباحث، يدله على السبيل إلى الاكتشافات، ولا تتخذ القرارات النهائية بدلًا منه.
ونحن عندما نصف عملية تطوير أي أداة من أدوات الذكاء الاصطناعي، نستخدم مفردات التدريس والعملية التعليمية. بيد أن هذه العملية التعليمية تُرغمنا على تحليل واستيضاح آليات عملنا. وهذا بالضبط ما نفعله عندما يكون هدفنا نقل المهارات والمعارف المتراكمة لدينا إلى الأجيال التالية. وقد صُمِّمت أداة «إيثاكا» بناءً على مجموعة تدريبات أنتجها البحث العلمي، وتُسهم الأداة في توسيع نطاق تطبيق مبادئ التحليل القائمة. ولا شكَّ أن التطرّق لهذه الأداة التحليلية واستخدامها في العمل سيؤديان إلى إنتاج معارف جديدة ذات أهمية بالغة، إلا أنه يُفترض بها كذلك أن تساعد على تحسين فهم العلماء للأساليب والمقاربات الفكرية التي يسلكونها. لكننا في النهاية نقول إن استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي لا ينبغي أن يُغني عن الباحث، بل يجب -عوضًا عن ذلك- أن تدعو تلك الأدوات الباحثَ إلى التفكر والتمعن في المفاهيم التي كوَّنها عما حسب أنه ألمَّ به.