AI بالعربي – متابعات
لم يعد المحتوى، في زمن الخوارزميات، بحاجة إلى فكرة مكتملة، ولا إلى معنى واضح، ولا حتى إلى رسالة قابلة للتلخيص. ما يلفت النظر اليوم ليس الامتلاء، بل الفراغ. ليس العمق، بل الإيقاع. وليس القول، بل الاستمرار. هكذا ظهر نوع جديد من الجاذبية الرقمية: محتوى لا يقول شيئًا محددًا، لكنه يُشاهَد، ويُتداوَل، ويُكافَأ. “اللاشيء” نفسه أصبح منتجًا ناجحًا.
هذا التحوّل لا يعني أن الجمهور فقد ذكاءه، ولا أن المعنى انتهى، بل أن شروط الانتباه تغيّرت. حين تصبح المنصات مبنية على الزمن الذي نقضيه، لا على ما نفهمه، يصبح اللاشيء مادة مثالية: لا يطالبك بالتفكير، ولا يثقل عليك بالسؤال، ولا يترك أثرًا مزعجًا بعد الانتهاء. هو محتوى يُستهلك ثم يُنسى، لكن يُعاد إنتاجه بلا توقف.

تدفّق بصري متواصل بلا نقطة تركيز أو رسالة محددة
اللاشيء، في هذا السياق، ليس غيابًا كاملًا، بل امتلاءً بلا معنى. صور جميلة بلا قصة، عناوين مثيرة بلا مضمون، مقاطع قصيرة تُشعرك بأنك شاهدت شيئًا، دون أن تعرف ماذا كان. الخوارزميات تحب هذا النوع من المحتوى، لأنه يُبقي المستخدم داخل المنصة أطول وقت ممكن، دون مقاومة داخلية.
من المعنى إلى الإيقاع
في الإعلام التقليدي، كان المحتوى يُبنى حول فكرة. حتى الترفيه كان يحمل سردية، أو موقفًا، أو شخصية. أما اليوم، فالكثير مما نراه لا يحتاج إلى فكرة بقدر ما يحتاج إلى إيقاع. سرعة مناسبة، موسيقى مألوفة، حركة مستمرة، تكرار مريح. اللاشيء هنا ليس فشلًا إبداعيًا، بل نتيجة تصميم واعٍ.
الخوارزمية لا تسأل: هل هذا مهم؟
بل تسأل: هل يتوقّف المستخدم أم يمرّر؟
وهذا السؤال وحده كافٍ لإعادة تشكيل ما ننتجه وما نستهلكه. المحتوى الذي لا يتطلب توقفًا، ولا يستدعي قرارًا، ولا يفرض موقفًا، يصبح أكثر قابلية للانتشار. اللاشيء لا يزعج، ولذلك ينجح.
الفراغ بوصفه راحة
هناك جانب نفسي لهذا التحوّل. العالم مثقل بالمعاني، بالأخبار، بالصراعات، بالأسئلة الثقيلة. في هذا السياق، يصبح اللاشيء ملاذًا. محتوى لا يطلب منك أن تفهم، ولا أن تتخذ موقفًا، ولا أن تتذكّر. مجرد تدفّق يملأ اللحظة، ثم يختفي.
لكن هذه الراحة ليست بريئة تمامًا. لأنها تُدرّب الذهن على الاكتفاء بالحد الأدنى. على قبول السطح. على الاستغناء عن العمق لأنه مُجهِد. ومع الوقت، قد يصبح البحث عن المعنى نفسه عبئًا.

كيف تُكافئ الخوارزميات اللاشيء؟
الخوارزميات لا تفهم المعنى، لكنها تفهم السلوك. المحتوى الذي يُشاهَد حتى النهاية، حتى لو لم يُفهم، يُسجَّل كنجاح. المحتوى الذي لا يُثير جدلًا، ولا يُسبّب انسحابًا، ولا يُربك، يُعدّ آمنًا. وهكذا، يُعاد إنتاج اللاشيء لأنه الأقل تكلفة، والأكثر استقرارًا.
حتى المحتوى الذي يبدو “فارغًا” غالبًا ما يكون مصممًا بعناية: ألوان، زوايا تصوير، عناوين عامة، جُمل يمكن أن تعني أي شيء. هذا الفراغ المقصود يسمح لكل متلقٍ أن يملأه بما يريد، دون أن يتورّط في فهم محدد.
هل اللاشيء حيادي؟
قد يبدو اللاشيء غير مؤذٍ، لأنه لا يحمل رسالة واضحة. لكنه ليس محايدًا تمامًا. لأنه يزاحم. كل دقيقة تُقضى في محتوى بلا معنى، هي دقيقة لا تُقضى في قراءة، أو تفكير، أو تفاعل أعمق. اللاشيء لا يهاجم المعنى، لكنه يهمّشه عبر الإغراق.
يقول أحد الباحثين في ثقافة المنصات: “الخطر ليس في المحتوى الفارغ، بل في تحوّله إلى معيار.” حين يصبح اللاشيء هو القاعدة، يبدو المعنى استثناءً، وربما عبئًا.

المبدع أمام إغراء اللاشيء
هذا التحوّل لا يؤثر على الجمهور وحده، بل على صُنّاع المحتوى أيضًا. المبدع يجد نفسه أمام خيار صعب: أن ينتج ما يهمّه، أو ما تُكافئه الخوارزمية. اللاشيء أسهل، أسرع، وأكثر ضمانًا. المعنى أبطأ، وأثقل، وأقل انتشارًا. ومع الوقت، قد يتآكل الدافع، ويحلّ مكانه حساب الأداء.
لكن بعض المبدعين يختارون المقاومة الهادئة: إنتاج معنى حتى لو خسروا سرعة الانتشار. هؤلاء لا ينافسون اللاشيء على ملعبه، بل يراهنون على جمهور يبحث عن ما يتجاوز التدفّق.
هل يمكن للمعنى أن يستعيد جاذبيته؟
ربما لا بالطريقة القديمة. المعنى، في العصر الرقمي، يحتاج إلى أشكال جديدة، وإلى لغة لا تنفر، وإلى صبر متبادل بين المبدع والمتلقي. لكنه لن يختفي. لأن الإنسان، مهما استمتع باللاشيء، يعود في لحظة ما ليسأل: ماذا بقي؟
اللاشيء يملأ الوقت، لكنه لا يملأ الفراغ الداخلي. ومع تراكم الاستهلاك، قد يظهر عطش مختلف: عطش لما يترك أثرًا، حتى لو كان أقل راحة.
هل اللاشيء محتوى سيئ بالضرورة؟
ليس دائمًا، لكنه يصبح إشكاليًا حين يهيمن ويقصي المعنى.
لماذا ينجذب الناس إليه؟
لأنه خفيف، غير مطالب، ويمنح راحة مؤقتة من التفكير.
هل الخوارزميات تفضّله عمدًا؟
تفضّل ما يزيد زمن التفاعل، واللاشيء يحقق ذلك بكفاءة.
ما أثره على الوعي؟
قد يدرّب الذهن على السطحية، ويقلّل تحمّل المحتوى العميق.
هل يمكن التوازن بين الترفيه والمعنى؟
نعم، إذا لم يُختزل كل شيء في الأداء والانتشار.
في النهاية، حين يصبح “اللاشيء” محتوى جذابًا، لا يكون ذلك دليلًا على فراغ الجمهور، بل على نظام يكافئ الامتلاء الزائف. المعنى لا يختفي، لكنه ينسحب قليلًا إلى الخلف، منتظرًا من يختاره عن وعي. وفي هذا الاختيار، وحده، يبدأ استرداد ما يجعل المحتوى أكثر من مجرد وقتٍ يمرّ.
اقرأ أيضًا: الخطاب الديني تحت عين الذكاء الاصطناعي








