AI بالعربي – متابعات
لم يعد الشعر، في زمن النماذج اللغوية، حكرًا على من عاش التجربة أو تذوّق الألم أو اختبر الدهشة الأولى. أصبح ممكنًا لنظام لا يشعر، ولا يتذكّر، ولا يحنّ، أن يكتب قصيدة متقنة الوزن، غنية بالصور، قادرة على إثارة التأثر. هنا لا نتحدث عن تطوّر أداة، بل عن تحوّل في معنى الكتابة نفسها. شاعر يولّد نصًا دون أن يعرف ما هو الشعر، ودون أن يمرّ بما يمرّ به من كتبه البشر عبر قرون.
هذا الواقع لا يطرح سؤال الجودة، بل سؤال المصدر. من أين يأتي هذا الإحساس الظاهري؟ ومن يملكه فعلًا؟

النموذج لا يكتب لأنه يريد أن يقول شيئًا، بل لأنه طُلب منه أن يولّد. لا يبدأ من دافع داخلي، ولا ينتهي براحة أو خيبة. هو لا يعرف لماذا اختار هذه الاستعارة بدل تلك، ولا يشعر بثقل كلمة أو خفّتها. ومع ذلك، يخرج النص متماسكًا، أحيانًا جميلًا، وأحيانًا مؤثرًا على نحو يربك القارئ.
كيف يتعلّم النموذج “الشعر”؟
النموذج اللغوي لا يتعلّم الشعر كما يتعلّمه الإنسان. لا يقرأ ليعجب، ولا يكتب ليجرّب. ما يتعلّمه هو الأنماط: كيف تتجاور الكلمات، كيف تُبنى الصور، كيف تُستخدم المفردات العاطفية في سياقات معيّنة. الشعر، بالنسبة له، ليس تجربة، بل توزيع احتمالي.
حين يكتب بيتًا حزينًا، لا يفعل ذلك لأنه حزين، بل لأن السياق اللغوي رجّح الحزن. وحين يختار صورة البحر أو الليل أو الغياب، فذلك لأن هذه المفردات ارتبطت إحصائيًا بمعنى شعري في بيانات التدريب. الإحساس هنا ليس غائبًا فقط، بل غير مطلوب.
يقول أحد منظّري الذكاء الاصطناعي: “النموذج لا يعرف ما يقول، لكنه يعرف كيف يبدو ما يُقال.” وهذه المعرفة الشكلية تكفي لإنتاج نص يُقنع.
الشعر بوصفه محاكاة
في هذا السياق، يتحوّل الشعر من فعل وجودي إلى محاكاة لغوية. لم يعد السؤال: ماذا يشعر الشاعر؟ بل: هل النص يشبه ما اعتدنا اعتباره شعرًا؟ وإذا كانت الإجابة نعم، فهل يهمّنا المصدر؟
القارئ، في كثير من الأحيان، يتفاعل مع النص قبل أن يعرف كاتبه. قد يتأثر، وقد يجد نفسه في الكلمات، وقد يبكي. هذا التفاعل حقيقي، حتى لو كان المصدر اصطناعيًا. وهنا تكمن المفارقة: الإحساس يحدث، لكن ليس في جهة الكتابة، بل في جهة القراءة فقط.

هل يغيب الصدق حين يغيب الإحساس؟
السؤال الأخلاقي الأكثر حضورًا هو: هل يمكن لنص بلا إحساس أن يكون صادقًا؟ الإجابة ليست بسيطة. الصدق في الشعر كان دائمًا مفهومًا إشكاليًا. ليس كل شاعر صادقًا بالضرورة، وليس كل نص نابع من تجربة مباشرة. ومع ذلك، كان هناك افتراض ضمني بأن الكاتب “مرّ بشيء”.
النموذج ينسف هذا الافتراض. هو لا يمرّ، بل يجمع. لا يتذكّر، بل يستدعي. ومع ذلك، ينتج نصًا قد يبدو أصدق من كثير من الكتابات البشرية المصطنعة. هنا يتبدّل معيار الصدق من التجربة إلى الأثر.
لكن هذا التحوّل يحمل خطرًا: أن يصبح الإحساس نفسه قابلًا للاستبدال. أن نكتفي بالشكل، وننسى ما كان يمنح الشعر عمقه الإنساني.
الشاعر البشري في مواجهة النموذج
أمام هذا الواقع، لا يعود التحدّي في منافسة النموذج على الإنتاج، بل في استعادة ما لا يمكن للنموذج امتلاكه: التجربة غير القابلة للاختزال. الشاعر البشري لا يكتب فقط ما يُشبه الشعر، بل ما يخرج من سياق حياته، من تناقضاته، من لحظات فشله وصمته.
بعض الشعراء بدأوا يشعرون بأن اللغة نفسها تُسحب من تحت أقدامهم. الكلمات التي كانت حميمية أصبحت متاحة للجميع، بلا كلفة. لكن آخرين يرون في هذا التحوّل فرصة لإعادة تعريف الشعر، لا بوصفه منتجًا لغويًا، بل موقفًا وجوديًا.

هل سيعتاد القارئ على الشعر بلا إحساس؟
ربما. القارئ يتكيّف سريعًا مع ما يُقدَّم له. إذا كان النص جميلًا، فقد لا يسأل عن مصدره. لكن مع التكرار، قد يحدث شيء آخر: تشبّع. الشعر المولّد، رغم تنوّعه الظاهري، يميل إلى التشابه العميق. لأنه يشتغل داخل متوسطات، ويتجنّب الانحراف الحاد.
هنا قد يعود القارئ للبحث عن صوت مختلف، عن كسر غير متوقّع، عن خطأ بشري يكشف حضور إنسان خلف الكلمات. ليس لأن النص الآلي سيئ، بل لأنه متوازن أكثر من اللازم.
هل يمكن اعتبار ما يولّده النموذج شعرًا حقيقيًا؟
يعتمد ذلك على تعريف الشعر: هل هو شكل أم تجربة؟
هل يشعر القارئ بالفرق؟
أحيانًا لا، خصوصًا في القراءة السريعة، لكن الفرق يظهر مع التعمّق.
هل يهدد هذا وجود الشعراء؟
يهدد دورهم التقليدي، لا الحاجة إليهم.
ما الذي لا يستطيع النموذج فعله؟
أن يكتب من ذاكرة شخصية، أو من خوف حقيقي، أو من خسارة عاشها.
كيف يمكن للشاعر أن يظل حاضرًا؟
بأن يكتب ما لا يمكن تعميمه، وما لا يصلح كنمط.
في النهاية، الشاعر الذي لا يعرف الشعر يستطيع أن يولّد نصًا، لكنه لا يعرف لماذا وُجد هذا النص أصلًا. لا يعرف ما الذي يخسره إن لم يُكتب، ولا ما الذي يتغيّر في العالم حين يظهر. الشعر، في جوهره، ليس ترتيب كلمات فقط، بل أثر إنساني يتجاوز اللغة. وما دام هذا الأثر مرتبطًا بتجربة العيش نفسها، سيظل هناك فرق، مهما بدا صغيرًا، بين من يولّد دون إحساس، ومن يكتب لأنه لا يستطيع إلا أن يكتب.
اقرأ أيضًا: نهاية السرد التقليدي.. صعود القصة التنبؤية








