“Google” تحول مختبر الذكاء الاصطناعي إلى معمل لإنتاج أدواته

16

 AI بالعربي – متابعات

طرحت شركتان منتجات ذكاء اصطناعي تستند إلى ابتكارات رائدة من Google خلال أسبوع واحد في أواسط مايو، فقد كشفت OpenAI في 13 مايو عن إصدار جديد من النموذج الداعم لبرنامج الدردشة الأشهر ChatGPT، يعتمد على تقنية “المحوّل” التي قدمتها “جوجل” في دراسة بحثية عام 2017.

وفي اليوم التالي، طرحت “جوجل” منتجاً اسمه “AI Overviews” يقدم نتائج بحثية على شكل أجوبة يكتبها نظامه الخاص، باستخدام التقنية عينها.

إلا أن طرح “أوفرفيوز” لم يكن موفقًا، فسرعان ما بدأ يقدم إجابات محرجة من قبيل أن ينصح بأكل الحجارة، أو استخدام الغراء في إعداد البيتزا، وفي الأسبوع التالي، بدأت جوجل بوضع حواجز حماية جديدة، وقالت إنها تهدف جزئياً لمنع “أوفرفيوز” من تقديم المحتوى الساخر عن غير قصد على أنه حقائق.

لم يكن ذلك ما تحتاجه صورة الشركة التي تسعى إلى نجاحٍ لها في مجال الذكاء الاصطناعي، فيما يعتقد كثيرون في مجال التقنية أن منتجات مثل ChatGPT قد تلغي الحاجة إلى محرك البحث من جوجل، وهو الذي يعتبر مسؤولاً عن معظم إيرادات الشركة، وهكذا فإن هذا التهديد قد يبدو وجوديًا.

دمج Google Brain وDeepMind

هذه الكبوة تلت إحدى أهم محاولات جوجل منذ ما يزيد عن عام لتصحح مسارها في مجال الذكاء الاصطناعي؛ فالشركة التي ترزح تحت ضغط هائل لمواكبة إنجازات OpenAI، وغيرها من المنافسين، أعلنت في أبريل 2023 عن عزمها دمج فريقي النخبة في مجال الذكاء الاصطناعي لديها: “Google Brain” ،”DeepMind” لإنشاء “وحدة ذكاء اصطناعي خارقة” سمتها “جوجل ديب مايند” “Google DeepMind”.

كان ذلك لتحقيق هدفين منفصلين هما: تحسين سجل جوجل على صعيد منتجات الذكاء الاصطناعي التجارية، والحفاظ في الوقت عينه على مكامن القوة التاريخية للشركة في مجال البحوث التأسيسية، لكن ذلك لم يتحقق بعد، وما يزال السعي لبلوغه مستمراً، وفقاً لحصيلة مقابلات مع أكثر من 20 شخصاً مطلعاً على الشؤون الداخلية للشركة طلب معظمهم عدم كشف هوياتهم تجنبًا لعواقب مهنية.

نشط المختبران بشكل منفصل لفترة طويلة. عمل الباحثون لدى “جوجل برين” من دون إشراف إداري لصيق على مشروعات كانت تمثل شغفاً شخصياً لهم، أمّا في “ديب مايند”، الذي أسسه العقل اللامع في مجال الذكاء الاصطناعي ديميس هاسابيس في لندن، فقد كان يخضع لنهج متكتم بإدارة مكينة.

تولّى هاسابيس منصب الرئيس التنفيذي للوحدة التي نشأت عن الدمج، فتعاظم نفوذه داخل الشركة، وقد زاره في لندن على مر العام الماضي كثير من شخصيات “جوجل”، ومنهم مؤسسها الشريك سيرجي برين.

ركّز هاسابيس على البحوث في الدرجة الأولى على امتداد معظم مسيرته المهنية، لكن منصبه الجديد سيفرض عليه التركيز على الشق التجاري. وقد بدأ مدير “جوجل” التجاري في أوروبا والشرق الأوسط وإفريقيا مات بريتين بالعمل مباشرة مع وحدة هاسابيس، في حين تنتشر إشاعات في الشركة بأن المجموعة قد تطرح منتجاتها مباشرةً في نهاية المطاف.

تأفف داخلي

طرح المختبر في مايو الإصدار الجديد من أداة “ألفا فولد” (AlphaFold) الرائدة في التنبؤ بتركيبات البروتين، وسط توقع هاسابيس بتطويرها إلى منتج تصل قيمته إلى 100 مليار دولار، إلا أن بعض العاملين في “جوجل” شككوا في جدوى تخصيصه لوقت كثير لهذا المشروع، بحسب شخصين مطلعين على المسألة.

ينصب تركيز وحدة هاسابيس على برنامج “جيميناي- Gemini” الذي يعدّ نموذج الذكاء الاصطناعي الأهمّ من جوجل، إذ يقول العاملون عليه إن هناك تقدماً فيه، وقد أبلغ الباحثون داخل وحدة الذكاء الاصطناعي زملاءهم بأنهم فخورون بتطور “جميناي”، بالأخص في ما يخص “نافذة السياق”، أي مقدار المعلومات التي يمكن للنظام تحليلها في آن معاً، وهذا أمر يحمل فائدة كبرى لشركة تعتبر حيازتها لكم هائل من البيانات أحد أهم ميزاتها التنافسية.

يرى هاسابيس أن دمج القسمين يتيح الاستفادة من واحدة من أعظم مكامن قوة جوجل، وهو العدد الهائل من الباحثين المخضرمين الذين يعملون على برامج الذكاء الاصطناعي التأسيسية، إلا أن ذلك قد يتعدى على الثقافة التي أسهمت أصلاً في نجاح جوجل في مجال البحوث التأسيسية للذكاء الاصطناعي، وقد أشار أشخاص مطلعون على مجريات الأمور في المختبر إلى أن بعض الباحثين ضاقوا ذرعاً بإلزامهم بخارطة طريق يرونها فرضاً من إدارتهم.

قبل هذا التغيير في النهج، كانت الفرق الصغيرة، التي تكونت من دون إطار رسمي، هي التي تحقق الإنجازات الكبرى للشركة، وهم يعتبرون أن عمل الجميع على المشروع نفسه لا يترك فسحة تجريب كافية.

هاسابيس إلى اليسار ورئيس “ألفابيت” التنفيذي سوندار بيتشاي في مؤتمر “جوجل” السنوي للمطورين في ماونتن فيو، كاليفورنيا الشهر الماضي، Getty Images/AFP.

تؤدي هذه الضغوط إلى شعور عام بالاستنزاف، بحسب شخصين مطلعين على شؤون الشركة. ولزيادة الطين بلّة، واجه نموذج “جيميناي- Gemini” عثرة تلو أخرى منذ انطلاقه، التي عكرها إنتاجه لصور افتقرت للدقة التاريخية، ومن ذلك حادثة واحدة على الأقل صوّر فيها رجالاً ليسوا من العرق الأبيض كجنود ألمان في الحرب العالمية الثانية.

بيّن هاسابيس أنه يغذي معارفه في مجال طرح المنتجات، وأن فرق المنتجات في جوجل تتعامل مع التحديات الجديدة في الذكاء الاصطناعي التوليدي، الذي قد يعمل بشكل خارج عن المألوف حين يصبح في متناول الجمهور الأوسع، وقال: “هو يختلف عن المنتجات التقنية الأخرى.. تعمل التقنية التي يستند إليها بشكل مختلف، فلديها نقاط قوة ونقاط ضعف معيّنة، لذا أعتقد أنه مسار تعلّم مثير للاهتمام بالنسبة للجميع”.

إن وجود مختبري ذكاء اصطناعي رفيعي المستوى لدى جوجل، هو إرث حقبة اتسمت بانضباط أقل في تاريخ الشركة، حين كان لديها خدمتين للاشتراك في الأغاني، ومجموعتين للاستثمار الرأسمالي، ونظامي تشغيل لأجهزة الهواتف الذكية.

خرج مختبر “برين” من رحم المجموعة “إكس” للتقنيات المتقدمة التي أنشأتها الشركة، ودُمج ضمن جوجل في 2012، وقال المؤسس الشريك لـ”برين”، أندرو إنج، الذي انضم حالياً إلى مجلس إدارة “أمازون”، إن جوجل استعانت بأعمال الفريق لتصنع بعض منتجاتها الأكثر رواجاً، وأضاف: “كان “جوجل برين” عملياً جداً في تعاونه مع الشركاء لطرح المنتجات، وزيادة إيرادات الشركة الأم”.

استحوذت “جوجل” في 2014 على شركة “ديب مايند” الناشئة التي كانت تحرز تقدماً لافتاً في مجال الذكاء الاصطناعي من خلال إنتاج برامج يمكنها أن تلعب ألعاب فيديو قديمة. وعلى مدى معظم العقد التالي، برّر قادة “جوجل” وجود مختبرين منفصلين على أنه أمر مفيد لأنه يعزز الإبداع ويختبر مقاربات مختلفة لحل المشكلات، حسب شخص مطلع على شؤون الشركة.

انفتاح غير متبادل

تمكّن “ديب مايند” من موقعه على بعد نحو 8000 كيلومتر عن مقر “جوجل” في ماونتن فيو بولاية كاليفورنيا من الحفاظ على قدر من الاستقلالية، وبدا هاسابيس، الذي كان بطل شطرنج في سن المراهقة، مصمماً على الفوز في المسابقات. في 2016، فاز نموذج “ديب مايند” على واحد من أفضل اللاعبين البشر في لعبة الاستراتيجية القديمة “Go”، وقال شخص سبق أن عمل مع هاسابيس إنه كان يعبّر علناً عن رغبته بالفوز بجائزة “نوبل”.

حين جددت جوجل هيكلها وتحولت إلى مجموعة “ألفابت” الضخمة في 2015، جعلت “ديب مايند” شركة فرعية منفصلة تملك كامل أسهمها، وبعد مرور الوقت تبيّن أن هذه التركيبة كان من شأنها أن تثير استياء البعض حتماً، إذ كان لدى الباحثين العاملين في “ديب مايند” صلاحية مطلقة للاطلاع على مشاريع “برين” وبرمجياته، وتمتعوا بحرية الدخول إلى مكاتب “جوجل” في ماونتن فيو، لكن هذا الانفتاح لم يكن متبادلاً.

حملت بعض منشورات “ديب مايند” أوجه شبه مع مشروعات كان “برين” يعمل عليها، ما أثار مزيداً من الشكوك في أوساط الباحثين العاملين في “برين”، بحسب ثلاثة أشخاص مطلعين على عمليات الشركة، وقال أحدهم إن بعض الباحثين في “برين” حاولوا منع موظفي “ديب مايند” من الاطلاع على أعمالهم، إلا أن قيادة “برين” حثت أولئك الباحثين على عدم تقويض ثقافة الانفتاح لديهم. حتى أن المؤتمرات التي كان يلتقي فيها باحثون من “برين”، و”ديب مايند” تخللها شيء من الإحراج في بعض الأحيان.

اجتمع هاسابيس، وجيف دين الذي كان يدير “جوجل برين” بعد بضع سنوات من الاستحواذ على “ديب مايند” في محاولة لتعزيز علاقاتهما، إلا أن المجموعتين استمرتا بالعمل متباعدتين بقدر كبير، حتى أنهما قبل الدمج كانتا تعملان على نموذجين لغويين ضخمين منفصلين. مع ذلك، قال هاسابيس إن التنافس بين “جوجل برين” و”ديب مايند” لم يكن أشد حدّة من الطاقة التنافسية السائدة داخل كل مختبر، مضيفاً: “كان معظم ذلك بروح تعاون واحترام متبادل”.

“جيميناي” ثمرة للدمج

نشرت OpenAI ورقة بحثية شرحت فيها نموذج GPT-3 في 2020، فدفع ذلك جوجل لتعيد تقييم طريقة عملها، فإن كانت شركة ناشئة ذات موارد قليلة قادرة على الاستفادة من بحوث جوجل، لتتفوق عليها، يعني هذا أنه ينبغي للشركة أن تحسن أداءها.

خلص بعض الباحثين في “برين” إلى أن مختبرهم بحاجة لمركز قوة أكبر، وبحسب عدد من الأشخاص المطلعين على عمليات المختبر، فإن إتاحة القوة الحاسوبية هي إحدى أهم متطلبات العمل في مجال الذكاء الاصطناعي، وكان كل باحث لدى “برين” يحصل على مخصصات محددة من القدرة الحاسوبية، شبّهها أحد الأشخاص بتوزيع تذاكر للألعاب في المهرجانات، لكن نموذج بحجم GPT-3 أو”جيميناي- Gemini”، يتطلب قدرة حاسوبية أكبر بكثير مما يملكه أي باحث وحده، بالتالي يحتاج بناء مثل هذا النموذج لجمع مخصصات عدد من الأشخاص معاً.

كان هذا الطرح صعب المنال في ظل تنافسية بين باحثين كثيراً ما يهيمن عليهم حب الذات. قال شخصان مطلعان على شؤون الشركة إن محاولات “جوجل برين” للتوصل إلى نظام آخر لإتاحة القوة الحاسوبية واجه عراقيل بيروقراطية.

رحّب كثير من منسوبي “جوجل” السابقين بقرار الدمج الذي أعلنه رئيس “ألفابت” التنفيذي سوندار بيتشاي في أبريل 2023، وتساءلوا عن سبب التسويف الذي سبق ذلك، وأثمر عن هذا الدمج منتج رئيسي أول هو Gemini””، الذي استُوحي اسمه من أسطورة يونانية عن اندماج توأمين في السماء.

تراجع الاهتمام بالبحوث البحتة

اعتبر أندرو هاريسون، مدير تنفيذي سابق في “ألفابت”، يرأس اليوم شركة رأس المال الجريء “سيكشن 32” (Section 32)، أن إعادة التنظيم هذه منطقية، وقال: “ما فعلوه لجمع كل شيء تحت راية واحدة انطلاقاً من مجموعة مشتركة من الدوافع، أمر ذكي جداً.. أعتقد أن ذلك يظهر للناس من داخل (جوجل) وخارجها ماهية العمل المطلوب.. وهو وضع الجيل التالي من تقنيات الذكاء الاصطناعي التوليدي في متناول زبائنهم”.

قال هاسابيس، إن دمج المختبرين “سار بسلاسة وبأجواء طيبة على نحو مفاجئ.. ما يجمعنا كان أكثر بكثير مما يفرقنا”، ومع ذلك، يشتكي باحثون من الجانبين من عدم حصول البحوث البحتة على الاهتمام الكافي، بحسب أشخاص مطلعين على عمليات الشركة، وقال أحد الموظفين السابقين إن بعض الفرق التي كانت تعمل على التطبيقات العلمية للذكاء الاصطناعي خشيت من إلغاء مشروعاتها بعد الدمج.

وفيما لا يحصل أي طرف على القوة الحاسوبية التي يريدها، فإن المتوفر للفرق التي تقوم بالبحوث البحتة أقل مما سواها، بحسب موظف سابق وأشخاص آخرين مطلعين على عمل المختبر، لكن سيد جاياكومار، الذي كان يعمل باحثاً في “ديب مايند” قبل أن يغادره في 2023 ليؤسس شركته الناشئة “فينستير إيه آي” (Finster AI)، يقول إن “ديب مايند” لطالما اضطر في السابق للموازنة بين العمل العلمي والبحوث التي يغلب عليها الطابع الاستكشافي، وأضاف: “سيبقى هذا التوتر قائماً على الدوام”.

تجارة تفيد البحث

يحاكي هذا الاستياء من التركيز المفرط على الجانب التجاري الانتقادات الداخلية التي تصاعدت قبل سنتين، حين كانت “جوجل” تتخبط كي تقدم الذكاء الاصطناعي التوليدي إلى المستهلكين، فالباحثون الذين كانوا يرغبون في طرح المنتجات التجريبية انتقلوا إلى شركات ناشئة بعدما شعروا بأن الشركة تسير ببطء شديد. قال بعض الأشخاص المطلعين على مختبر “برين”، إن الباحثين هناك أسفوا أيضاً لخسارة علامتهم التجارية، على الرغم من ترحيب البعض بآفاق العمل تحت قيادة أقوى.

تسعى الشركة لحل مشكلة المعنويات هذه جزئياً عبر دفع الأموال، وقد قال عدة أشخاص مطلعين على مجريات الأمور إن كبار الباحثين في “جوجل” يجنون عدة ملايين من الدولارات سنوياً.

دعا هاسابيس أيضاً الباحثين العاملين في العلوم التأسيسية إلى النظر للتطوير التجاري كمكسب، وأشار إلى أنه قبل بمنصبه الجديد لأسباب منها أن نماذج الذكاء الاصطناعي أصبحت أكثر تنوعاً، وأن تطوير برامج تجارية يسهم في إنتاج تقنيات تساعد على التقدم في البحوث.

كما اعتبر أن المنتجات الاستهلاكية واسعة الانتشار من جوجل تقدم أرضية اختبار فريدة من نوعها للتجارب العلمية، وقال: “نتلقى آراء ملايين المستخدمين.. واضح أن هذا مفيد جداً لتحسين المنتج، وكذلك لتحسين أبحاثنا”.

اترك رد

Your email address will not be published.