مستقبل الجمال والذكاء الاصطناعي.. هل تختلف المعايير؟

12

AI بالعربي – متابعات

يعتبر الجمال من أبرز المعايير التي يهتم بها الإنسان، رغم اختلافه بين الثقافات والشعوب. يعبر الناس عن تقديرهم للجمال من خلال الإعجاب، والشعر، والأغاني، أو الأعمال الفنية، ولكل منهم رؤيته ومزاجه الخاص. ومع ذلك، أصبح الجمال اليوم من المفاهيم التي تأثرت بالذكاء الاصطناعي، مما أثار جدلاً حول ما إذا كانت المعايير المستقبلية ستتغير بشأنه.

الجمال عبر خمس قرون وحتى الذكاء الاصطناعي

يمكن تقسيم تطور معايير الجمال وصولًا إلى دور الذكاء الاصطناعي إلى ثلاث مراحل رئيسية تعكس التحولات الثقافية والتقنية. في العصور الكلاسيكية القديمة، مثل العصر اليوناني، كانت معايير الجمال تعتمد على النسب المثالية للجسم، حيث رأى الفلاسفة مثل سقراط أن “الجسم الجميل يعد بروح جميلة”، وكانت هذه القيم تعكس تصورات معينة حول الفضيلة والانسجام الجسدي.

مع دخول عصر النهضة، بدأت معايير الجمال في التحول، حيث كانت اللوحات الفنية مثل لوحة “ولادة فينوس” لبوتيتشيلي تمثل معايير واضحة للأنوثة، فقد كان جمال المرأة يُقاس بالبشرة البيضاء والخدود الوردية، إضافة إلى العيون الكبيرة والشفاه الحمراء. هذه المعايير كانت تعبر عن قيم الرقي والثقافة لدى المجتمع الأوروبي في ذلك الوقت، وكانت تجسد صورة معينة للجمال الأنثوي.

أمَّا في العصر الحديث، وخاصة في منتصف القرن العشرين، فبرزت أيقونات مثل مارلين مونرو التي أحدثت نقلة في معايير الجمال، حيث باتت السمات المرتبطة بالجسم الشبيه بالساعة الرملية شائعة. ولجأت العديد من النساء إلى المشدات لتحقيق هذا الشكل. واليوم، مع تطور الذكاء الاصطناعي، نجد أن معايير الجمال تتأثر بنماذج رقمية، حيث تُستخدم تقنيات التعرف على الوجه وتحليل الصور لتحديد “الجمال المثالي”، مما يثير النقاش حول تأثير هذه التكنولوجيا على المجتمع، خاصة أنها قد تُروج لمعايير غير صحية أو غير واقعية.

تأثير الفلاتر ومفهوم الجمال 

بدأت القصة مع تطبيقات تجميل الصور التي تسمح بوضع مساحيق التجميل على شخصيات افتراضية عبر الحاسوب. ثم تطور الأمر ليشمل فلاتر وتطبيقات على الهواتف المحمولة وبرامج الكاميرا، مدعومة بمواقع التواصل الاجتماعي. أصبح الذكاء الاصطناعي يؤدي دورًا رئيسيًا في تطوير برامج “تحسين الجمال” المعتمدة على تقنية الواقع المعزز. وتقوم هذه الفلاتر بتعديل مظهر الشخص، مما يجعله يبدو ببشرة أكثر إشراقًا وعيونًا أكثر اتساعًا، بالإضافة إلى تغييرات في شكل الشفاه والوجنتين، مما يؤدي إلى ظهور الصور بشكل بعيد عن الواقع.

أصبح “الجمال الاصطناعي” فجأة معيارًا رئيسيًا للجمهور، مما جعلهم يعيشون حياة مماثلة لنجوم الإعلام بمظهر جمالي لامع وغير حقيقي. هذا الأمر يحد من تنوع الجمال الطبيعي ويؤثر على فهم الناس لهذا التنوع. وفقًا لدراسة نُشرت في عام 2021 في المجلة العربية لبحوث الإعلام والاتصال، تم تناول تأثير التطبيقات والمنصات على مفهوم الشباب حول الصورة النمطية للفتيات، وأوصت بضرورة وضع إطار قانوني قوي لحماية المراهقين من المخاطر الرقمية التي قد تواجههم على وسائل التواصل الاجتماعي. يتضمن ذلك مخاوف تتعلق بالخصوصية وإمكانية استغلال المعلومات لأغراض غير مشروعة، بالإضافة إلى التعرض لأساليب الاحتيال.

إلى جانب تلك التحديات القانونية، يشير الخبراء إلى مخاطر نفسية وسلوكية مرتبطة بالإدمان على استخدام هذه التطبيقات، إذ تؤثر سلبًا في الصحة النفسية للمراهقين من خلال تعريضهم المتكرر لمقاطع وتطبيقات قد تشوه تصوراتهم عن الواقع أو تدفعهم إلى مقارنة أنفسهم بالآخرين. الأمر الذي قد يؤدي إلى تراجع الثقة بالنفس وزيادة القلق الاجتماعي واضطرابات السلوك، إلى جانب تراجع الأداء الدراسي والتفاعل الاجتماعي الحقيقي.

استخدامات تجارية وترفيهية متنوعة

لم تقتصر فلاتر الذكاء الاصطناعي على تعديل السمات الشكلية فحسب، بل أصبحت وسيلة تسويقية وترويجية مهمة. تستخدم العلامات التجارية هذه الفلاتر للترويج لمنتجاتها عبر وجوه المستخدمين، كما تم تصميم فلاتر ترفيهية مستوحاة من الحيوانات والشخصيات الخيالية، مثل “فلتر الكلاب” الشهير.

الاستخدام المتنوع للفلاتر يعكس القدرة الواسعة للذكاء الاصطناعي في خلق تجارب رقمية مبتكرة وجذابة، وإن كان البعض يعتبرها وسيلة لإعادة تعريف الجمال بطريقة صناعية. لكنَّها تظل تحوم في إطار اقتصادي يهدف إلى الربح والسعي نحو جني المادة والترويج لمفاهيم مختلفة من الجمال. هذا المفهوم قد يمتد لمصالح اقتصادية أخرى، حتَّى وإن كان الجمال فيها مُصطنعًا.

 

مؤثرون مزيفون وجمال مُصطنع

شهدت السنوات الأخيرة ظاهرة جديدة أثارت جدلاً واسعًا في مجالات التسويق الرقمي وصناعة الموضة، وهي ظهور “المؤثرين المزيفين” أو “المؤثرين الافتراضيين”، الذين تم تصميمهم باستخدام الذكاء الاصطناعي وبرامج الرسوميات ثلاثية الأبعاد. هؤلاء المؤثرون يكتسبون شعبية متزايدة ويجذبون أعدادًا هائلة من المتابعين على وسائل التواصل الاجتماعي، مما يثير تساؤلات حول مصداقية تأثيرهم مقارنة بالمؤثرين البشريين، وأثر جمالهم المصطنع على المتابعين. هذا الاتجاه الجديد في الإعلام يفتح آفاقًا للابتكار، لكنه أيضًا يشعل نقاشات حول أهمية الأصالة والشفافية.

أحد الأمثلة الشهيرة على هذه الظاهرة هي عارضة الأزياء الافتراضية شودو غرام، التي تعتبر أول عارضة أزياء سوداء تم إنشاؤها بواسطة الذكاء الاصطناعي، والتي تمكنت من كسر العديد من الحواجز في صناعة الأزياء. لكن وجودها أثار كذلك انتقادات واسعة، خصوصًا عندما كشفت وسائل الإعلام أن مبتكرها هو مصور أبيض. تعرضت شودو للانتقادات بسبب استخدام وجه افتراضي لامرأة سوداء في تمثيل علامات تجارية فاخرة، مما أثار تساؤلات حول التمثيل العرقي في هذه الصناعة وتأثير هذه الشخصيات على المعايير الجمالية العامة.

مع تزايد عدد المؤثرين المزيفين مثل ليل ميكيلا وكنزة المغربية، أصبحت الحدود بين الواقع والعالم الافتراضي غير واضحة. أدى هذا الانتشار إلى ظهور مشكلات تتعلق بمعايير الجمال، حيث يتمتع هؤلاء المؤثرون بجمال خالٍ من العيوب بفضل تقنيات الذكاء الاصطناعي، مما يعزز معايير جمال قد تكون غير واقعية. هذا الأمر قد يسبب تأثيرات سلبية على المستخدمين، خاصة الشباب، الذين يتعرضون لضغط كبير لمحاكاة هذه الصور المثالية. لذا، يصبح من الضروري تعزيز الوعي بأهمية التمييز بين الحقيقي والمصطنع في معايير الجمال.

نظرة جديدة للجمال الذكي أم تحيُّز وتشويه؟

تتضح تأثيرات الذكاء الاصطناعي على معايير الجمال من خلال دراسة أجرتها منظمة “مشروع البوليميا”، التي استهدفت تقييم الصور التي تولدها نماذج الذكاء الاصطناعي مثل: “Dall-E 2″ و”Stable Diffusion” و”Midjourney”. وقد وجدت الدراسة أن هذه الصور تميل إلى تقديم معايير جمال بعيدة عن الواقع، مما يعزز توقعات غير واقعية لدى المستخدمين. هذه الخوارزميات تؤدي إلى آثار سلبية على الصحة العقلية، مثل اضطرابات الأكل وتدني احترام الذات. كما تسلط الدراسة الضوء على الفجوة الكبيرة بين التصورات الواقعية للجمال وما يتم ترويجه على منصات التواصل الاجتماعي.

تظهر الدراسة أيضًا تحيزات مثيرة للقلق في تصوير الجمال، حيث يتم تفضيل الصور التي تتميز بمظهر معين، مثل الشعر الأشقر للنساء، بينما يُظهر الرجال بوضوح لون شعر أكثر قتامة. كما تُظهر النتائج ميلاً لتصوير العارضات ذوات البشرة الزيتونية والعيون البنية، مما يعكس معايير ضيقة للجمال. وتتزامن هذه التحريفات مع تأثير الفلاتر والتصوير الاحترافي، حيث تعزز الصور الناتجة معايير غير واقعية للأجسام، مما يؤدي إلى مشكلات كبيرة تتعلق بالثقة بالنفس والهوية لدى العديد من الأفراد، خاصة أولئك الأكثر ضعفًا.

الذكاء الاصطناعي والفرص الإيجابية في عالم الجمال

على الرغم من الآثار السلبية لبعض التطبيقات، يقدم الذكاء الاصطناعي فوائد ملحوظة لصناعة التجميل، مثل إمكانية إجراء اختبارات مكياج “تحسين جمال” افتراضية باستخدام تقنية الواقع المعزز، مما يسمح للمستخدمين بتجربة المنتجات المختلفة بدقة عالية قبل الشراء. ولتحقيق الاستفادة القصوى من هذه التقنية، يجب توجيه الذكاء الاصطناعي نحو تحسين التجارب بشكل إيجابي ومفيد، بعيدًا عن المعايير الضارة للجمال، بحيث يشجع على قبول التنوع الطبيعي في الشكل والجمال.

مستقبل صناعة الجمال مع الذكاء الاصطناعي

مع استمرار تطور الذكاء الاصطناعي، يُتوقع أن يصبح تأثيره على صناعة الجمال أكثر عمقًا وتنوعًا. وفيما يلي بعض التوجهات المستقبلية:

  • التخصيص المتناهي: سيصبح التخصيص أكثر دقة وعمقًا، حيث سيمكن للذكاء الاصطناعي من تقديم توصيات فائقة الدقة وفقًا للبيانات الشخصية مثل الخصائص الوراثية، وعوامل نمط الحياة، وحالة البشرة في الوقت الحالي. وستسهم هذه التقنيات في تطوير منتجات تتكيف باستمرار مع تغيّر احتياجات الأفراد، مما يعزز الولاء ويوسع آفاق تجربة العملاء.
  • الاستدامة الذكية: يسهم الذكاء الاصطناعي بشكل كبير في تعزيز الاستدامة بقطاع الجمال، سواء من خلال تحسين تكوين المنتجات لتقليل الهدر أو بتقديم حلول صديقة للبيئة. كما يمكن لأنظمة الذكاء الاصطناعي المتطورة في إدارة سلاسل التوريد أن تعزز الكفاءة وتقلل البصمة البيئية للمنتجات. ووفقًا لتقرير من PWC، يُمكن للتطورات المدعومة بالذكاء الاصطناعي أن تخفض الانبعاثات الكربونية بنسبة تصل إلى 15% بحلول 2030.
  • الأجهزة الذكية للعناية الشخصية: يزداد اندماج الذكاء الاصطناعي مع الأجهزة الذكية، حيث تساعد مثل هذه التقنيات في تحليل حالة البشرة وتقديم روتينات عناية مخصصة. مستقبلًا، ستتحول هذه الأجهزة إلى أدوات أكثر تفاعلية، تقدم ملاحظات فورية وتضبط العلاجات بشكل آني وفق تغيرات البشرة، مما يتيح للمستخدمين مرونة التحكم في روتينهم الجمالي.
  • الواقع المعزز والافتراضي: من المتوقع أن تصبح تجارب التسوق أكثر تفاعلاً باستخدام تقنيات الواقع المعزز والافتراضي، حيث سيتمكن العملاء من زيارة المتاجر وتجربة المنتجات افتراضيًا، بالإضافة إلى الاستفادة من استشارات شخصية يقدمها خبراء تجميل افتراضيون يعتمدون على الذكاء الاصطناعي، ما يوفر تجربة تسوق مميزة.
  • التسويق المعزز بالذكاء الاصطناعي: سيحدث الذكاء الاصطناعي ثورة في استراتيجيات التسويق لصناعة الجمال من خلال تقديم حملات تسويقية موجهة وشخصية. وبتحليل سلوك العملاء وميولهم، يمكن للذكاء الاصطناعي توجيه محتوى مخصص لكل مستخدم، مما يزيد من التفاعل، والتعبير عن ميولهم الجمالية.

ختامًا، يظل الجمال مسألة رأي ويعتمد على ميول الشخص، فالحكم على كون فرد ما جميلًا أو غير جميل لا يعدو كونه تعبيرًا عن تجارب سابقة أو البيئة التي نعيش فيها. أما بالنسبة للذكاء الاصطناعي، فتطبيقاته تتزايد بلا حدود، لكن تبقى سمة الجمال مرتبطة بالاختيار الشخصي.

اترك رد

Your email address will not be published.