الذكاء الاصطناعي “فكرة” نتاج فكر بشري
أمينة خيري
من شأن كلمات مثل “لجم” و”سيطرة” و”صد” وغيرها من المفردات، التي توحي بمحاولات مقاومة، وربما مقارعة الذكاء الاصطناعي أن تدفعنا إلى إعادة النظر في تعاملنا مع هذا الذكاء. دهشة الذكاء الاصطناعي ذهبت وجاءت فكرته. فكرة الاندهاش والانبهار ولت، وعلينا الآن أن نمعن النظر واتخاذ اللازم في الفكرة. فكرة الذكاء الاصطناعي تهدد بأن تكون Larger than life، أي أكبر من الحياة أو الواقع. يظل الذكاء الاصطناعي “فكرة” نتاج فكر بشري، وطورها بشر، وينميها بشر، وجميعها نتاج تفكير.
وحين تتحرك دول وكيانات مثل الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي صوب محاولات تنظيم وتقييد لهذه “الفكرة”، وحين تلقي “الفكرة” بظلال بطالة وتسريح عن العمل في مهن بعينها، لأنه أقدر وأسرع وأقل كلفة في القيام بها، وحين يتصاعد التحذير القادم من داخل أروقة القائمين على الذكاء الاصطناعي أنفسهم بأن البشرية في خطر جراء ما تفتقت عنه أذهانهم، فإن هذا يعني أن العالم مقبل على تغيرات كبرى في المستقبل القريب.
قبل أيام وافق البرلمان الأوروبي على مشروع قانون الذكاء الاصطناعي، بعد عملية ولادة متعثرة استغرقت نحو عامين. القانون الجديد سيسري على منتجات وخدمات الذكاء الاصطناعي، معتمداً على تصنيف أنظمته في أربعة مستويات، بحسب درجات الخطورة من “قليلة” إلى “غير مقبولة”. وعلى سبيل المثال لا الحصر فإن التطبيقات، التي تتنبأ بالسلوك الإجرامي أو القادرة على توجيه الناخبين، والتأثير على اختياراتهم دون أن يدروا “غير مقبولة”، وهلم جرا.
والحقيقة أن تصنيف فوائد ومخاطر الذكاء الاصطناعي أمر بالغ الصعوبة ومحير، كما أنه مسيس دون شرط الإعلان، فما يمثل خطورة غير مقبولة على الدولة “سين” قد لا يكون كذلك للدولة “صاد”. توجيه أو الـتأثير على اختيارات الناخبين أمر خطير بالطبع، لكن ماذا عن زرع قيم غريبة أو مستهجنة في الصغار، أو توجيه الميول لدى المراهقين، أو التأثير على السلم الاجتماعي لثقافات وشعوب وتأليبها على بعضها البعض أو زرع ودعم رغبات الانفصال والتقسيم مثلاً بين أبناء الدولة الواحدة؟
يبقى جزء من أخطار الذكاء الاصطناعي نسبياً أو بمعنى أدق يختلف حجمه وأثره من ثقافة إلى أخرى، ومن مستخدم إلى آخر. لا أتفق مع الآراء، التي ترى في الإغلاق والمنع وإقامة السدود وتشييد القلاع وسيلة لحماية الشعوب من أخطار الذكاء الاصطناعي. النبرة المتصاعدة في التحذير من هذه المخاطر تجعلنا نتأنى قليلاً في البحث العلمي والتدبر المنطقي فيها، لا سيما أن أعلى الأصوات قادم من المؤسسين للذكاء الاصطناعي نفسه، وهذا يحتمل أمرين: إما أن تحذيراتهم المفاجئة والمتزامنة تمهد لتنظيم ما يناسبهم ويناسب دول المنشأ، وإما أن التحذيرات حقيقية، وأن ما يقال عن احتمال فناء البشرية والقضاء على الإنسانية ووقوع الجميع في قبضة الروبوتات والأجهزة والبرامج والتطبيقات
ولو استبعدنا الأخير من منطلق المنطق، حيث إنه لن يكون علينا سوى انتظار حرب عالمية ثالثة طرفاها الذكاء البشري والذكاء الاصطناعي، فربما يجدر بنا الالتفات لأحوالنا العربية في “فكرة” الذكاء الاصطناعي. وبدءاً بالتطبيقات والبرامج صانعة المحتوى مثل “تشات جي بي تي” والقادمة بكل سرعة وقوة، ومروراً بالتقنيات بالغة الدقة المستخدمة في تزييف الصور والمقاطع المصورة والأخبار والمعلومات وانتهاء بحقيقة لا ريب فيها، ألا وهي أن الذكاء الاصطناعي لا يعترف بالحدود أو يقر بالتأشيرات والتفتيشات شرط المرور تتراوح الدول العربية في ما بينها في درجة الاستعداد والتعايش، بل وربما الاستباق.
حتى اللحظة، ومنذ ولادته، ظل الذكاء الاصطناعي ينظم نفسه بنفسه، أو ربما منطلقاً بلا حدود في عوالم بلا قيود، وحتى اللحظة تراوحت مواقف وردود فعل الدول العربية في ما يختص بالذكاء الاصطناعي بين رغبة وقدرة على الاستقبال والتعامل والترويض، ورفض ونفور وقرار بإغلاق الباب أمامه، رغم أنه كان في تلك الأثناء يتسلل ويتوغل من النوافذ والسقف وفتحات التهوية والمصارف، ولا يفوتنا ذكر دول ضربتها الصراعات منذ سنوات طويلة، فاضطرت لاعتبار الذكاء الاصطناعي وتدبر أمورها في ضوئه رفاهية لا طاقة لها بها.
وبعيداً عن هذه الفروق العربية فإن أسئلة عديدة تطرح نفسها. من يضع القواعد المنظمة للذكاء الاصطناعي اليوم؟ وبناء على أية أسس؟ وهل هذه الأسس مناسبة للجميع؟ وهل هي واجبة النفاذ على الكل، سواء من شارك في سنها أو من تابعها من على مقاعد المشاهدين؟ وهل تملك هذه القواعد والقوانين المنظمة سلطة تنفيذ الأحكام والعقوبات على المخالفين عبر الحدود والمحيطات؟ وماذا لو التزمت كل دول الكوكب، وخرقت دولة واحدة القواعد خرقاً من شأنه أن يحول كابوس المخاطر إلى حقيقة؟ الأدهى من ذلك أن حديثاً علمياً وأكاديمياً عميقاً دائر الآن عنوانه: ما هو الذكاء الاصطناعي؟ وهل ما نعتبره ذكاء اصطناعياً هو كذلك بالفعل أم أنه شيء آخر؟!
المصدر: البيان