الذكاء الاصطناعي وصناعة الفضاء
ريم سنان
الذكاء الاصطناعي بإيجاز هو جميع أنواع التقنيات التي تُمكن أجهزة الحاسوب من محاكاة الذكاء البشري، وكمثال على ذلك أجهزة الحاسوب التي تحلل البيانات أو الأنظمة المضمنة في مركبة ذاتية القيادة. عادة ما يتم تدريس أنظمة الذكاء الاصطناعي عبر كتابة قدر هائل من البرمجيات المعقدة لتمكن أجهزة الحاسوب التي تحتوي على هذه البرمجيات من أداء مهام مختلفة ذكية من دون أي تدخل بشري.
ويمكن أيضاً تحقيق الذكاء الاصطناعي من خلال التعلم الآلي “Machine Learning” الذي يمرن الآلات على التعلم الذاتي، وهذه الطريقة تتلخص في “تدريب” خوارزمية بسيطة نسبياً لتصبح أكثر تعقيداً مع مرور الوقت، حيث يتم إدخال كميات هائلة من البيانات في الخوارزمية والتي تُعدل وتُحسن نفسها عن طريق تطوير شبكات عصبية اصطناعية. ويوجد أيضاً أسلوب متخصص داخل التعلم الآلي يسمى التعلم العميق “Deep Learning” حيث يستخدم الحاسوب شبكات عصبية صناعية متعددة الطبقات لتدريب نفسه على المهام المعقدة مثل التعرف على الصور، وخدمات الترجمة عبر الإنترنت، وأنظمة الملاحة للسيارات ذاتية القيادة أو المركبات الفضائية.
يعتبر الذكاء الاصطناعي من أهم مجالات علوم المستقبل لأنه يشكل أساس تعلم الحاسوب الذي بات جزءاً أساسياً في تكوين الأجهزة الحديثة، حيث تتمتع هذه الأجهزة بالقدرة على تحليل واستيعاب قدر هائل من البيانات واستخدام ذكائها المكتسب لاتخاذ القرارات في وقت قصير نسبياً مقارنة بالوقت الذي يستغرقه للإنسان، فأصبح الذكاء الاصطناعي يمس جميع المجالات من الاكتشافات الطبية في أبحاث السرطان إلى أحدث الأبحاث في تغير المناخ والأجهزة الذكية في السيارات والطائرات والمركبات الفضائية حتى بات من الصعب تجاهل تأثير الذكاء الاصطناعي على حياتنا اليومية.
ومن ضمن المجالات التي يتم استخدام تطبيقات الذكاء الاصطناعي فيها وبشكل مكثف هو مجال الفضاء وعمليات بناء وإدارة الأقمار الصناعية، والتي تتضمن عمليات تحديد المواقع النسبية، والاتصالات، وإدارة نهاية الحياة العمرية للقمر وغيرها من العمليات المعقدة. كما تُستخدم أنظمة التعلم الآلي بشكل شائع في التطبيقات الفضائية لتقريب التمثيلات المعقدة للعالم الفعلي، خصوصا في عمليات تحليل كميات هائلة من بيانات رصد الأرض أو بيانات القياس عن بعد من المركبات الفضائية، فالذكاء الاصطناعي بات يلعب دوراً مهماً في تسهيل هذه العمليات وإدارتها بكفاءة ودقة عالية. لقد أصبح وجود أنظمة التعلم الآلي في المهام الفضائية واسع النطاق فعلى سبيل المثال مركبات استكشاف سطح الكوكب الأحمر استخدمت الذكاء الاصطناعي للتنقل بمفردها وتنفيذ عمليات الاستكشاف والتحليل المتنوعة.
للذكاء الاصطناعي مساهمات هامة واستراتيجية في استدامة قطاع الفضاء حيث يتم الاستفادة منه في تصميم المهام الفضائية لتنظيف المدارات الأرضية من الركام الفضائي الذي بات يشكل خطراً متزايداً على سلامة المركبات الفضائية، إضافة لمراقبة تحرك الركام الفضائي وإجراء الحسابات الخاصة لتوقع موعد ومكان سقوطه على الأرض. ومن الأمثلة الهامة على استخدامات تطبيقات الذكاء الاصطناعي في صناعة الفضاء ما قامت به وكالة الفضاء الأوروبية “ESA” من دراسة الحساب التطوري “Evolutionary Computation” والذي تضمن كتابة خوارزميات بطريقة تأخذ جميع خيارات التطورات وتحتفظ بأفضل النتائج وترفض أسوأ النتائج، كما هو الحال في التطور البيولوجي للكائنات الحية. فكان أحد تطبيقات هذه الدراسة هو حساب المسارات الفضائية ومسارات الكواكب. كما تم استخدام التعلم الآلي في مجال التوجيه والملاحة والتحكم في المركبات الفضائية، واستخدام برامج نقل البيانات الذكي الذي يُستخدم على متن مركبات المريخ لتفادي فقدان البيانات القيمة من التدخلات البشرية ويحد من إشراف الإنسان على المهام المختلفة. إضافةً إلى ذلك، اكتسبت وكالة الفضاء الأوروبية خبرة واسعة في استخدام الذكاء الاصطناعي لاستخلاص معلومات قيمة من كميات هائلة من البيانات، ويتم تنفيذ هذه التقنية في تطبيقات كثيرة في حياتنا اليومية مثل مراقبة أعداد السيارات في مراكز التسوق، والتنبؤ بالأداء المالي والتجاري لتجار التجزئة، ومراقبة تغير المناخ، ودعم قوات الشرطة في جهودها للقبض على الجناة وحفظ الأمن ومراقبة صحة كبار السن ومرضى القلب.
يُعد مجال مراقبة الأرض أحد المجالات التي يتم استخدام الذكاء الاصطناعي فيها بشكل واسع، من الأمثلة على ذلك استخدام الذكاء الاصطناعي لرصد المؤشرات الاقتصادية من خلال دمج بيانات الأقمار الصناعية والذكاء الاصطناعي لمراقبة التغييرات في الإنتاج في إحدى الشركات المصنعة للسيارات في ألمانيا وحركة الطائرات في مطار برشلونة.
قبل قرابة العام تم إطلاق أول قمر صناعي أوروبي لرصد الأرض صمم وفق أفضل ما وصل اليه الذكاء الاصطناعي وتمثل ذلك في شكل شريحة إلكترونية “ɸ-sat-1 AI chip” لتحسين كفاءة إرسال كميات هائلة من البيانات إلى الأرض. ويعمل أيضاً مركز الفضاء الألماني على تطوير أساليب الذكاء الاصطناعي لتطبيقات الفضاء والأرض، حيث أطلقت في عام 2018 مساعداً ذكياً “CIMON” يستخدم الذكاء الاصطناعي لدعم رواد الفضاء في مهامهم اليومية على متن محطة الفضاء الدولية، وهذا المساعد قادر على الرؤية والتحدث والاستماع والفهم وحتى الطيران!
في سبيل تحقيق إنجازات كبيرة ومتميزة تعاونت وكالة ناسا مع جوجل لتدريب خوارزميات الذكاء الاصطناعي المكثفة الخاصة بها لنخل البيانات من مهمة كبلر “Kepler” بشكل فعال للبحث عن إشارات من عبور كوكب خارج المجموعة الشمسية أمام نجمها الأم، وأدى هذا التعاون الناجح إلى اكتشاف اثنين من الكواكب الخارجية الجديدة التي لم يتمكن العلماء من اكتشافها مسبقاً. بعد نجاحه الأولي، يقوم المشروع بنخل البيانات من المهام والبعثات الأخرى لمواصلة البحث عن كواكب جديدة. ويقوم مشروع الذكاء الاصطناعي الأوروبي لتحليل البيانات “AIDA” باستخدام بيانات وكالة الفضاء الأوروبية ووكالة ناسا من جميع أنحاء النظام الشمسي لتطوير نظام ذكي لقراءة البيانات الفضائية ومعالجتها، بهدف كشف المتميز والتعرف على المكونات وتحديد الاكتشافات الجديدة.
لقد ساهم الذكاء الاصطناعي في تطور التقنيات الناشئة مثل البيانات الضخمة “Big Data” والروبوتات وإنترنت الأشياء “IoT”، وسيستمر الذكاء الاصطناعي كمحرك رئيسي لابتكارات تكنولوجية لا حد لها في المستقبل. ومن الجدير بالذكر أن 18 بالمائة من الاختراعات المسجلة خلال عام 2018 كانت مرتبطة بالذكاء الاصطناعي.
في هذا المقال من الجيد أن نستذكر ما قاله مارك جيونجيوسي “Marc Gyongyosi” المؤسس والرئيس التنفيذي لشركة أجهزة الطيران الذكية “Intelligent Flying Machines-IFM” حيث قال بالتحديد: “يحتاج الناس إلى تعلم البرمجة مثلما يتعلمون لغة جديدة، وهم بحاجة إلى القيام بذلك في أقرب وقت ممكن لأنه المستقبل فعلاً. في المستقبل، إذا كنت لا تعرف صياغة الرموز التشفيرية والترميز، فأنت لا تعرف البرمجة، وستزداد الأمور صعوبة”.
وقد تطورت هذه التكنولوجيا بشكل كبير خلال العقدين الماضيين، ولكن ما زال هناك صعوبة في استخدام الذكاء الاصطناعي لتعقيد النماذج والهياكل الضرورية لتعلم الآلة، وصعوبة التكيف وقلة الموثوقية فيها في البرامج الجديدة حيث مازالت تحتاج إلى تحسين قبل أن تصبح مفيدة وتستخدم على نطاق واسع في صناعة الفضاء. ولكن من المتوقع أن يكون للذكاء الاصطناعي تأثير دائم على جميع القطاعات، وأن يزداد تأثيره في العديد من الصناعات المختلفة في المستقبل القريب.