الإعلام والذكاء الاصطناعي.. ستة مصادر للقلق

د. ياسر عبدالعزيز

سيُقدم الذكاء الاصطناعي خدمات جليلة لصناعة الإعلام، سواء كان ذلك في مجال تحسين كفاءة العمليات الصحافية، أو تخفيض تكلفتها، أو جمع البيانات وتحليلها، أو تحديد الأخبار الزائفة، أو تعزيز عمليات إنشاء المحتوى، أو إدارة العمليات التسويقية، أو تحسين كفاءة التوزيع، أو تخصيص المحتوى تبعاً لاحتياجات المتلقين.

لكن مع هذه المساعدات الفريدة كلها، وغيرها الكثير أيضاً، سيبقى الذكاء الاصطناعي مصدراً للقلق بالنسبة إلى صناعة الإعلام المؤسسية تحديداً. وأحد مصادر هذا القلق المهمة يكمن في تحول استخدامات الذكاء الاصطناعي في تلك الصناعة إلى “سباق مهني” بدلاً من أن تكون – كما هو مفترض – “أداة مهنية”.

ولتبسيط الأمر؛ فإن وسائل الإعلام المؤسسية معظمها أضحت تتنافس وتتسابق على استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي، سواء كان ذلك في دول متقدمة أو نامية، وسواء كان في أنظمة إعلامية حرة وكفؤة أو أنظمة إعلامية مغلقة ومتدنية الكفاءة.

يعني ذلك أن المنظومات الإعلامية المؤسسية في بيئات مختلفة قررت أن يكون استخدام الذكاء الاصطناعي عنواناً على تقدمها ونبوغها ومجاراتها للتقدم، وهي في طريقها لتكريس ذلك تعلن بفخر عن توسعها في ذلك الاستخدام، أو ريادتها المحلية أو الإقليمية أو العالمية في دمجه في عمليات الإنتاج، بصرف النظر عن الاحتياج المهني، والمردود الفني، وعلاقة هذا الاستخدام بالخطط الاستراتيجية التي تعتمدها، والأهم من ذلك علاقته بالمحتوى المقدم، الذي هو جوهر صناعة الإعلام، وسبب وجودها في آن.

أما مصدر القلق الثاني، فيتعلق بأن قرارات استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي، ونطاق هذا الاستخدام، ومحاذيره، وشروطه، وضوابطه، لم تعد في أيدي الهيئات الإعلامية الضابطة، أو مجالس التحرير، ووحدات السياسة التحريرية، لكنها باتت في أيدي فرق الإنتاج؛ أي المحررين وغيرهم من العاملين في الصناعة، من دون رؤية أو كوابح أو تنظيم معتبر.
سيقودنا ذلك إلى المصدر الثالث للقلق، والذي يكمن ببساطة في أن المواكبة القانونية والأخلاقية لعمليات الاستخدام تلك لا تلاحق تطورات الاستخدام نفسه، وقد أدى هذا إلى وجود فجوة بين طبيعة الاستخدام الراهن لتلك الأدوات الجديدة من جانب، والقواعد الإعلامية والشروط المهنية والأخلاقية المنظمة لذلك الاستخدام من جانب آخر، والأخطر من هذا أن تلك الفجوة تتسع باطراد.

لقد انتبه الكثير من النقاد والمحللين لمصادر القلق الثلاثة السابقة بشكل واضح بكل تأكيد، لكن المصدر الرابع لهذا القلق المتصاعد لا يحظى بالقدر اللازم من الاهتمام، ولا ينتبه له كثيرون. ويتعلق مصدر القلق الرابع بأن أدوات الذكاء الاصطناعي لا تُستخدم في إنشاء المحتوى الحالي وحده؛ أي الذي يُنتج الآن فقط، لكن مفاعيلها تمتد إلى المحتوى الموجود بالفعل، والذي أضحت ملامحه ومقدراته ساحة مفتوحة لمفاعيل الذكاء الاصطناعي، بما يمكنه من تغييرها، وإعادة استخدامها، وتسخيرها لتطوير منتجات جديدة، من دون حساب للعواقب القانونية، أو للحقوق الأدبية، ومن دون احترام لدور هذا المحتوى في التأريخ والتوثيق.

ويطرح مصدر القلق الخامس تهديداً وجودياً للدور البشري في صناعة المحتوى الإعلامي بصورة مباشرة؛ إذ تفيد تقارير واستطلاعات رأي موثوقة بأن نحو 90 في المائة من المحتوى المتاح على الوسائط الإعلامية سيكون مُنتجاً بصورة آلية في غضون سنوات قليلة، وسيعني ذلك تراجعاً حاداً في قدرة الصحافي وصانع المحتوى البشري على العمل والإنتاج والإبداع، مما سيجعل العاملين في تلك الصناعة أقل قدرة على تلبية شروط الإنتاج، مع ما سيتبع ذلك من تضاؤل القدرات الإعلامية والإبداعية البشرية بموازاة تمكين الآلة وتوسيع نطاق هيمنتها.

وفي ذلك الصدد، سيتدرب القادمون الجدد إلى الصناعة على معرفة طبيعة أدوات الذكاء الاصطناعي، والإمكانيات النوعية التي تتحلى بها كل أداة، وطريقة توظيفها لصناعة المحتوى وتطويره وتوزيعه، لكنهم لن يكونوا في حاجة كبيرة لتطوير قدراتهم الإبداعية والمهنية.

ومع خطورة المآلات التي تفضي إليها مصادر القلق الخمسة السابقة، فإن مصدر القلق السادس يطرح بدوره تهديداً وجودياً لصناعة الإعلام المؤسسي نفسها، وهو تهديد يمكن أن يقوضها، ويحرمها من فرص الاستدامة، بكل ما يعنيه هذا من أخطار على صناعة الإعلام وأدوارها المجتمعية والسياسية المهمة.

ويتجسد مصدر القلق السادس في أن عوائد الكثير من المنتجات الإعلامية المصنعة والمطورة بواسطة ممكنات الذكاء الاصطناعي ستذهب إلى شركات التكنولوجيا الكبرى القائمة على تطوير تلك الأدوات، والمنخرطة في تحالفات مع بيوت التوزيع، ومنصات “التواصل الاجتماعي” الكبرى، مما قد يحرم صناع الإعلام المؤسسي من عوائد عملهم، وبالتالي سيضعف فرص بقائهم، بكل ما يعنيه هذا من عواقب خطيرة.

المصدر: الشرق الأوسط