الذكاء الاصطناعي والفلسفة.. الإنسانية في العهد الرقمي
AI بالعربي – متابعات
ينظر الكثير من الناس، خصوصًا غير المتخصصين، إلى الذكاء الاصطناعي على أنه تقنية فائقة تقوم بأداء مهام تفوق قدرات البشر، أو على الأقل تلعب أدوارًا متعددة. هذه الأدوار تتباين بين الطموحات والآمال من جهة، وتخوفات البعض من كونها آلية تؤدي إلى آثار سلبية واسعة على المستويات الاقتصادية والاجتماعية والفكرية للإنسان.
تتجلى أهمية مناقشة هذا الموضوع في إطار مليء بالإنجازات، لكنه يحمل أيضًا مخاطر محتملة. فقد يتجه المجتمع، معتمدًا كليًا على هذا الخادم الجديد، إلى استغلال قدراته الفائقة في السرعة والفعالية لإنجاز المهام. لذا، لا يزال المفكرون يبحثون في هذا الموضوع، إذ بدأ الفلاسفة منذ القرن الماضي في استكشاف مصطلحات جديدة تتعلق بتطور التقنية التي يعتمد عليها الإنسان، مثل “الإنسان السوبر مان” وإنسان ما بعد الحداثة.
فلسفة ما بعد الإنسانية
بدأت فكرة ما بعد الإنسان تتبلور منذ منتصف القرن الماضي، حين تناول “تيارل دي شاردن” مفهوم تجاوز الإنسان في مقاله الذي نشره عام 1950 بعنوان: “مما قبل الإنسان إلى الإنسان الفائق: مراحل كوكب حي”. رغم أن مفهومه كان مرتبطًا بالمستقبل الروحي للبشر، فإنه ألهم صديقه “جوليان هيكسلي” لكتابة مقال عام 1957 بعنوان: “ما وراء الإنسان”. اعتقد هيكسلي أن ما بعد الإنسانية يمكن أن يسهم في بقاء الإنسان ككائن بشري، لكن من خلال تجاوزه لحدوده وتحقيق إمكانيات جديدة لطبيعته.
تُعد مرحلة ما بعد الإنسانية نهاية النزعة الإنسانية التي هيمنت على الفكر البشري لفترة طويلة، وهي حالة وجودية جديدة تعيد النظر في العلاقة بين الإنسان والطبيعة. إذ إنها ترفض فكرة هيمنة الإنسان على الحياة والطبيعة، وتجعل العلاقة بينهما تفاعلية ومتوازنة، حيث يصبح الإنسان جزءًا من الطبيعة يتأقلم معها ويستفيد من إيقاعها لتحقيق البقاء.
مفهوم جديد للإنسان
في البداية، كان أفول النزعة الإنسانية في المراحل الأولى تحولًا فلسفيًا كبيرًا أعاد صياغة تصور الإنسان لذاته ودوره في الكون، بعد أن اعتُبر مركز الوجود لقرون طويلة. وتجلت هذه التحولات بوضوح في فكر نيتشه، الذي قدَّم مفهوم “الإنسان الفائق” كتعبير عن تجاوز الإنسان التقليدي. ثم تطورت الفكرة في مطلع القرن العشرين ضمن فلسفة ما بعد الإنسان، التي تناولت الإنسان ككيان يمكن تفكيكه وإعادة تشكيله مثل الآلة. هذا أدى إلى طمس الحدود بين الإنسان والتكنولوجيا، وإعادة تعريف وجود الإنسان كجزء من شبكة معقدة من الكائنات في هذا العالم، دون أن يظهر له تفوق جوهري أو أفضلية في كل شيء.
الحوسبة والإدراك والذكاء الاصطناعي
في عام 2013، نشرت مجلة SAPERE بحثًا بعنوان “الفلسفة والذكاء الاصطناعي”، الذي تناول تساؤلًا رئيسيًا حول “ما العلاقة بين الحوسبة والإدراك والأخلاقيات المرتبطة بالذكاء الاصطناعي؟”. توصل الباحث، بعد صراع بين القيم الثلاث، إلى أن المشكلات الأساسية للذكاء الاصطناعي لا تزال قائمة. وأكد أن تجاهل هذه المشكلات بحجة أن “أنظمتنا تتحسن على أي حال” يشكل استراتيجية محفوفة بالمخاطر. كما أشار إلى أن العودة إلى الأساسيات تُعتبر الطريقة الأفضل للمُضي قُدمًا في هذا السياق.
كانت مناقشة الإدراك، كواحدة من المفاهيم الفلسفية الأساسية في عصر الذكاء الاصطناعي، جزءًا جوهريًا من التراث البشري الذي يوجه الإنسان نحو الإبداع. مع الانتقال من مفاهيم الحوسبة التقليدية المعتمدة على المدخلات والمخرجات إلى مفاهيم أكثر تقدمًا تعتمد على الإنتاج التوليدي، أصبح مفهوم الإبداع محورًا للصراع بين التقنية الذكية والذكاء البشري. حتى إن هذه التقنية بدأت تؤثر في معايير تقييم المهام والأعمال الابتكارية المختلفة.
لكن كيف نستفيد نحن كمستخدمين؟
يغطي الذكاء الاصطناعي مجموعة واسعة من المجالات التي تساهم في تطوير تقنيات مبتكرة. من بين هذه المجالات، نجد المعلوماتية العصبية التي تحاكي الشبكات العصبية في التصنيف والتعرف، والأنظمة الخبيرة التي تدعم اتخاذ القرارات من خلال عمليات منطقية دقيقة، بالإضافة إلى معالجة اللغات الطبيعية التي تمكّن الحاسوب من فهم اللغة البشرية وتسهيل الترجمة الفورية. كما يشمل أيضًا تمييز الأنماط في الأشكال والوجوه والأصوات.
حتى الآن، يسعى الذكاء الاصطناعي إلى خدمتنا في كثير من التطبيقات العملية، مثل: التعرف على الوجوه أو الخط اليدوي، وتشخيص الأمراض، وإدارة البنية التحتية مثل سكك الحديد. وفي القطاع الصناعي، تُستخدم الروبوتات في المفاعلات النووية والصناعات المعقدة مثل صناعة السيارات، بالإضافة إلى تحليل البيانات الاقتصادية وتوقعات الطقس. كما تُوظف تطبيقات الذكاء الاصطناعي في الألعاب الحاسوبية لمنافسة البشر، مثل “شات جي بي تي” الذي يُظهر قدرة على فهم اللغات البشرية وتحليل النصوص.
مستقبل الإنسانية في العهد الرقمي
لكن على الصعيد الفلسفي والفكري، لا يزال لدى الباحثين والدارسين رؤى حول الإنسانية في العصر الرقمي. وقد توصلوا إلى فكرتين رئيسيتين حسمتا الجدل بين المفكرين من مختلف المدارس: “التعزيز البشري” و”الهوية الذاتية.”
أولاً: تمحورت قضية التعزيز البشري حول مستقبل الإنسان في ضوء التقدم التكنولوجي الهائل. فكانت فكرة تطوير الإنسان بقدراته البشرية الفطرية، من خلال تقنيات جديدة، تتيح تحسين القدرات العقلية والجسدية إلى مستويات تتجاوز الحدود الطبيعية. وهذا التعزيز كان نقلة نوعية في مجالات الطب والهندسة الحيوية، حيث أصبح من الممكن تحسين وظائف الإنسان بطريقة تتيح له تحقيق قدرات أعلى، مثل تحسين الذكاء والتحمل.
ثانيًا: مفهوم التأثير في الهوية الذاتية، هو مفهوم لم يتم بشكل صريح. فالهوية الشخصية تُعرف بأنها مجموعة من الصفات الثابتة التي تميز الفرد. ولكن يتخوف الفلاسفة والعلماء من مدى تأثير هذا التغيير على مفهوم الذات، وما إذا كان سيؤدي هذا الأمر نحو الاغتراب النفسي أو المجتمعي.
ختامًا، فإن مناقشة المفاهيم التي تربط الذكاء الاصطناعي بقيم البشر تفتح مجالات جديدة للتطوير، مع التركيز على تعزيز قدرات التعليم والاقتصاد والعدالة من خلال تعميم الفوائد وعدم حرمان فئات معينة. وهذه الأخلاقيات تُعتبر شرطًا أساسيًا لواضعي السياسات عند تنفيذها.