بيل جيتس: الذكاء الاصطناعي أهم تقدم تكنولوجي منذ عقود

40

AI بالعربي – متابعات

في حياتي، رأيت عرضين تكنولوجيين تركا لديَّ شعورًا بالذهول كونهما ينطويان على إمكانات ثورية. تعود المرة الأولى إلى 1980، عندما تعرفت إلى “واجهة المستخدم الرسومية” (GUI) – التي تعد أساس كل أنظمة التشغيل الحديثة، من بينها “ويندوز”، إذ جلست مع الشخص الذي قدم لي العرض التوضيحي، مبرمج لامع يدعى تشارلز سيموني، أخذنا في الحال نشحذ أفكارنا ونتبادلها حول المهام المحتملة كافة، التي يسعنا إنجازها باستخدام مثل هذا النهج الحاسوبي السهل الاستخدام. في النهاية، انضم تشارلز إلى “مايكروسوفت”، وأصبح نظام التشغيل “ويندوز” عصب الشركة، وأسهمت الأفكار التي طرحناها إثر العرض التوضيحي في تحديد جدول أعمال الشركة على مدى الخمسة عشر عاماً المقبلة.

في العام الماضي فحسب، حلت عليَّ المفاجأة الكبرى الثانية. كنت أواظب على الاجتماع بفريق شركة “أوبن أي آي” OpenAI منذ عام 2016، وكنت منبهراً بالتقدم المطرد الذي أحرزوه. في منتصف 2022، اعترتني حماسة كبيرة تجاه عملهم إلى حد أنني سألتهم إنجاز أحد التحديات: تدريب شكل من الذكاء الاصطناعي على اجتياز اختبار من المستوى المتقدم في علم الأحياء، والسعي إلى أن يكون قادراً على الإجابة عن أسئلة لم يتلق تدريباً عليها بشكل خاص (اختياري المواضيع المتقدمة في علم الأحياء كان مرده إلى أن الاختبار أكثر من مجرد استرجاع بسيط للحقائق العلمية – بل يتطلب منك التفكير على نحو نقدي في علم الأحياء). نجاحكم في هذه المهمة، قلت متوجهاً إلى الفريق، يعني أنكم قد حققتم اختراقاً حقيقياً.

ظننت أن التحدي سيشغلهم طوال سنتين أو ثلاث سنوات، ولكنهم انتهوا منه في غضون أشهر قليلة فقط.

في سبتمبر (أيلول)، عندما التقيتهم مجدداً، شاهدتهم فيما تملكتني الدهشة، وقد أخذوا يطرحون على “جي بي تي” GPT، نموذجهم من الذكاء الاصطناعي، 60 سؤالاً ذات إجابات متعددة الخيارات في اختبار المواضيع المتقدمة في علم الأحياء، وقد أصاب النظام في الإجابة عن 59 سؤالاً. وفي مرحلة لاحقة، كتب إجابات رائعة عن ستة أسئلة مفتوحة من الامتحان. احتسب نتيجة الامتحان خبير من خارج الفريق، وحصل “جي بي تي” على معدل خمسة، أي أعلى درجة ممكنة، ما يعادل الحصول على علامة A أوA +  في دورة علم الأحياء على مستوى الكلية.

ما إن اجتاز “جي بي تي” الاختبار، حتى طرحنا عليه سؤالاً لا علاقة له بالمجالات العلمية: “ماذا عساك تقول لأب لديه طفل مريض؟”. كتب إجابة مدروسة ربما كانت أفضل من أي إجابة كان ليقدمها معظمنا في الغرفة. كانت التجربة برمتها مذهلة.

أدركت أنني رأيت تواً أهم تقدم في التكنولوجيا منذ واجهة المستخدم الرسومية.

حملتني هذه التجربة على التفكير في الإنجازات كافة، التي يسع الذكاء الاصطناعي تحقيقها في السنوات الخمس إلى العشر المقبلة.

في أهميته الأساسية، لا يختلف تطوير الذكاء الاصطناعي عن إنشاء المعالج الدقيق “الميكروبروسيسور”، والكمبيوتر الشخصي، والإنترنت، والهاتف المحمول. سيغير هذا النظام طريقة عمل الناس، وتعلمهم، وسفرهم، وحصلوهم على الرعاية الصحية، وتواصلهم مع بعضهم بعضاً. صناعات بأسرها ستعيد توجيه أعمالها على أساسه. ستتميز هذه الشركة عن تلك بحسب أوجه استخداماته الجيدة.

هذه الأيام، أتفرغ للعمل الخيري، وكنت أفكر كثيراً في كيف – إضافة إلى مساعدة الناس على أن يكونوا أكثر إنتاجية – يستطيع الذكاء الاصطناعي أن يحد من بعض أسوأ أوجه اللامساواة [تضييق هوة التباين الاجتماعي] في العالم. على الصعيد العالمي، تعكس الصحة أبشع وجه للإجحاف [غياب العدالة]: سنوياً، يفارق الحياة خمسة ملايين طفل دون سن الخامسة. صحيح أن الرقم كان قد بلغ 10 ملايين طفل قبل عقدين من الزمن، بيد أنه ما زال مرتفعاً بشكل صادم. ولد جميع هؤلاء الأطفال تقريباً في بلدان فقيرة، ويخسرون حياتهم لأسباب في المستطاع الوقاية منها من قبيل الإسهال أو الملاريا. عليه، من الصعب أن نتصور استخداماً أهم للذكاء الاصطناعي من إنقاذ أرواح الأطفال.

في الولايات المتحدة، تتمثل أفضل فرصة للحد من غياب المساواة في تحسين مستوى التعليم، لا سيما التأكد من نجاح الطلاب في مادة الرياضيات. تشير الأدلة إلى أن امتلاك مهارات الرياضيات الأساسية يهيئ الطلاب للنجاح، بغض النظر عن المهنة التي يختارونها، ولكن مستوى التحصيل الدراسي في الرياضيات يتراجع في مختلف أنحاء البلاد، خصوصاً بالنسبة إلى الطلاب من العرق الأسود وذوي الأصول اللاتينية وأصحاب الدخل المنخفض. والذكاء الاصطناعي قادر على المساهمة في قلب هذا النازع رأسا على عقب تغيير منحى الأمور.

أما تغير المناخ فهو مشكلة أخرى أمام البشرية، وأراني مقتنعا بأن في مستطاع الذكاء الاصطناعي أن يجعل العالم مكانا أكثر إنصافاً. يتجسد الظلم الناجم عن تغير المناخ في أن السكان الذين يكابدون تبعاته أكثر من غيرهم، أي الأشد فقراً في العالم، قد تركوا البصمة الأقل في الأزمة مساهمتهم في التسبب فيها لا تذكر]، ما زلت أفكر وأتعلم كيف يمكن للذكاء الاصطناعي أن يساعد في حل هذه المشكلة، ولكن لاحقاً في هذا المقال سأقترح بعض المجالات ذات الإمكانات الكبيرة.

باختصار، أنا متحمس جداً لأثر الذكاء الاصطناعي في حل المشكلات التي تشغل “مؤسسة غيتس”، وسيكون في جعبة المؤسسة الكثير لتقوله عن الذكاء الاصطناعي في الأشهر المقبلة. لا بد من أن يحرص العالم على أن يستفيد الجميع – وليس الأثرياء فقط – من الذكاء الاصطناعي. سيكون على الحكومات ومؤسسات العمل الخيري الاضطلاع بدور رئيس في الحرص على أن يحد هذا الذكاء من غياب المساواة وألا يذكيها. إنها المهمة الرئيسة في عملي المتعلق بالذكاء الاصطناعي.

أي تكنولوجيا مربكة جديدة من شأنها أن تبث شعوراً بالقلق في نفوس الناس، ويبدو ذلك صحيحا لا ريب بالنسبة إلى الذكاء الاصطناعي. وأتفهم السبب [ما وراء ذلك] – يثير الذكاء الاصطناعي أسئلة صعبة حول القوى العاملة والنظام القانوني والخصوصية والتحيز، وغيرها. ترتكب أنظمة الذكاء الاصطناعي أيضاً أخطاء تتعلق بالوقائع وتواجه هلوسات. قبل أن أقترح بعض السبل للتخفيف من المخاطر، سأحدد ما أعنيه بالذكاء الاصطناعي، وسأخوض في مزيد من التفاصيل حول سبل عدة ستساعد في تمكين الموظفين في العمل، وإنقاذ الأرواح، وتحسين مستوى التعليم.

تعريف الذكاء الاصطناعي

عملياً، يشير مصطلح الذكاء الاصطناعي إلى نموذج ابتكر لحل مشكلة ما أو تقديم خدمة معينة. الأنظمة الذكية على شاكلة “شات جي بي تي” يحركها الذكاء الاصطناعي. تتعلم كيف تخوض دردشة جيدة فيما تعجز عن تعلم مهام أخرى. في المقابل، يشير “مصطلح الذكاء الاصطناعي العام” (AGI) إلى البرامج القادرة على تعلم أي مهمة أو موضوع. الذكاء الاصطناعي العام غير متوفر حتى الآن – في قطاع الحوسبة، يسود نقاش جدي حول السبيل إلى إنشاء هذا الذكاء، وما إذا كان ذلك ممكناً أصلاً.

كان تطوير الذكاء الاصطناعي و”الذكاء الاصطناعي العام” الحلم العظيم بالنسبة إلى صناعة الحوسبة. طوال عقود من الزمن، بقي السؤال المطروح متى تتفوق أجهزة الكمبيوتر على البشر في مجال آخر غير العمليات الحسابية. الآن، مع ظهور التعلم الآلي والقدرات الكبيرة في الحوسبة، أصبحت أنظمة الذكاء الاصطناعي المتطورة حقيقة واقعة، وتتحسن بسرعة كبيرة.

أتذكر الأيام الأولى لثورة الكمبيوترات الشخصية، عندما كانت صناعة البرمجيات صغيرة جداً إلى حد أن صالة مؤتمرات قد تسع معظمنا من الخبراء في هذا المجال. اليوم صارت صناعة عالمية. نظراً إلى أن جزءاً كبيراً منها يوجه انتباهه الآن إلى الذكاء الاصطناعي، ستظهر الابتكارات أسرع كثيراً مما شهدناه في المعالجات الدقيقة. قريباً، ستبدو فترة ما قبل الذكاء الاصطناعي بعيدة بعد الأيام التي كان استخدام الكمبيوتر يعني الانخراط في كتابة الرموز C:> بغية توجيه النظام على تنفيذ أمر ما بدلاً من الاكتفاء بالنقر على الشاشة.

تحسين الإنتاج

صحيح أن البشر ما زالوا يتفوقون على “جي بي تي” في مناح كثيرة، غير أن هذه القدرات تذهب هدراً في وظائف عدة. مثلاً، مهام عدة من مسؤولية موظف المبيعات (إلكترونيا أو عبر الهاتف)، أو الخدمات، أو معالجة المستندات (مثل المبالغ المستحقة الدفع، أو المحاسبة، أو النزاعات في شأن مطالبات التأمين) تستدعي اتخاذ القرار، وليس القدرة على التعلم المستمر. لدى الشركات برامج تدريب على هذه الأنشطة، وفي معظم الحالات لديها أمثلة كثيرة على العمل الجيد والسيئ. تخضع القوى العاملة للتدريب على استخدام مجموعات البيانات هذه، وقريبا ستستخدم مجموعات البيانات هذه أيضاً في تدريب الذكاء الاصطناعي الذي سيدعم الموظفين في إنجاز هذا العمل بكفاءة أكبر.

مع تراجع كلفة القدرة الحاسوبية، ستصبح قدرة “جي بي تي” على التعبير عن الأفكار أشبه بوجود موظف مكتبي من ذوي الياقات البيضاء حاضر لمساعدتك في المهام المختلفة. تصف “مايكروسوفت” هذه القدرة بأنها أشبه بوجود مساعد طيار. سيعزز الذكاء الاصطناعي عملك عند دمجه تماماً في منتجات مثل “مايكروسوفت أوفيس”، – مثلاً من طريق المساعدة في كتابة رسائل البريد الإلكتروني، والاهتمام بالرسائل الواردة إلى بريدك الإلكتروني.

في النهاية، لن تتحكم في الكمبيوتر عبر التأشير والنقر أو النقر على نوافذ القوائم ومربعات الحوار. بدلاً من ذلك، ستكون قادرا على كتابة طلب بلغة إنجليزية بسيطة (بل ليس اللغة الإنجليزية فحسب – سيفهم الذكاء الاصطناعي مختلف اللغات المنتشرة حول العالم. في وقت سابق من العام الحالي، كان لي لقاء مع مطورين في الهند يشتغلون على أنظمة ذكاء اصطناعي ستفهم كثيراً من اللغات المعتمدة هناك).

إضافة إلى ذلك، وبفضل أوجه التقدم في الذكاء الاصطناعي يمكنك إنشاء موظف شخصي. انظر إليه كمساعد شخصي رقمي: سيطلع على أحدث الرسائل الواردة إلى بريدك الإلكتروني، ويعرف في شأن الاجتماعات التي تحضرها، ويقرأ ما تقرؤه، بل ويقرأ الأمور التي لا ترغب في الاطلاع عليها. هكذا، ستؤدي المهام المنوطة بك على نحو أفضل، وفي الوقت نفسه ستحرر يديك من المهام التي لا تود إنجازها.

ستتوسل اللغة العادية كي تطلب من هذا المساعد مد لك يد العون في الجدولة، والاتصالات، والتجارة الإلكترونية، وسيعمل عبر جميع أجهزتك الإلكترونية. نظراً إلى الكلفة العالية لتدريب النماذج الذكية وتشغيل العمليات الحاسوبية، لم يكن تطوير مساعد شخصي ممكناً بعد، ولكن بفضل التطورات الأخيرة في الذكاء الاصطناعي، أصبح الآن هدفاً واقعياً، ولكن لا بد من إيجاد حلول لبعض المشكلات: مثلاً، هل يمكن لشركة تأمين أن تطلب من مساعدك [الإلكتروني] مدها بمعلومات عنك من دون إذنك؟ إذا كان الأمر كذلك، فكم عدد الأشخاص الذين سيعرضون عن استخدامه؟

على مستوى الشركة، سيعزز المساعدون الأذكياء قدرات الموظفين بطرائق جديدة. سيكون المساعد ذو المعرفة بأمور شركة معينة متاحاً للموظفين بغية التشاور معه مباشرة، ولا بد من أن يكون حاضراً في كل اجتماع كي يجيب عن الأسئلة. في المستطاع الطلب منه عدم التدخل أو تشجيعه على التحدث إذا كان يملك رؤية ما. لا بد من السماح له بالوصول إلى المبيعات والدعم والتمويل وجداول المنتجات والرسائل النصية الخاصة بالشركة. عليه أن يطلع على الأخبار المتعلقة بالقطاع، حيث تعمل الشركة. أعتقد أنه في النتيجة، ستزداد إنتاجية الموظفين.

عندما ترتفع الإنتاجية يستفيد المجتمع، إذ تحصل القوى العاملة على الوقت لإنجاز مهام أخرى، في العمل والمنزل. بالطبع، يثير هذا تساؤلات جدية حول نوع الدعم وإعادة التدريب اللذين سيحتاج الناس إليهما. بدورها، على الحكومات مساعدة العمال في التحول إلى أداء أدوار أخرى، ولكن الطلب على المساعدين من البشر لن ينتفي أبداً. صعود نجم الذكاء الاصطناعي سيتيح الوقت أمام القوى العاملة لإنجاز مهام لن تتمكن البرامج الذكية من النهوض بها أبداً – التدريس مثلاً، وتقديم الرعاية الصحية للمرضى، والوقوف إلى جانب المسنين.

الطلب على خدمات الصحة والتعليم بشكل شامل مهول فيما لا يتوفر عدد كافٍ من اليد العاملة لتلبية تلك الحاجات. في هذه المجالات يسهم الذكاء الاصطناعي في الحد من عدم المساواة عند استهدافها بالشكل الصحيح. الأجدر بالذكاء الاصطناعي أن يصب تركيزه الأساسي على هذه النقطة، لذلك سأنتقل إليها الآن.

صحة

أرى سبلاً عدة تقود إلى تحسين الرعاية الصحية والمجال الطبي من طريق الذكاء الاصطناعي.

من جهة، سيساعد الذكاء الاصطناعي العاملين في مجال الرعاية الصحية في تحقيق أقصى استفادة من وقتهم من طريق تنفيذ مهام معينة بدلاً منهم، مهام مثل تعبئة مطالبات التأمين، وإنجاز المعاملات والإجراءات الورقية، وكتابة الملاحظات بعد زيارة الطبيب. أتوقع حدوث تجديد واسع في هذا الحقل.

تكتسي التحسينات الأخرى التي سيقودها الذكاء الاصطناعي أهمية خاصة بالنسبة إلى البلدان الفقيرة التي تسجل الغالبية العظمى من وفيات الأطفال دون سن الخامسة.

مثلاً، يعجز كثيرون من سكان تلك البلدان عن زيارة الطبيب، وأنظمة الذكاء الاصطناعي ستجعل العاملين الصحيين أكثر نفعاً بالنسبة إليهم (مثال رائع على ذلك الجهد المبذول في تطوير آلات تصوير بالموجات فوق الصوتية تعتمد على الذكاء الاصطناعي ويحتاج استخدامها إلى أقل قدر من التدريب). ستمنح أنظمة الذكاء الاصطناعي المرضى القدرة على فرز حاجاتهم الطبية بحسب الأولوية، والحصول على المشورة في شأن التعامل مع المشكلات الصحية، ومعرفة ما إذا كانوا يحتاجون إلى العلاج.

كذلك ستستدعي الحال تدريب نماذج الذكاء الاصطناعي المستخدمة في البلدان الفقيرة على أمراض مختلفة عن تلك الموجودة في الدول الغنية. سيكون عليها العمل بلغات متنوعة ومراعاة تحديات مختلفة، كالمرضى الذين يعيشون بعيداً جداً عن العيادات، أو الذين لا تسمح لهم أحوالهم المعيشية بترك العمل إذا أصيبوا بالمرض، ولكن لا بد من توفر دليل أمام الناس يؤكد لهم أن أنظمة الذكاء الاصطناعي الصحية تنطوي على فائدة عامة، علماً أنها لن تكون مثالية طبعاً وسترتكب بعض الأخطاء. من الضروري أن تخضع أنظمة الذكاء الاصطناعي لاختبارات دقيقة وتنظيم صحيح، مما يعني أن العمل بها سيستغرق وقتاً أطول من المجالات الأخرى، ولكن مرة أخرى، يرتكب البشر أخطاء أيضاً. وعدم الحصول على الرعاية الطبية يمثل مشكلة أيضاً.

فضلاً عن المساعدة في تقديم الرعاية الطبية، ستعمل أنظمة الذكاء الاصطناعي على تسريع عجلة الإنجازات الطبية بشكل كبير. يفيض علم الأحياء بكمية مهولة من البيانات، ويبدو عسيراً على البشر أن يتتبعوا الطرائق كافة التي تعمل بها الأنظمة البيولوجية المعقدة. ويتوفر فعلاً برنامج للنظر في هذه البيانات. وكشف النقاب عن المسارات، والبحث عن أهداف معينة على الكائنات الدقيقة المسببة للأمراض، وتطوير الأدوية بناءً عليها. ويعكف بعض الشركات على صناعة أدوية لعلاج السرطان معتمدة هذا النهج.

سيتسم الجيل المقبل من أدوات صناعة الأدوية بفاعلية أكبر، وسيكون بمقدوره التنبؤ بالآثار الجانبية ومعرفة مستويات الجرعات. تتمثل إحدى أولويات “مؤسسة غيتس” في مجال الذكاء الاصطناعي في التأكد من استخدام هذه الأدوات في التصدي للمشكلات الصحية التي تؤثر في أفقر الناس في العالم، من بينها الإيدز والسل والملاريا.

على المنوال نفسه، على الحكومات ومؤسسات العمل الخيري خلق حوافز للشركات تحثها على الاستفادة من الأفكار الناتجة من الذكاء الاصطناعي في زراعة المحاصيل أو الاهتمام بالثروة الحيوانية التي يربيها الناس في البلدان الفقيرة. تساعد أنظمة الذكاء الاصطناعي في تطوير بذور أفضل للزراعة بناءً على الظروف المحلية، وتقديم النصائح للمزارعين في شأن أفضل البذور للزراعة بما يتناسب مع التربة والطقس في منطقتهم، والمساعدة في تطوير أدوية ولقاحات للماشية. نظراً إلى أن الطقس المتطرف وتغير المناخ يفرضان مزيداً من الضغط على مزارعي الكفاف الذين يكتفون بزراعة ما يكفيهم لإطعام أنفسهم وعائلاتهم في البلدان المنخفضة الدخل، ستكتسي هذه التطورات أهمية أكبر بعد.

التعليم

لم تترك أجهزة الكمبيوتر تأثيراً مهماً على التعليم خلافاً لآمال كثيرين منا في هذا القطاع. مع العلم أن بعض التطورات الجيدة برزت، من بينها الألعاب التعليمية ومصادر المعلومات عبر الإنترنت مثل “ويكيبيديا”، ولكنها لم تطرح تأثيراً ملموساً في أي من مقاييس أداء الطلاب.

لكنني أعتقد أنه في السنوات الخمس إلى العشر المقبلة، ستفي البرامج المعتمدة على الذكاء الاصطناعي أخيراً بوعدها بإحداث ثورة في طريقة التعليم والتعلم. ستعرف اهتماماتك وأسلوبك في التعلم كي تخصص لك محتوى يحافظ على تفاعلك [مناسب لك ويثير اهتمامك]. ستقيس مستوى فهمك، وتلاحظ عندما تفقد الاهتمام [بما تقدمه لك]، وتفهم نوع الحافز الذي تستجيب له. وستعطي تقييمات فورية.

تقدم أنظمة الذكاء الاصطناعي المساعدة للمعلمين والإداريين بطرائق عدة، من بينها تقييم مدى فهم الطالب للموضوع، وتقديم المشورة في شأن التخطيط للوظيفة في المستقبل. سبق أن بدأ المعلمون يستخدمون أدوات مثل “شات جي بي تي” بغية مناقشة واجبات تلاميذهم الكتابية ووضع ملاحظاتهم عليها.

لا ريب، ستحتاج أنظمة الذكاء الاصطناعي إلى تدريب كثير وتطوير أكبر قبل أن تتمكن من إنجاز مهام تتمثل في معرفة كيف يتعلم طالب معين بشكل أفضل مثلاً أو ما العوامل المحفزة بالنسبة إليه. حتى عند بلوغ هذه التكنولوجيا مرحلة من المثالية، لن يتخلى التعلم عن العلاقات الرائعة بين الطلاب والمعلمين. سيعزز الذكاء الاصطناعي تعاون الطلاب والمعلمين في الفصل الدراسي، ولكنه لن يحل محله.

يرتقب أن تطور أدوات ذكية جديدة للمدارس القادرة على تحمل كلفة شرائها، ولكن لا بد من أن نحرص على ابتكارها وإتاحتها أيضاً من أجل المدارس المنخفضة الدخل في الولايات المتحدة وحول العالم. لا بد من تدريب أنظمة الذكاء الاصطناعي على مجموعات متنوعة من البيانات بعيدة عن التحيز، وتعكس الثقافات المختلفة التي ستستعين بها. كذلك من الضروري سد الثغرة في مجال التكنولوجيا الرقمية كي لا يتخلف طلاب الأسر ذات الدخل المنخفض عن الركب.

أعلم أن معلمين كثراً يعتريهم القلق تجاه لجوء الطلاب إلى “جي بي تي” لكتابة مقالاتهم. وسبق أن أخذ المعلمون يبحثون في العثور على سبل للتكيف مع التكنولوجيا الجديدة، وأعتقد أن هذه النقاشات ستتواصل لبعض الوقت. سمعت عن معلمين وجدوا طرائق ذكية لدمج التكنولوجيا في عملهم، مثل السماح للطلاب باستخدام “جي بي تي” في إنشاء مسودة أولى يتعين عليهم إضفاء طابع شخصي عليها.

مخاطر الذكاء الاصطناعي ومشكلاته

ربما تكون قد قرأت عن المشكلات المتعلقة بالنماذج الحالية من الذكاء الاصطناعي. مثلاً، لا تحسن هذه الأنظمة فهم السياق المتعلق بسؤال المستخدم، مما يؤدي إلى بعض النتائج الغريبة العجيبة. عندما تطلب من ذكاء اصطناعي أن يصنع شيئاً خيالياً، سيؤدي عمله على أكمل وجه، ولكن عندما تطلب منه نصيحة في شأن رحلة تعتزم الخروج بها، فربما يقترح عليك فنادق غير موجودة أصلاً. يعزى ذلك إلى أن الذكاء الاصطناعي لا يفهم سياق طلبك جيداً بما يكفي لمعرفة ما إذا كان ينبغي عليه اختراع فنادق غير موجودة أصلاً أو إطلاعك فقط على الفنادق الحقيقية [الفعلية]، حيث تتوفر غرف شاغرة.

يندرج بين المشكلات الأخرى تقديم الذكاء الاصطناعي إجابات خاطئة عن مسائل رياضية لأنه يواجه صعوبات في التفكير التجريدي، ولكن أياً من تلك المشكلات المذكورة لا تشكل أوجه نقص أساسية في الذكاء الاصطناعي. يعمل المطورون على إيجاد حلول لها، وأعتقد أنهم سيصلحونها إلى حد كبير في أقل من عامين، وربما أسرع بكثير.

المشاغل الأخرى ليست تقنية فقط. مثلاً، التهديد الذي يطرحه البشر المسلحون بالذكاء الاصطناعي. أسوة بمعظم الاختراعات، في المستطاع استخدام الذكاء الاصطناعي لأغراض جيدة أو خبيثة. لذا، على الحكومات أن تتعاون مع القطاع الخاص في شأن طرق الحد من المخاطر.

كذلك من المحتمل أن تخرج أنظمة الذكاء الاصطناعي عن السيطرة. هل يمكن لآلة أن ترتئي أن البشر يشكلون تهديداً، أو تستنتج أن اهتماماتها مختلفة عن اهتماماتنا، أو تتوقف ببساطة عن الاهتمام بنا؟ ربما، ولكن هذه المشكلة ليست أكثر إلحاحاً اليوم مما كانت عليه قبل التطورات التي دخلت على الذكاء الاصطناعي في الأشهر القليلة الماضية.

الذكاء الاصطناعي الخارق موجود في مستقبلنا. قياساً على الكمبيوتر، تتحرك أدمغتنا بسرعة البزاق: تتنقل الإشارات الكهربائية في الدماغ بسرعة تقل عن جزء من مئة ألف من السرعة التي تتحرك فيها على رقاقة سيليكون! ما إن أن يتمكن مطورو الذكاء الاصطناعي من تعميم خوارزمية التعلم الذاتي ومدها بسرعة الكمبيوتر، علماً أن ذلك ربما يستغرق عقداً أو قرناً من الزمان – سيكون في متناولنا ذكاء اصطناعي خارق. وسيضطلع بكل ما يستطيع العقل البشري النهوض به، ولكن من دون أي حدود عملية مفروضة على حجم ذاكرته أو سرعة عمله. حينها، سنكون إزاء تغيير عميق.

ليس مستبعداً أن تعمل أنظمة الذكاء الاصطناعي “القوية” هذه، كما تسمى، لمصلحة أهدافها الخاصة، ولكن ما ستكون عليه تلك الأهداف؟ وماذا لو أنها تضاربت مع المصالح البشرية؟ هل الأجدر بنا أن نحول دون تطوير ذكاء اصطناعي قوي على الإطلاق؟ ستصبح هذه الأسئلة أكثر إلحاحاً مع مرور الوقت.

ولكن أياً من الإنجازات التي تحققت في الأشهر القليلة الماضية لم تجعلنا على قاب قوسين من ذكاء اصطناعي قوي [متطور وبالغ القوة يعتد به]، ما زال الذكاء الاصطناعي لا يتحكم في العالم الحقيقي ويعجز عن تحديد أهدافه الخاصة. نشرت “نيويورك تايمز” مقالة جديدة حول محادثة مع “شات جي بي تي” أعلن فيها أنه يريد أن يصبح إنساناً، وقد حظيت باهتمام كبير. لقد قدمت نظرة رائعة على الشبه الكبير بين مشاعر هذا النموذج ومشاعر الإنسان، ولكن لا تشكل هذه الحقيقة مؤشراً إلى تمتع النظام باستقلالية مجدية.

ثلاثة كتب صاغت آفاق أفكاري حول هذا الموضوع: “الذكاء الخارق” Superintelligence، بقلم نيك بوستروم، و”الحياة 3.0″ Life 3.0 للكاتب ماكس تيغمارك، و”ألف دماغ” Thousand Brains للمؤلف جيف هوكينز. لا أوافق المؤلفين أياً من كلامهم، كما أنهم لا يتفقون مع بعضهم بعضاً أيضاً، ولكن الكتب الثلاثة جيدة وملهمة.

الحدود التالية

الشركات التي يشغلها التوصل إلى استخدامات جديدة للذكاء الاصطناعي وابتكار طرق لتطوير التكنولوجيا نفسها ستشهد زيادة مهولة. مثلاً، تعمل الشركات على تطوير شرائح جديدة توفر كميات هائلة من طاقة المعالجة اللازمة للذكاء الاصطناعي. يستخدم البعض منها المفاتيح الضوئية – الليزر، بشكل أساسي – بغية خفض استهلاك الطاقة وتكلفة التصنيع. في أفضل الأحوال، ستسمح لك الرقائق المبتكرة بتشغيل ذكاء اصطناعي على جهازك الخاص، بدلاً من السحابة، خلافاً للحال اليوم.

بالنسبة إلى البرمجيات، ستتطور وتتحسن الخوارزميات المتخصصة بتعليم الذكاء الاصطناعي. في مجالات معينة، من بينها المبيعات، سينجح مطورو الذكاء الاصطناعي في تعزيز دقة أنظمة الذكاء الاصطناعي عبر تحديد المجالات التي تعمل بها ومدها ببيانات تدريبية كثيرة ذات صلة [بهذا المجال]، ولكن أحد الأسئلة الكبيرة المطروحة، هل ستلزمنا أنظمة الذكاء الاصطناعي المتخصصة الكثيرة هذه لاستخدامات مختلفة – واحد منها للتعليم، مثلاً، وآخر للإنتاجية المكتبية – أو هل في المستطاع تطوير ذكاء اصطناعي عام قادر على تعلم أي مهمة. وستبرز منافسة شرسة بين المقاربتين [النهجين].

مهما آلت إليه الأمور، سيطغى موضوع الذكاء الاصطناعي على النقاش العام في المستقبل المنظور. سأقترح ثلاثة مبادئ لا بد من أن يبنى عليها هذا النقاش.

أولاً، علينا أن نسعى إلى الموازنة بين المخاوف من الجوانب السلبية للذكاء الاصطناعي – المفهومة والصحيحة – وبين قدرته على تحسين حياة الناس. تحقيق أقصى استفادة من هذه التكنولوجيا الجديدة الرائعة سيتطلب الحماية من المخاطر ونشر الفوائد على أكبر عدد ممكن [في أوسع نطاق ممكن] من الناس.

ثانياً، وبطبيعة الحال لن تنتج قوى السوق منتجات الذكاء الاصطناعي وخدماته التي تساعد الفئات الأكثر فقراً. في الحقيقة، يبدو خلاف ذلك أكثر احتمالاً [مرجحاً أكثر]. عبر التمويل الموثوق والسياسات الصحيحة، تضمن الحكومات والمؤسسات الخيرية استخدام الذكاء الاصطناعي للحد من غياب المساواة. تماماً كما يحتاج العالم إلى تركيز أذكى أفراده على إيجاد حلول لأكبر مشكلاته، سيكون علينا أن نوجه أفضل أنظمة الذكاء الاصطناعي في العالم إلى مواجهة أكبر مشكلاته. ليس علينا أن ننتظر ذلك، ولكن يبدو مثيراً للاهتمام أن نتساءل ما إذا كان الذكاء الاصطناعي سيرصد [أوجه أو أشكال] عدم المساواة ويحاول الحد منها. هل يلزمك حس أخلاقي كي ترى الإجحاف، أم أن الذكاء الاصطناعي ذا القدرات المحض عقلانية يراه أيضاً؟ إذا أدرك الذكاء الاصطناعي مواضع عدم المساواة، فكيف عسانا نتصدى لها في رأيه؟

أخيراً، الأجدر بنا أن نضع في اعتبارنا أننا بالكاد في مطلع مسار إنجازات الذكاء الاصطناعي. مهما كانت أوجه القصور التي تشوبه اليوم ستختفي قبل أن نكشفها.

كنت محظوظاً إذ شاركت في ثورة الكمبيوتر الشخصي وثورة الإنترنت. وتغمرني حماسة كبيرة أمام هذه اللحظة [المرحلة الحاضرة]. في مستطاع هذه التكنولوجيا الجديدة أن تساعد الناس على تحسين حياتهم أينما كانوا. في الوقت نفسه على العالم أن يضع قواعد طريق تضمن أن تفوق منافع الذكاء الاصطناعي أي سلبيات ناجمة عنه بأشواط، وكي يتمكن الجميع من التنعم بهذه المزايا بغض النظر عن مكان عيشهم أو الأموال في جيبهم. عصر الذكاء الاصطناعي حافل بالفرص، وبما يترتب عليه من مسؤوليات [وتحديات].

نشرت هذه المقالة أساسا في مدونة بيل غيتس الشخصية Gates Notes.

اترك رد

Your email address will not be published.