الصحافة في عصر البيانات والذكاء الاصطناعي
أمجد المنيف
تزايد الحديث في السنوات الأخيرة، حول استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي في الصحافة والإعلام، وظهرت بقوة مصطلحات مثل: صحافة الذكاء الاصطناعي “Artificial Intelligence Journalism”، أو التي تعرف اختصارا بـ”AI Journalism”.
صحافة الذكاء الاصطناعي يمكن وصفها بثورة الإعلام الجديد، التي تعدُّ متوافقة تمامًا مع تقنيات الثورة الصناعية الرابعة، تلك التقنيات التي ينتشر استخداماتها في معظم جوانب حياتنا، والصحافة ووسائل الإعلام من ضمنها بالتأكيد. لذا؛ ظهر ما يعرف باسم “صحافة الروبوت Robojournalism” التي تعتمد على الروبوت في تأدية بعض المهام الإعلامية كالتصوير واكتشاف بعض الأخبار الزائفة.
لم تعد الصحافة بمعزل عن التقنية، إذ باتت تؤثر في كل مكوناتها التفصيلية، فهناك دراسات ما زالت في بداياتها تدرس حقبة جديدة من الاتجاهات الصحفية لما بعد “صحافة الذكاء الاصطناعي” تُعرف بـ”صحافة الجيل السابع”، أو “G7 Journalism”.
إن مفهوم صحافة الذكاء الاصطناعي يعتمد على كيفية استخدام تقنيات الثورة الصناعية الرابعة في الإعلام وكيفية دمجها وإعادة هيكلها في وظائف إعلامية جديدة، ومبتكرة، تعتمد اعتمادًا جزئيًا أو كليًا على تقنيات جيدة مثل: الذكاء الاصطناعي، والبلوك تشين، وتحليل البيانات الضخمة، وإنترنت الأشياء، إلى جانب الطباعة ثلاثية الأبعاد والروبوتات.
من البديهي والمعروف أن العمل في الصحافة والإعلام يحتاج إلى الابتكار والإبداع، لكن الأمر لم يعد كذلك كثيرًا، إذ إن هناك العديد من الأدوار التي يؤديها صحفيون الآن بعيدة تمامًا عن الابتكار أو الإبداع، كبعض أنواع الكتابة أو مراجعة النصوص، أو حتى قراءة نشرات الأخبار، كلها أدوار من السهل أن يقوم بها “الروبوت” دون التدخل البشري. وتشير عديد من توقعات الخبراء إلى أن الأمر أصبح مسألة وقت فقط، حتى نرى غرفًا إخبارية كاملة تُدار دون ظهور “الإنسان”، الذي سيصبح ظهوره محدودًا، فصحافة الذكاء الاصطناعي لا تعتمد على عدد كبير من المعدّين والعناصر البشرية الفنية كالمصورين وغيرهم، وهو الأمر الذي ينعكس إيجابًا على رفع الجودة وتقليل التكلفة وزيادة التنافسية.
الذكاء الاصطناعي وتطوير الصحافة
يكثر الحديث اليوم عن تجارب مختلفة في استخدام تقنيات صحافة الذكاء الاصطناعي، سواء في إنتاج المحتوى الإعلامي، أو تحليل هذا المحتوى، أو نشره وتوزيعه، أو حتى تزييف البعض لهذا المحتوى، والكشف أيضًا عن طرق التزييف تلك عن طريق تقنيات الذكاء الاصطناعي.
السؤال المطروح بقوة الآن، هو: كيف يمكن أن تساهم تقنيات صحافة الذكاء الاصطناعي في تحسين جودة المحتوى الإعلامي؟ وكيف يمكن استخدام أدوات صحافة الذكاء في إنتاج المحتوى الإعلامي المميز؟
إن دور الذكاء الاصطناعي في مجال الإعلام صار يتزايد منذ عام 2012، إذ بدأ استخدام “صحافة الروبوت” التي تعتمد على استخدام الروبوت في صناعة المحتوى عبر المنصات الرقمية “فيسبوك، و”تويتر”، و”إنستغرام”، وغيرها. لقد زادت أهمية الذكاء الاصطناعي في تحرير الصحفيين من بذل الجهود لأداء مهام روتينية رتيبة، وإفساح المزيد من الوقت أمامهم للعمل على جوانب تتطلب إبداعًا بشريًا. بالتأكيد، ستستفيد المؤسسات الصحفية والإخبارية من تأثيرات “الذكاء الاصطناعي” عبر أتمتة العمليات المهنية وإنتاج الأخبار الروتينية، وستسهم في إنضاج المعالجات المهنية للقصص الخبرية، من جانب تقدير وتحليل الاتجاهات المُعقدة للأحداث بصورة سريعة تنبئية، كما يوفّر الذكاء الاصطناعي أدوات لمساعدة العاملين في مجال الصحافة على تحديد الأخبار الزائفة، مما يمنح المحررين الفرصة لبناء التقارير بشكل متوازن وموضوعي غير متحيز، مستندين إلى تحليل المعلومات الدقيق وليس العاطفة الشخصية أو المسيسة، وسيكون لذلك تأثيرات إيجابية على تلك المؤسسات منها – على سبيل المثال لا الحصر – تخفيف العبء المالي عنها، وتطوير مخرجاتها الإخبارية للصمود في وجه التنافس الإعلامي الشرس، وأهم من ذلك تطوير الأداء المهني للصحفيين وقدراتهم بما يوائم متطلبات المستقبل الجديد.
كذلك، لو تحدثنا عن تقنيات مثل الروبوت وكيف يمكن استخدامه في بعض الحالات الطارئة التي يصعب تدخل الإنسان فيها بشكل فوري، مثل حرائق الغابات، فإنه يمكن الاعتماد على بعض الروبوتات باستخدام الطائرات بدون طيار، وزرع كاميرات عالية الدقة داخلها، وبالتالي يصبح من السهل الحصول على صور ومقاطع فيديو وصوتيات موثقة للحظة وقوع الحادث من داخل الحرائق أو الأماكن التي لا يمكن أن يصل إليها الإنسان، وكذلك التغطيات الصحفية في الحرب، أو مكافحة الإرهاب.
إن تقنيات صحافة الذكاء الاصطناعي لن تؤثر سلبًا على مهنة الصحفي أو الإعلامي، بحسب معظم الآراء، بل ستساهم في تنمية مهاراته بصورة إيجابية، شريطة أن يكون الصحفي قادرًا على تنمية تلك المهارات وفقًا لما تتيحه تقنيات العصر من أدوات، لا سيَّما أن الوظائف الصحفية القابلة للاستبدال بالذكاء الاصطناعي تمثل 12% من حجم الأعمال الصحفية، وفقًا لتوقعات مجلة Analytics Insight الرقمية المتخصصة في الذكاء الاصطناعي والبيانات الضخمة.
وفي دبي أطلقت مؤسسة صحافة الذكاء الاصطناعي للبحث والاستشراف، في أواخر العام 2020، أول مؤشر من نوعه في العالم للذكاء الاصطناعي في الصحافة (GAIJI)، ويعمل المؤشر على قياس وتحليل 6 عناصر أساسية هي: “تقنيات الذكاء الاصطناعي قيد الاستخدام، والمحتوى المنتج، والمواهب البشرية التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي في أعمالها، والاستثمارات الكلية، ونقل المعرفة، والابتكار”.
وهذه الخطوة بطبيعة الحال هي شرارة الانطلاق لمبادرات أكثر من شأنها تحفيز السوق من جهة، ومحاولة فهمه وفهم متغيراته وتطوراته بشكل دقيق وآني من جهة أخرى.
البيانات الضخمة والصحافة
يمتلك الذكاء الاصطناعي قدرة فائقة على التفاعل الفوري مع البيانات وربطها بالخطوط العريضة للقصة. وفي حين أن كتابة التقارير الفصلية – كتقارير الأداء وغيرها – كانت تستغرق عادةً أسابيع من الجهد من قِبل فريق العمل الصحفي لصياغتها، فإنه يمكن للذكاء الاصطناعي الآن إعدادها في غضون ثوانٍ فقط!
بات من الطبيعي الاعتماد على الروبوت في تحليل البيانات الضخمة، التي قد تصل أحيانًا إلى الملايين من (الجيجا بايت) عن البيانات، التي يمكن تحليلها بهدف إصدار تقارير صحفية موثقة ومعمقة تعمل على مدار 24 ساعة في اليوم بشكل مستمر ودقيق، وتوفر الوقت والجهد.
فعلى سبيل المثال، استغرقت وثائق بنما شهورًا طويلة في تحليل بياناتها من أجل الخروج ببيانات عبر تقارير صحفية، في حين أن تقنيات الذكاء الاصطناعي يمكنها تحليل بيانات تفوق في حجمها وصعوبة موضوعاتها وثائق بنما، وفي وقت قصير.
وأبرز مثال على ذلك تجربة وكالة بلومبيرغ الإخبارية التي وظفت روبوتات الذكاء الاصطناعي للعمل على تحليل اتجاهات مجموعات البيانات الضخمة، وتقوم بإرسال تنبيهاتها إلى الصحفيين عند ظهور اتجاه أو تحول في هذه البيانات؛ لمساعدتهم على تحليل الأسواق بالشكل المهني المطلوب، ووفق رؤية اقتصادية متوازنة حيادية.
ما يمكن أن تقدمه البيانات الضخمة للمحتوى الصحفي والإعلامي، يبدو شيئًا مذهلاً، إذا ما جاءت اللحظة المناسبة للتوسع فيها، فصحافة الذكاء الاصطناعي بالاستناد إلى البيانات الضخمة تستطيع تقديم محتويات يصعب على الجهد البشري الخروج بها بذات الجهد والوقت والكلفة.
الاستفادة من الأتمتة
أشارت إحدى الدراسات التي أجرتها وكالة “ذا أسوشييتد برس” إلى أنه “بحلول العام 2027، ستحظى غرف الأخبار بترسانة من أجهزة الذكاء الاصطناعي، وسيعمل الصحفيون على الدمج السهل للآلات الذكية في منظومة عملهم اليومي. وسيتمكن الذكاء الآلي من القيام بأكثر من مجرد التمخض عن تقارير إخبارية مباشرة مؤتمتة”.
ومن أهم وأشهر تجارب صحافة الذكاء الاصطناعي والاستفادة من تقنيات الثورة الصناعية الرابعة، ما فعلته وكالة “رويترز” للأنباء، “التي أطلقت بالفعل أولى الخطوات في تمكين تقنيات الذكاء الاصطناعي من أداء مهام معينة في صناعة الخبر، عبر بناء غرفة الأخبار الإلكترونية تسمى Insight Lynx حيث يتم الاعتماد عليه من قبل الصحفيين في تنظيم الأخبار وجمعها من مصادر الإنترنت، واقتراح الأفكار، وتحليل البيانات، وحتى كتابة جمل كاملة إذا لزم الأمر”.
وكذلك أسست Reuters News Tracer، وهي “أداة قادرة على تتبع الأحداث بسرعة وعلى نطاق واسع، والتحقق تلقائيًا من الأخبار العاجلة في (تويتر) لتقديم تقرير عن الأحداث بدقة وبسرعة أكبر، وذلك من خلال تحديد موقع وهوية الشخص الذي كتب التغريدة، وكيفية انتشار التغريدات، وتحلل هذه الأداة التغريدة المنشورة في الوقت الحقيقي، وتصفي الرسائل غير المرغوب فيها، وتصنف التغريدات المماثلة إلى (مجموعات) على أساس كلمات مماثلة”. ولا نغفل تحالف وكالة “رويترز” وفريق شركة “سيمانتيك” لأتمتة مقاطع الفيديو التفاعلية من خلال تزويد المشتركين بالنفاذ لقاعدة ضخمة لبيانات تفاعلية مصورة.
أهم الممارسات الحديثة
برزت، مؤخرًا، عدة مجالات لتوظيف استخدام الذكاء الاصطناعي في العمل الصحفي، وتعتبر وكالة “الأسوشيتد برس” من أوائل المؤسسات الإعلامية التي استخدمت تقنيات الذكاء الاصطناعي في العمل الصحفي، فقد وظفت تقنيات الذكاء الاصطناعي في إنتاج تقارير اقتصادية ربع سنوية عن الدخول المالية، والنتيجة كانت مبهرة على مستوى الكم والكيف معًا، فقد ساهمت التقنية الجديدة في إنجاز أكثر من 3000 تقرير اقتصادي بدلاً من 300 تقرير كان يستغرق من الصحفيين الكثير من الوقت والمجهود، وأكثر من ذلك، أن تلك التقارير تتضمن نصائح الخبراء، كما أن الأرقام والحقائق الواردة في هذه التقارير دقيقة. وباتت الوكالة تستخدم “روبوتات” تؤدي المهام الإخبارية الأساسية مثل كتابة فقرتين إلى ست فقرات عن النتائج الرياضية وتقارير الأرباح الفصلية.
كذلك، استطاع “هيليوجراف”، وهو الروبوت المراسل لصحيفة “واشنطن بوست” الأميركية خلال عام واحد (منتصف 2016-2017)، أن ينجز 850 موضوعًا صحفيًا، كانت بدايتها 300 تقرير حول “أوليمبياد ريو دي جانيرو”، وبعد هذه التجربة الناجحة استخدمت الجريدة “الروبوت” في تغطية سباق الانتخابات الأميركية يوم الانتخابات، ودوري كرة القدم للمدارس الثانوية في واشنطن، إلى جانب إنتاج العديد من القصص والتغريدات المختلفة.
أيضًا، وظفت صحيفة “نيويورك تايمز” تقنية جديدة للذكاء الاصطناعي بطريقتين: تقوم الطريقة الأولى على تبسيط العملية الصحفية من خلال استخدام الوسوم tags، فقد تعلم الكمبيوتر التعرف على الكلمات المفتاحية الدالة على الملامح الرئيسية في النص، والتي تساعد المستخدمين في سرعة عمليات البحث، واستخراج المعلومات والتحقق من الأخبار. أمَّا الطريقة الأخرى، فهي استخدام الذكاء الاصطناعي في إدارة تعليقات القراء؛ لأن قسم “تعليقات القرّاء” تتم إدارته بواسطة فريق عمل مكون من 14 محررًا يتولون مسؤولية مراجعة حوالي 11 ألف تعليق يوميًا. ولكن مكنت التقنية الجديدة Perspective API التي طورها Jigsaw من إدارة وتنظيم تعليقات القرّاء بفعالية، وبالتالي تمكن المستخدمون من قراءة تعليقات القراء بواسطة تمرير شريط من اليسار إلى اليمين، ويدل الجزء الأيمن من الشريط على الموضوعات التي تنطوي على تعليقات سلبية، وهذه طريقة جيدة للمستخدمين للقراءة والتفاعل مع التعليقات التي تروق لهم وتجنب التعليقات التي تحمل وجهات نظر عدائية.
وقد نشرت صحيفة “ذا جارديان” مقالات كتبها “ريبورتر ميت”، وهو روبوت يعمل على تحويل البيانات إلى تقارير نصية جاهزة للنشر. ووفقًا لصحيفة “نيويورك تايمز”، فإن ما يقرب من ثلث المحتوى الذي نشرته “بلومبيرغ” يتم عبر أنظمة آلية دون الحاجة إلى العنصر البشري. كل ذلك يترافق مع توقّعات بأن يتمكّن الذكاء الاصطناعي من كتابة 90% من إجمالي الأخبار بحلول العام 2025.
ويوجد منصات إخبارية عريقة أخرى تعمل على مشاريع تقنية متقدمة لتطوير عملية استخراج المحتوى الإخباري وكتابة القصص والأخبار الصحفية، مثل: “واشطن بوست” التي طورت مفهوم الصحافة الآلية (Automated Journalism) واستخدمت هذه التقنيات لتحليل الأخبار المتعلقة بأولمبياد “ريو دي جانيرو” في البرازيل. أيضًا منصة CNN تستخدم نظام “شات بوت” أو الشات الآلي لإرسال تقرير يومي لحسابك في “فيسبوك مسنجر” عن أهم الأخبار التي تهمك بناء على اهتماماتك. كذلك تقوم صحيفة “الجارديان” بذات الشيء. أما صحيفة “نيويورك تايمز”، فهي تعمل أيضًا على تقليص عمليات بناء القصص الصحفية والأخبار عبر مشروع Editor الذي يقوم على تحليل المحتوى وفهمه عبر تقنيات الذكاء الاصطناعي وتعلم الآلة.
صحافة النشرات البريدية
يعدُّ إنشاء نشرة بريدية للمواقع الإلكترونية طريقة فعالة لإعادة جذب القراء وإبقائهم على اتصال بأحدث الأخبار والمستجدات، حيث تساعد النشرات البريدية زوار المواقع بالعودة إليها باستمرار.
تعتبر النشرات البريدية ضرورية في نقل تسويق الوسيلة الإعلامية إلى المستوى التالي، فهي تفتح الإخبارية لزيادة فهم ومعرفة المواد الخاصة التي تقدمها، كما أنها توسع الآفاق وتعطي الجمهور صورة أوسع، ويمكن أن يؤدي تضمين روابط مفيدة وإعطاء أوصاف مرئية إلى جذب المزيد من القراء.
ومن أشهر الصحف التي تتميز في النشرات البريدية، صحيفة “التايمز” التي لديها 13 مليون مشترك لأكثر من 50 نشرة إخبارية عبر الرسائل الإلكترونية، “مما يعني أن التايمز لديها قناة اتصال مع مستخدميها لا يمكن أن يمسّها لا فيسبوك ولا جوجل ولا عمالقة إيرادات الإعلانات. وعندما يتلقى المستخدمون رسالة إلكترونية ويضغطون على الرابط، يتم توجيههم تلقائيًا إلى موقع التايمز والمعلنين الخاصين بالصحيفة، كما يعني أن الأشخاص المشتركين بالرسائل البريدية المجانية عبر التسجيل لديهم علاقات أكثر مباشرة وطويلة مع الناشر”.
التواصل المباشر يترجم بعض النتائج الاقتصادية: مشتركو نشرات البريد الإلكتروني من المرجح أن يصبحوا مشتركين أكثر بمرتين من قرّاء “التايمز” المنتظمين. كما أنهم يقرؤون بمعدل ضعف ما يقرؤه قارئ “التايمز” المنتظم خلال الشهر. وتسمح هذه العلاقة للناشر بتطوير خطوط عائدات أكبر.
يعتبر البريد الإلكتروني طريقة ممتازة للتفاعل مع المستخدمين وخلق طريق اتصال حقيقي بالاتجاهين. حتى الآن عدد كبير من المؤسسات الإخبارية الرقمية لا تبذل جهودًا لتطوير وامتلاك علاقة مع المستخدمين، تلك العلاقة مع المستخدمين الأوفياء التي تسمح للمؤسسة الإعلامية بتطوير مصادر إيرادات عدة، كما أنها مفتاح تحقيق الاستمرارية، وفوق هذا يمكن إدارة النشرات البريدية اليوم وصناعتها وتوجيهها بالاعتماد على الذكاء الاصطناعي بالكامل دون التدخل البشري، فيمكن اختيار اهتمامات القارئ وإمداده بالنشرات وتنسيقها أيضًا في قوالب مميزة، وتزويد الناشر بالإحصائيات الدقيقة حول عمليات التفاعل لتحسين التجربة بشكل مستمر.
الربح من شركات التقنية
معركة حامية الوطيس تدور رحاها حاليًا، بين عملاق التواصل الاجتماعي “فيسبوك”، والحكومة الأسترالية، على قانون مقترح من شأنه أن يجعل عمالقة التكنولوجيا يدفعون مقابل المحتوى الإخباري.
“فيسبوك” رد على القانون الأسترالي بإجراء حاد، حيث حظر على مستخدمي موقعه في أستراليا استعراض أو مشاركة أي محتوى إخباري عبر المنصة، وهو ما أثار الكثير من القلق بشأن إطلاع الجمهور على معلومات أساسية.
ورغم الشد والجذب، فإن ما حصل يفتح الباب أمام مصدر ربح كبير للمواقع الإخبارية والصحف، خاصة إذا اضطر “فيسبوك” في النهاية للانصياع للقرار الأسترالي، لا سيَّما أن هيئة تنظيم المنافسة الأسترالية قالت إنها وضعت قوانين “لتسوية ساحة المنافسة” بين عمالقة التكنولوجيا والناشرين فيما يتعلق بالأرباح.
ومن المتوقع أن يستجيب “فيسبوك” في نهاية المطاف للقرار الحكومي، الذي يحظى بموافقة البرلمان الأسترالي ودعم واسع من كافة الأحزاب، وهو ما سيشكل خطوة مهمة للناشرين والصحف في كافة دول العالم، التي يتوقع أن تحذو حذو الحكومة الأسترالية في تعاملها مع عمالقة التكنولوجيا.
وبالتزامن مع هذه المعركة الساخنة، وفي سياق متصل بذات الأمر، اتفقت شركة “جوجل” مع مجموعة “نيوز كورب” الإعلامية على تسديد مقابل لما تنشره من محتوى تنتجه وسائل الإعلام التابعة للمجموعة.
وقالت مجموعة “نيوز كورب”، التي أسسها “روبرت مردوخ”، إنها ستتداول قصصها الإخبارية مع جوجل مقابل “مدفوعات كبيرة”. ومن الصحف التي تملكها المجموعة “ذا صن”، و”ذا تايمز”، و”وول ستريت جورنال”، و”ذي أستراليان”. ويدعو “مردوخ” منذ فترة طويلة جوجل وغيرها من منصات الإنترنت إلى الدفع مقابل محتوى وسائل الإعلام.
وفي العام الماضي، قالت “جوجل”، بعد تعرضها لضغوط من برلمانيين في أستراليا وبلدان أخرى، إنها ستشرع في تسديد مقابل لما تنشره بعض وسائل الإعلام.
وبالإضافة إلى دفع مقابل مادي، قررت “جوجل” إدخال تعديلات على تطبيقها الخاص بالأخبار، مثل الترويج للناشرين المشاركين في القسم الخاص بعرض الصحف. كما تتيح التعديلات للناشرين فرصة اختيار القصص التي تنشر عبر جوجل وكيف تظهر للقراء.
وينص الاتفاق، الذي تبلغ مدته ثلاثة أعوام، أيضًا على تعاون “جوجل” و”نيوز كورب” في إطلاق موقع للاشتراكات المدفوعة، واقتسام عائدات الإعلانات، والاستثمار في صحافة الفيديو بموقع “يوتيوب”.
وسبق أن أبرمت مجموعة “نيوز كورب” عقودًا للدفع مقابل المحتوى مع “أبل” و”فيسبوك”. ولم تُعلن التفاصيل المالية للاتفاقات.
وأفادت وكالة “رويترز” للأنباء بأن “جوجل” وافقت على دفع 76 مليون دولار خلال ثلاثة أعوام لمجموعة من 121 ناشرًا في فرنسا لإنهاء نزاع بشأن قوانين حقوق الملكية الفكرية في أوروبا.
تحديات وعقبات
موجة الابتكار التكنولوجي المقبلة لا تختلف عن سابقاتها، بمعنى أن نجاحها سيظل يعتمد على كيفية تطبيق الصحفيين للأدوات الجديدة. فالذكاء الاصطناعي صناعة بشرية، وكافة التأثيرات الأخلاقية والتحريرية والاقتصادية المرعية لدى إنتاج محتوى إخباري تقليدي لا تزال تطبّق على هذا العصر الجديد من الصحافة.
وعلى الرغم من تنامي دخول الذكاء الاصطناعي في مجال الإعلام والصحافة وغيرها من المجالات الإبداعية، ورغم المزايا العديدة التي يقدمها في هذا المجال، فإنه ما زال يواجه العديد من الصعوبات.
من هذه الصعوبات، عدم الفاعلية عند قلّة البيانات، حيث يعمل التعلّم الآلي بشكل أفضل عندما تتوافر بيانات كافية لاكتشاف الأنماط فيها والتعلّم منها. ففي حين يمكن للصحفيين أن يقارنوا ويتوصلوا إلى الاستجابات من خلال عدد قليل من التجارب المشابهة، فإن الذكاء الاصطناعي يتطلّب كميات كبيرة من البيانات لمعرفة ما يجب أن تكون عليه الاستجابة الصحيحة. ومن دون توافر هذه البيانات، تكون قدرة الذكاء الاصطناعي محدودة.
كما أن الذكاء الاصطناعي يفتقر إلى الإبداع الذي يعد المفهوم الأساسي في الصحافة؛ فهو يعكس طريقة التفكير الإنسانية بما في ذلك الكتابة الإبداعية. لا تستطيع الخوارزميات توليد الشعور العام المطلوب لإلهام ردود أفعال القراء العاطفية، مثل: الضحك، أو التعليق على حادثة ما، ولا يمكن لها كذلك فهم ومراقبة التطورات غير المتوقعة؛ لذلك لا تزال المهارات التحليلية والإبداع ميزة يتفوق بها الصحفيون على الذكاء الاصطناعي.
أيضًا، يفتقر الذكاء الاصطناعي إلى الوعي الذاتي والقدرة على شرح مخرجاته: لماذا كتب هذه القصة الإخبارية؟ أو كيف وصل إلى نتيجة معينة؟ ينبغي التفكير في تصميم الذكاء الاصطناعي بطريقة تجعله مسؤولاً أمام القرّاء. قد يتمثل أحد الحلول لتحقيق ذلك في السماح للقرّاء بضبط متغيرات الخوارزمية لمعرفة كيف تتغيّر النتائج، وليعرف القرّاء إن كانت القصة مؤلّفة من قِبل الذكاء الاصطناعي أو البشر.
تحدٍّ آخر يواجه صحافة الذكاء الاصطناعي، ألا وهو إمكانية تسلل التحيّز قبل فترة طويلة من جمع البيانات، وكذلك في العديد من المراحل الأخرى من عملية التعلّم العميق، ويعتبر التحيز من التحديات الكبيرة أمام الصحافة المعتمدة على الذكاء الاصطناعي.
كما أنه لا تزال المضاعفات الأخلاقية والقانونية المتعلقة بالأخبار المؤتمتة تحظى بقليل من الإجابات وتطرح الكثير من التساؤلات المعنية بالتحقق من تبعات القرارات الخوارزمية على المجتمع. ويمتد الجدال إلى مساحات صحفية أخرى مثل المساءلة القانونية، فظهور محتوى تشهيري لن يعفي الناشر من المسؤولية حتى لو كان تمَّ الاعتماد على الذكاء الاصطناعي والأتمتة في كامل عملية التحرير والنشر.
ولا يجب إغفال أن صحافة الذكاء الاصطناعي سوف تخلق ثورة جديدة في صناعة الإعلام، حيث لا حدود جغرافية، ولا قانونية، ولا قيود تضعها الحكومات على حرية نقل الخبر، أو الوصول إلى المعلومات؛ المنافسة قوية جدًا، والرابح في السباق من يقتنص تلك الفرص ويستحوذ على أحدث التقنيات الحديثة ويقوم بدمجها في صناعة الإعلام. وللأسف قد تتحول دول العالم الثالث إلى سوق مخترقة من كافة تلك القنوات والتقنيات الحديثة وصولاً لمعلومات سيادية من قبل وسائل الإعلام وصحافة الذكاء الاصطناعي.
هناك دراسات ما زالت في بداياتها تدرس حقبة جديدة من الاتجاهات الصحفية لما بعد “صحافة الذكاء الاصطناعي” تُعرف بـ”صحافة الجيل السابع”، أو “G7 Journalism”، ويتوقع ظهورها عام 2040، مع اختفاء المؤسسات الإعلامية التقليدية بشكلها الحالي وإحلالها بمراكز معلوماتية تغطي كل بقاع العالم، بحكم قوة شبكة الإنترنت وانتشارها المهول في كل بقاع الكرة الأرضية.
توصيات
– التوسع في الاعتماد على الذكاء الاصطناعي والبيانات في الصحافة مسألة وقت، ولذلك من المهم التفكير في كيفية الاستفادة المثلى من هذا التطور.
– على وسائل الإعلام مواكبة التطور الحاصل والابتعاد عن التقليدية واستخدام التقنيات الحديثة.
– من المهم إطلاق جلسات لمناقشة التشريعات الخاصة بصحافة الذكاء الاصطناعي وما سيتبعها من إشكاليات قانونية وأخلاقية.
– ينبغي للمؤسسات التي ستتبنى الذكاء الاصطناعي حل معضلات قلة البيانات وافتقاره للوعي الذاتي والإبداع.
– النظر إلى تقنيات الذكاء الاصطناعي بمنظور استثماري يمكن من خلاله إعادة بث الروح في قطاع الصحافة، خصوصًا بعد انكماش الصحافة الورقية وسوق الإعلانات المصاحب لها والحاجة إلى وجود بدائل جديدة.