هل يستطيع الذكاء الاصطناعي تغيير الفن أو الفنانين الذين نعرفهم؟
AI بالعربي – متابعات
قد لا يوافق البعض على ما يقترحه المختصّون في مجال الذكاء الاصطناعي، وخصوصاً في مجال الفن، وقد يبقى السجال قائماً بين الذكاء الاصطناعي والفن لفترة طويلة، وقد يقول قائل إن العمل اليدوي بالريشة والألوان هو الفن الحقيقي، وإن العمل الرقمي هو مزيّف، لكن أحداً لن يحسم هذا السجال، فالفنان الذي نعرفه سيبقى، والفن الذكي لن يصبح نسخةً مطوّرة من الفن اليدوي، بل سيحتفظ كلّ منهما بموقعه ومحبّيه.
هكذا يدعونا الذكاء الاصطناعي إلى تغيير رؤيتنا للفن، واستكشاف الاستخدامات المحتملة لهذه التقنيات الذكية، وخصوصاً في مجال الفنون عموماً، واستيعاب التحوّلات التي يمرّ بها التشكيل والتصوير وفن الخط وغيرهم.
شهدنا سجالات مماثلة عندما خرجت الصورة الفوتوغرافية من الكادر الورقي نحو الرقمي، وليد الذكاء الاصطناعي، إذ أحدثت ثورة في التصوير والتعبير الفني، وحصل الأمر نفسه عندما صدر الكتاب الورقي بصيغة ديجيتال، وهكذا تبدو الأمور اليوم مع اللوحة التشكيلية، التي بدأت تدخل عليها تقنيات “ذكية”، وأشكال غير قابلة للاستبدال “NFT”مثالاً.
سجال الفلاسفة
السجال حول التقدّم التكنولوجي كان قائماً منذ زمن، وفي هذا السياق يقول آينشتاين، “لقد بات من الواضح، أو بالأحرى من المرعب للجميع، كيف تجاوزت منجزاتنا التقنية إنسانيتنا”.
معروف أن هايدجر كان ناقداً للتقنية، وذلك في ردّه على “السؤال المتعلّق بالتكنولوجيا”، انطلاقاً من “تأمين حرية الإنسان ضدّ هيمنة الآلة أو تجنّب الاسترقاق البشري”.
وفي الوقت الذي كان فيه ماركس معجباً بالتكنولوجيا “لتحرير العمّال من المصاعب وإهانات العمل اليدوي، ولإسهامها في الانتاج الضخم للبضائع”، إلّا أنه كان ناقداً لها لجهة محتواها الفكرى والفني، في حين دعا بعض الفلاسفة إلى “البحث عن أخلاق تكنولوجية لا إنسانية”.
ما هو الذكاء الاصطناعي؟
هو خصائص معيّنة تتّسم بها برامج الكمبيوتر، وتجعلها تحاكي القدرات الذهنية البشرية وأنماط عملها. من أبرز هذه الخصائص، القدرة على التعلّم والاستنتاج ورد الفعل على أوضاع لم تبرمج في الآلة.
والتكنولوجيا هي لغة تعني دراسة الحرفة. وكلمة technology مشتقّة من اليونانية ومؤلّفة من كلمتين، هما (tékhnē) وتعني فن أو حرفة أو مهارة، و(logía) وتعني علم أو دراسة.
فن جديد؟
يبدو أن الفن التشكيلي لن يبقى محصوراً بالفنانين الذين نعرفهم، بل سيتيح المجال لشرائح خارج النخب الفنية، للولوج إلى هذا العالم، وربما الاندماج ضمن فئة من الفنّانين، الذين يبدعون من داخل الذكاء الاصطناعي.
تنتصر مسارات التجديد في نهاية المطاف، هكذا علّمتنا التجارب على الأقلّ، وهذا ما تعدنا به التكنولوجيا المتطوّرة، التي تأخذنا نحو “فن جديد”، لكنه فن مشروط بقدرتنا على التمييز بين القيّم والرديء، والتنبّه إلى أن ما يقترحه الذكاء الاصطناعي من أشكال، قد لا يرقى إلى مستوى الفن الجيد دائماً.
عندما يُبدع الذكاء الاصطناعي
الدكتور سامر عبيدات، باحث ومؤلّف وخبير عالمي في الذكاء الاصطناعي، والمدير التنفيذي لمجموعة “ستاليون”، سأل هل مات الإبداع البشري، وما هي الاتجاهات الحديثة في هذا المجال؟
وأكد أن “الإبداع هو أحد أكثر المفاهيم البشرية صعوبة في تعريفه، فما هو؟ وما مصدره؟ وهل هو موهبة طبيعية بحتة تتطلب القليل من الممارسة، أم أنه ينشأ نتيجة لشحّ المواهب والمهارات وصقلها لسنوات؟
إضافة إلى هذه الأسئلة، جرى طرح هذا سؤال حول “ما يحدث عندما يُبدع الذكاء الاصطناعي”، وستظل الإجابة عن هذا السؤال مثلها مثل السؤال عن أصل الإبداع، موضع نقاش لسنوات عدّة.”
وأوضح أن “الاتجاهات الحديثة في قطاع الفن، تشير إلى طبيعة الذكاء الاصطناعي الإبداعي المثيرة للجدل، إذ منح معرض ولاية كولورادو أخيراً، الفنّان جيسون ألين، المركز الأوّل في مسابقة الفنون الرقمية عن عمله “Théâtre D’opéra Spatial” (مسرح أوبرا الفضاء)، وبعدها كشف الفائز عن أنه أنشأ لوحته باستخدام “Midjourney”، وهو نظام ذكاء اصطناعي ينشئ صوراً واقعية من مدخلات نصّية”.
أضاف: “لقد أثار إعلانه الجدل بين مؤيّد ومعارض، بينما أشاد البعض بنهجه المبتكر، اعتبر البعض الآخر أن استخدام الذكاء الاصطناعي الإبداعي بمثابة تدخّل في عالم الفن وعلامة على بداية النهاية للمبدعين البشريين.”
وتابع: “بالنظر إلى بساطة العملية بالنسبة للمستخدم العادي، من السهل فهم سبب عدم قيام القطاع الإبداعي بتصنيف التكنولوجيا على أنها عملية إبداعية، أو حتى الاعتراف بمخرجاتها كعمل فني فعلي”.
“كما أن الكتابة والموسيقى وغيرها، هي أنشطة إبداعية أخرى تشهد استخدام الذكاء الاصطناعي، ففي عام 2019 جرى إصدار ألبوم “Proto”، الذي احتوى على أوّل ظهور مسجّل للذكاء الاصطناعي في ألبوم موسيقى البوب.
كما ينشئ نموذج الكتابة المعتمد على تقنية التعلّم العميق (GPT-3)، فقرات كاملة لا يمكن تمييزها عن الكتابة البشرية. ويتّضح من هذه الأمثلة، أن مشاركة الذكاء الاصطناعي في الأنشطة الإبداعية منتشر على نطاق واسع، وبالتالي يصبح السؤال الذي يطرح نفسه – “هل مات الإبداع البشري؟”
مخاطر السيطرة
يقول عبيدات “إن تقنية الذكاء الاصطناعي واجهت عبر تطوّرها، معارضة شديدة من بعض الذين يعتبرون استخدامها بديلاً مباشراً للمهارات البشرية، ومع ذلك، يعمل الذكاء الاصطناعي في على زيادة العمالة، عبر أتمتة المهام العادية، وتوفير المزيد من الوقت للناس للانغماس في أنشطة أكثر إنتاجية وإبداعاً”.
ويؤكد أنه على الرغم من ذلك، “وللمرّة الأولى في التاريخ، يمكن القول إن “الأنشطة الإبداعية” معرّضة لخطر أن يسيطر عليها الذكاء الاصطناعي. فكما هو الحال مع القطاعات الأخرى، فإن الهدف من أنظمة الذكاء الاصطناعي يتمثّل في تطوير طرق جديدة تكمل الإبداع البشري وتعزّز سهولة العيش”.
علاقة العِلم بالفن
الفنّان التشكيلي أيمن بعلبكي قال في حديثه لـ “الشرق”، “إن أيّ تقدّم علمي سيؤثّر إيجاباً على الفن، والذكاء الاصطناعي الذي هو نتيجة حتمية للتقدّم العلمي، سيؤثّر حتماً، والأمثلة على علاقة العِلم بالفن كثيرة”.
ورأى أن الفن المرتبط بالذكاء الاصطناعي “فرض نفسه كأنه جزء من حركة الفن، لذلك أعتقد أنها مسألة وقت، فالفن بالنسبة لي مثل شجرة لها فروع عدّة، يتّسع كل فرع مع الوقت، ليضيف احتمالات جديدة على عالمنا البصري”.
وأوضح بعلبكي أن الفن التشكيلي “انحصر عبر الوقت بين الرسم والنحت والطباعة، وكل ما كان خارجهم لم يكن فناً تشكيلياً بنظرهم، وذلك خلال فترة العشرينيات والأربعينيات، ثم استثنوا الفن الرقمي، الذي أصبح اليوم جزءاً من الفن التشكيلي”.
أضاف: “توسّع الفن لاحقاً وأصبح هناك المفاهيمي، وكل ما له علاقة بالعمل البصري، لذلك فإن الكثير من الفروع تأخذ وقتها حتى تتأكّد على أساس أنها جزء من الفن التشكيلي”.
وقدّم بعلبكي مثالاً حيّاً على “اكتشاف المنشور الضوئي والأنبوب في زمن الانطباعيين، إذ أعطى فهماً أعمق للفنّانين حول كيفية تكوّن الضوء، وسمح لهم الأنبوب أن يخرجوا من محترفاتهم ليرسموا مباشرةً في الطبيعة، وهذا بدوره غيّر مفهوم اللوحة، ودفع الانطباعيين لتفتيت النسيج اللوني، لأنهم كانوا يبحثون عن كلّ الألوان داخل مساحة صغيرة”.
تحديات مختلفة
ويحدّد عبيدات بعض الطرق التي يتمّ استخدامها لحلّ التحديات المختلفة، وتشمل هذه التحديات:
العلاج بالموسيقى: يمكن استخدام الذكاء الاصطناعي لإنشاء موسيقى أثيرية، تثير حالة من الراحة والاسترخاء، ويقوم بذلك عن طريق ترتيب المؤلفات الموسيقية، وإضافة طبقات موسيقية فوق الخصائص الصوتية، حتى يشعر المستخدمون بالراحة والاسترخاء. ويمكن أن تتعلّم المؤلفات الموسيقية ذاتياً بناءً على تفضيلات المستخدم، وأن يجري توليفها على نحو أكبر لتناسب أذواق المستمعين، وقد يكون هذا مفيداً للمرضى الميؤوس من شفائهم.
إنشاء محتوى: يمكن استخدام القدرة التحليلية للذكاء الاصطناعي لتعزيز عملية إنشاء المحتوى، عن طريق إجراء تحليل لاتجاهات السوق وتحليل المشاعر على وسائل التواصل الاجتماعي، لإنشاء محتوى يمكن للكُتّاب البشريين تطويره ونشره على وسائل التواصل الاجتماعي.
التعريف التلقائي بملفات الموسيقى: يُعدّ الحفاظ على القوائم الموسيقية المنسّقة جيداً، مع انفجار المحتوى في الوقت الحالي، تحدّياً مستمرّاً لمنصّات البثّ، إذ تؤثّر الموسيقى غير المعروفة على نحو غير دقيق، على قدرة نظام التوصية، توفير تجربة استماع انغماسية للمستخدمين.
ويمكن استخدام خوارزميات الذكاء الاصطناعي لأتمتة عملية التعريف بالمقاطع الموسيقية، عن طريق تصنيف الموسيقى على النحو المطلوب، باستخدام بيانات وصفية دقيقة (مثل اسم الفنان وعنوان الأغنية)، وبيانات وصفية متعلقة بالبحث (مثل اللغة والصوت والنوع والحالة المزاجية والشغف وما إلى ذلك)، وتوفّر هذه الميزة الوقت، وتساعد الموسيقيين ممَن يكافحون من أجل تحديد هويتهم الموسيقية.
تحويل النصوص إلى صور إبداعية: يجعل هذا التطبيق من الإبداع الفني أمراً سهلاً، فالروائي مثلاً لن يتعيّن عليه انتظار الرسّام لتصميم غلاف لكتابه، عندما يمكنه إنشاء غلاف لنفسه، ويجري تطوير خوارزميات أخرى لزيادة دقّة تحويل النصّ إلى صورة، عن طريق السماح بإنشاء صور أكثر تحديداً، مثل الأشخاص الفعليين، وليس مجرّد صور عامّة.
تجارب الفن الذكي
استخدم الفنّانون “الذكاء الاصطناعي” عبر التاريخ، لإضافة أفكار جديدة إلى أعمالهم، مثل لوحات الفن الواقعي وفن الطبيعة الصامتة، التي ظهرت في القرن السادس عشر، إذ نجد أن باحثاً بريطانياً توصَل إلى نظرية مهمّة، تثبت أن الفنّان الهولندي جوهانس فيرمير وغيره من معاصريه، استخدموا الكاميرا المظلمة التي كانت أداة تقنية بصرية في ذلك العصر.
وقام فريق من الخبراء بإدخال عدد من لوحات رامبرانت إلى الكمبيوتر، وأنتجوا لوحة جديدة بأسلوب الفنان الهولندي، وكأن رامبرانت الذي توفّي قبل نحو 350 سنة، رسمها بنفسه.
لقد قام جهاز الكمبيوتر بجمع البيانات، ودرس أسلوب رامبرانت، فاكتشف الأنماط التي كان يرسم بها بعض الصفات المحدّدة، مثل ملامح الوجه والعينين، وطريقته في رسم المناطق المُضاءة، وتلك التي في الظلّ وغيرها من التفاصيل، ثم أنشأ خوارزميات تُعلّم الآلة كيفية إنتاج صورة جديدة بأسلوب رامبرانت الفريد.
كما ظهرت في الفترة الأخيرة أعمال فنية أنجزت بواسطة الذكاء الاصطناعي، إذ بيعت لوحة الفنان إدموند دي بيلامي في دار المزاد العلني “كريستيز” بنيويورك في أكتوبر 2018، بمبلغ 432 ألف دولار، بوصفها أوّل عمل فني أنتجه الذكاء الاصطناعي وتمّ بيعه، علماً أنها لفنان غير معروف. هذه اللوحة أُنتجت بواسطة خوارزمية (أو نظام رياضي)، وهي تستند إلى سلسلة بيانات، مستمدّة من 15 ألف لوحة فنية، مرسومة بين القرنين الرابع عشر والعشرين.
كما حازت صورة للفنان ماريو كلينجمان بعنوان “ابن الجزار”، على جائزة “لومين الذهبية” عام 2018، وقد تمّ إنجازها بالكامل بواسطة الذكاء الاصطناعي.
وكان المعرض الدولي الخامس للأعمال الفنية والعلمية في بكين، قد شهد خلال عام 2022، عرضَ أكثر من 120 عملاً فنياً، أبدعها نحو 200 فنّان من أكثر من 20 دولة. وأظهرت تلك الأعمال استكشافات الفنّانين المتعدّدة لمجال الذكاء الاصطناعي، بما في ذلك موضوعات مثل حدود الإدراك البشري، والنموذج الفني للابتكار التكنولوجي، والابتكار التعاوني للتكنولوجيا والفن.
“الأوتوماتا”أو جذور الأتمتة
تعود جذور التفكير الفلسفي في التقنية كفرع من فروع المعرفة إلى العهد الإغريقي، وكان الهدف منها تغيير العالم المادي بالوسائل الممكنة والمتطوّرة، وتطويع العقل للخيرات الطبيعية، إلى أشياء مادية تسهم في بقاء النوع البشري.
الباحث في أخلاقيّات الذكاء الاصطناعي ماهر الحسنية، اعتبر أن الحديث عن الروبوتات والأتمتة، قد دغدغ خيال البشر منذ العصور الإغريقية القديمة. وقد تضمّنت الأساطير اليونانية العديد من “الأوتوماتا” أو الحياة الاصطناعية”.
ويشير إلى أن أدريان مايور تسهب بشرح ذلك في كتابها “الآلهة والروبوتات: الأساطير والآلات والأحلام القديمة للتكنولوجيا”، عندما كلّف زيوس هيفايستوس بإنشاء تالوس (روبوت) كهدية لابنه “مينوس” لحماية جزيرة كريت”.
أضاف: “كما أسّس هيفايستوس (Hephaestus) مجموعة عملٍ من الموظفين والمساعدين الآليين الذهبيّين لمساعدته في ورشته، وفي البوابات الآلية، وعربات ذاتية الحركة، وفي وقت لاحق طلب من زيوس إنشاء Pandora (روبوت أنثى) لتكون بمثابة عقاب للبشر. كما تمّ تصوير الحياة الاصطناعية في الأعمال الفنية في الصين والهند القديمة (مايور 2018)”.
العالَم يتغيّر من حولنا، وتتغيّر الأدوات التي نعمل بها، لكنّ جودة الحياة تبقى الهدف الأسمى للإنسان وللثورة الصناعية الرابعة، التي تبشّر العالم بتحوّلات رقمية هائلة، وتأثير سيطال نمط حياة الإنسان، والقطاعات الحيوية كافّة.
لا شك أن ذلك كله سيسهم في تعزيز التنمية المستدامة، وازدهار المدن الذكية، وجعل وسائل الاتصال والنقل فائقة السرعة، مع الحفاظ على الموارد الطبيعية، وحماية البيئة، وزيادة الإنتاجية، وخفض التكاليف.