AI بالعربي – متابعات
يبدو أنّ الزمن لم يعد كما كان. لم يعد خطًا مستقيمًا ولا لحظة نعيشها بكثافتها، بل سلسلة اهتزازات رقمية تدفع وعينا إلى الخلف بينما تتقدم التطبيقات إلى الأمام.
في عالم تسوده الإشعارات اللحظية، والتحديثات الفورية، والتوصيات الفورية التي تقفز قبل رغبتنا، تطرح التكنولوجيا سؤالًا مزعجًا:
هل ما نعيشه الآن هو “الزمن الفعلي”؟ أم أنّ الزمن الحقيقي صار ملكًا للخوارزميات، بينما نكتفي نحن بظلٍّ متأخر منه؟
يقول عالم الإعلام الكندي “نيكلاس غيجان”:
“لم يعد الإنسان يعيش اللحظة، بل يعيش انعكاسها بعد أن يلتهمها النظام.”
في هذا المقال نقترب من تلك الفجوة: الفارق المخيف بين اللحظة كما نعيشها، واللحظة كما تقرر المنصات أن نظهر فيها.
انهيار اللحظة: من الزمن الداخلي إلى الزمن المحسوب
كان الزمن تجربة داخلية، لكن خوارزميات الهواتف حوّلته إلى وحدات قابلة للقياس.
زمن قراءة. زمن مشاهدة. زمن تفاعل.
كل ثانية تتحول إلى رقم يضاف إلى تقرير أسبوعي يقيّم حياتنا دون أن ننتبه.
وحين يتحول الزمن إلى بيانات، يبدأ الوعي في التفتت.
إذ لم يعد الإنسان يعيش اللحظة بوصفها نَفَسًا مستمرًا، بل بوصفها حدثًا يجب أرشفته أو تقييده أو تحويله إلى “تقدم يومي”.
ولهذا يشعر الكثيرون بأن يومهم “اختفى” حتى وإن أنجزوا الكثير، لأن وعيهم بقي محجوزًا بين إشعار وإشعار.

الخوارزميات التي تتوقعك قبل أن تصل إلى اللحظة
تعتمد التطبيقات الحديثة على نماذج تنبؤية تسبق حاجتك الحقيقية بثوانٍ أو دقائق.
المنصة تعرف أنك ستفتحها قبل أن تفكر في ذلك.
تعرف أنك ستشاهد الفيديو الفلاني لأن سلوكك السابق يشبه آلاف الأشخاص الذين فعلوا الأمر نفسه.
وهكذا، يتحول المستقبل القريب إلى مخطط مسبق، والحاضر إلى تنفيذ تلقائي لسيناريو لم نكتبه نحن.
الوعي البشري الذي كان يسبق الفعل، صار تابعًا له.
أو كما يقول الباحث الألماني “هانس ريختر”:
“الخوارزمية لا تتنبأ بالإنسان فقط، بل تحرّضه على أن يتطابق مع توقعاتها.”
كيف ساهمت بيئة التطبيقات في تمزيق الزمن؟
تستند معظم التطبيقات الكبرى إلى مبدأ “التفاعل الفوري”، وهو ما يجعل اللحظة تُستبدل قبل أن تستقر في الوعي.
نقلب الصفحة قبل أن نفهمها.
نبدّل الفيديو قبل أن نتأثر به.
نقرأ العناوين بدل المقالات.
نمرّ فوق الزمن بدل العيش فيه.
من هنا يتفتت الزمن الحقيقي، لأن كل لحظة تُستبدل بلحظة أخرى قبل اكتمالها، فيتحول الإنسان إلى كائن يعيش نصف-تجربة، نصف-انتباه، نصف-حضور.

الذاكرة اللحظية الجديدة: أرشيف بلا عُمق
حتى الذاكرة لم تنجُ من هذا التفتت.
الصور تتراكم بلا معنى.
اللحظات توثَّق أكثر مما تُعاش.
والخوارزمية تقترح “ذكريات” لم نقرر الاحتفاظ بها أصلًا.
بهذا يصبح الزمن سلسلة لقطات لا رابط بينها.
مجموعة مشاهد لا رواية لها.
وهو ما يجعل الإنسان يشعر بفراغ داخلي رغم امتلاء يومه بالمحتوى.
التنبؤ كقوة سياسية واجتماعية
لم يعد الزمن الخوارزمي مجرد جانب تقني، بل صار أداة اجتماعية وسياسية.
فكلما زادت قدرة المنصات على توقع سلوك المستخدم، زادت قدرتها على توجيهه.
وهكذا يصبح المستقبل الشخصي نسخة من مستقبل جاهز صُمّم عبر المتوسطات الإحصائية.
إن ما يُقدَّم لك من محتوى ليس نتيجة خياراتك فحسب، بل نتيجة ما تريده الخوارزميات منك أن تريده.
وبذلك يتحول الزمن الحقيقي إلى زمن مُدار، وزمن مُعدّ مسبقًا.

بين البطء الإنساني والسرعة الرقمية
الإنسان بطبيعته كائن بطيء. يحتاج وقتًا ليشعر، ووقتًا ليقرر، ووقتًا ليفهم.
لكن التطبيقات لا تعرف هذا الإيقاع.
هي تتحرك بسرعة الضوء، وتعيد تشكيل الزمن داخل شاشة لا تعترف بظِلّ ولا بفراغ ولا بصمت.
وهنا يحدث الصدام:
سرعة لا تلائم بُنية الوعي البشري، وبطء لا يتحمله النظام الرقمي.
ما المقصود بتفتّت الزمن الحقيقي؟
هو فقدان اللحظة لوحدتها الشعورية بسبب تحويلها إلى أجزاء صغيرة تُقاس وتُسوّق وتُستهلك بسرعة تفوق قدرة الوعي على معالجتها.
أي أن الإنسان يرى الزمن وهو يتقدم، لكنه لا يعيش تقدّمه.
كيف تسبق التطبيقات وعي الإنسان؟
تعتمد نماذج التوقع على قراءة سلوكك، وتحليل إيقاعك اليومي، وت anticipations للمحتوى الذي ستختاره قبل أن تختاره فعلًا.
الوعي يصبح ردّ فعل لما قرره النظام مسبقًا.
هل يؤدي هذا إلى فقدان الإحساس باللحظة؟
نعم، لأن اللحظة تُستبدل باستمرار قبل اكتمالها.
الإشعار التالي يقتل المشهد السابق، والفيديو الآخر يقتل التأثير السابق، والذاكرة الرقمية تقتل التجربة الحية.
هل يؤثر الزمن الخوارزمي على الهوية؟
تمامًا.
فالهوية تُبنى على الاستمرارية الزمنية، لكن عندما يتفكك الزمن، تتفكك الهوية معه.
يتحول الإنسان إلى ذات مُوزعة بين عشرات اللحظات المبتورة.
كيف يمكن استعادة الزمن البشري؟
لا عبر الهروب من التكنولوجيا، بل عبر استعادة البطء.
القراءة الطويلة.
الصمت.
اللحظات غير المصوّرة.
الأعمال التي لا تُشارك.
الوقت الذي لا يقيسه أحد.
عندما يصبح الزمن مساحة للمقاومة
في النهاية، ليست المشكلة في التكنولوجيا، بل في الوعي الذي لم يتكيف بعد مع سرعة الآلة.
يمكن أن نستعيد زمننا، لكن علينا أولًا أن ندرك أنه ليس الزمن الذي تقدّمه المنصات، بل الزمن الذي نصنعه نحن.
فاللحظة التي لا نعيشها لن تعيش فينا، والوعي الذي يُختطف كل دقيقة لن يستطيع أن يبني ذاتًا مستمرة.
قد تسبقنا الخوارزميات إلى اللحظة، لكننا وحدنا نملك القدرة على استعادتها عبر شيء لا تستطيع الآلة محاكاته:
الانتباه البشري المُتعَمَّد.
اقرأ أيضًا: الحزن الآلي.. ماذا يعني الفقد لنموذج لغوي؟








