من الحوسبة إلى الذكاء الاصطناعي
إبراهيم غرايبة
لم يعد الذكاء الاصطناعي يقتصر على المتخصصين في العلوم أو المخططين للسياسات والمؤسسات، لكنه يتحول وبسرعة إلى حياة يومية وتطبيقات في العمل والشؤون الفردية والعامة، وتحدث تغييرات عميقة في بنية الأعمال والمجتمعات والمؤسسات بل وفي فلسفتها ومبررات وجودها أو استمرارها.
وفي التعليم على سبيل المثال، والذي أشرت في المقالة السابقة إلى جزء من السياسات الجديدة حوله وهي ضرورة تعليم وإدارة الذكاء الاصطناعي في المناهج التعليمية، يتعدى الذكاء الاصطناعي المناهج إلى إدارة العملية التعليمية وجوهرها وفلسفتها. لذلك يجب أن نبدأ بسرعة في التعاطي مع الحقائق الجديدة للتطور المعرفي والتقني في هذا المجال، وعلى سبيل المثال فإن المناهج التعليمية تحتاج إلى إعادة تنظيم لدرجة أننا نتحدث عن محتوى ونظام تعليمي جديد ومختلف عن التعليم السائد اليوم اختلافاً كبيراً.
ففي ظل إتاحة المعرفة وتطور الذكاء الجمعي والحاجة إلى معرفة واسعة ومعقدة، صار واجباً وممكناً أن يبدأ التعليم النظامي والإلزامي في سن الرابعة أو الثالثة وليكون في مقدور الطفل في سن العاشرة أن يحصل على ما يحصل عليه اليوم التلاميذ في سن السادسة عشر، ثم يبدأ الأطفال فوراً في المرحلة الثانوية وليكون في مقدروهم في سن السادسة عشر الحصول على الشهادة الجامعية الأولى، ثم الدخول في مسار مهني وتدريبي ليكون في مقدروهم في سن الثامنة عشرة ممارسة المهن والأعمال التي يمارسها خريجو الجامعات اليوم. ثم يمضي من يشاء من الشباب، وحسب الطموحات والأسواق، في مواصلة المعرفة المتطورة والأكثر تخصصاً، ذلك أن المعرفة في اتساعها وإتاحتها صارت تفرض حقائق جديدة على التعليم وسياساته.
وقد حان الوقت أيضاً للاستغناء عن كثير من المحتوى التعليمي والمساقات التي تدرس اليوم للتلاميذ في المدارس، لتُترَك للأفراد والمجتمعات والتعلم الذاتي. ولم يعد سراً ولا متقبلا أيضاً أن تكون المعرفة التي يحصل عليها الطلاب في المدارس والجامعات أقل بكثير في اتساعها ومستواها وتحديثها مما هو متاح في منصات المعرفة والتعليم. إننا بذلك ندفع إلى المؤسسات والأسواق أطباء ومهندسين ومعلمين ومحاسبين ومهنيين لا يملكون المؤهلات التي تحتاجها الأعمال الجديدة والمتغيرة، ولم يتلقَّوا المعرفة التي تتكون وتتشكل كل يوم. وقد أصبح شائعاً الآن القول بأن المعرفة والمهارات التي تتدفق في وقتنا الحالي تجعل المهنيين (أطباء ومهندسون وغيرهم) ممن لا يواكبون المستجدات والمتغيرات في مجال تخصصاتهم وأعمالهم خارج المهنة، وتجعل ما يتعلمون في المدارس والجامعات قبل خمس سنوات وأكثر عديم القيمة والجدوى.
السؤال الأول والبديهي في إدارة الذكاء الاصطناعي، هو ما يجب تعلمه وما يجب إهماله، وما يمكن أن يفعله الحاسوب وما لا يمكن؟ والحقيقة التي لا تملك الدول والمجتمعات تجاهلها هي أن كثيراً من الأعمال الذكية صار بالإمكان إسنادها إلى الحواسيب والبرامج والتطبيقات الحاسوبية، مثل الامتحانات والتقييم والتعليم المستمر ومتابعة الواجبات والتدريب واكتساب المهارات.. إذ تتحول هذه الوظائف إلى الحواسيب ليكون التعليم والتدريب عمليات تفاعل وتنسيق وإرشاد متواصلة. واليوم هناك عشرات الآلاف من المدارس والمؤسسات التعليمية والتدريبية التي تمارس التقييم التلقائي للطلاب من غير تدخل بشري. كما يتطور التعليم الفردي والمنزلي على نحو مدهش لا يقل أهمية وقدرة عن المؤسسات الكبرى والمتخصصة في التعليم والتدريب. وبالطبع فقد صار كل تلميذ أو متدرب يشغل فصلاً دراسياً خاصاً به، ويتقدم في المسار التعليمي بتدرج خاص به أيضاً أي مختلف عن جميع الآخرين. ولم يعد التعليم ملزَماً بأن يسير جميع المشاركين في التعليم في سرعة ومساقات مؤهلات متشابهة، فالفروق الفردية في الاستيعاب والمسارات المعرفية حقيقة كنا نتجاهلها في التنظيم المركزي، لكنها اليوم ممكنة الاستيعاب.