الذكاء الاصطناعي ومستقبل العمل الصحفي
نادين السيد
يتواكب تقديم كل تكنولوجيا جديدة منذ الثورة الصناعية وإلى ثورة الذكاء الاصطناعى مع فزع عام وتساؤلات حول تأثيرها على البشرية والمجتمع والقوى العاملة، وما إذا ستقلص تلك التكنولوجيا الوظائف المتاحة فى سوق العمل فى إطار ديستوبيا مستقبلية تحتل فيها الآلات والروبوت محل الإنسان فى ثورة تكنولوجيا تنقلب ضد البشرية.
تلك الخواطر والخيالات العلمية ظهرت من جديد مع تطور تكنولوجيا الذكاء الاصطناعى خلال الأعوام الماضية وتقديم عدة منصات دردشة مع الذكاء الاصطناعى والذى يمكنه كتابة مقالات وأوراق دراسية، وازدادت التخيلات والمناقشات مع تقديم شركة Open AI لروبوت الدردشة ChatGPT الذى وصل إلى مليون مستخدم ومستخدمة فى الأسبوع الأول من انطلاقه فى شهر ديسمبر الماضى. كما أعلنت شركة جوجل فى أوائل شهر فبراير عن إطلاق تقنية شبيهة فى خلال الأسابيع القادمة والذى سمى Bard. جدير بالذكر أن شركة جوجل قامت بتعديل أولوياتها البحثية للتنمية لإدراج الذكاء الاصطناعى أو الـ artificial intelligence (AI) كمحور أساسى لمستقبل الشركة منذ حوالى ستة أعوام وقامت بتقديم منصة Google AI المجانية التى تقدم عدة خدمات للمستخدم قائمة على الـAI والـmachine learning (التعليم الآلى) الذى يعتمد على تغذية المنصة بالمعلومات لتقوم بالتطوير من نفسها كلما زادت قاعدة البيانات الخاصة بها.
والكثير من الحديث حول التقنية تميز بطابع تشاؤمى حول تأثيرها على مجالات عدة من ضمنها التعليم حيث إن التقنية بإمكانها كتابة مقالات دراسية بالنيابة عن الطلبة، وإن كانت مقالات رديئة الجودة على الأقل حتى الآن، وتأثيرها السلبى على توافر الوظائف، من ضمنها الوظائف فى مجالات الإعلام والصحافة. ولكن بالرغم من تلك النظرة تشاؤمية النزعة، فمما لا شك فيه أن التقنية موجودة بالفعل وفى تطور مستمر. ولذا فكما يقول الإنجليز، إن لم تتمكن أن تنتصر عليهم، فلتنضم إليهم. فالأحرى بنا أن ننظر إلى كيفية تطويع تلك التقنيات لدعم وظائفنا اليومية.
هذا الأمر ليس بجديد فى مجال الصحافة، فصحف مثل الـWashington Post مثلا قامت بتطويع الذكاء الاصطناعى لمساعدة الصحفيين والصحفيات من خلال تطوير برنامج لكتابة مقالات تغطية نتائج أوليمبياد ريو سنة ٢٠١٦ كما تم استخدامه فى تغطية نتائج الانتخابات وأنواع أخرى من المقالات التى تتبع تركيبة موحدة تقوم على متابعات تكاد تكون منهجية لأرقام أو نتائج. وقام البرنامج بكتابة أكثر من ٨٥٠ مقالا. بعض المنظمات العالمية مثل الـ Associated Press تستخدم الذكاء الاصطناعى فى تغطية الأرباح المالية والبورصة. فالـAI أصبح يستخدم فى جميع مراحل المحتوى الصحفى، من أول استطلاع الاتجاهات فى بيانات انتخابية أو البورصة أو وسائل التواصل أو ما إلى ذلك لترشيح موضوعات للصحفى أو الصحفية، إلى كتابة الأجزاء المنهجية فى مقالات الأخبار ونهايةً القيام بتوزيع المحتوى الإعلامى على المستخدم أو المستخدمة بناءً على اهتماماته ونشاطاته. ويلعب الـAI أيضا دورا كبيرا فى الصحافة الاستقصائية، حيث يمكن استخدام تقنية تعليم الزلة فى تطوير البرنامج ليبحث فى قواعد بيانات طويلة ومعقدة للوصول إلى معلومة ما أو اتجاه معين يمكنه أن يدل على الكثير، من ضمنها مثلا تحيزات معينة وما إلى ذلك. فقد استخدم صحفى استقصائى الذكاء الاصطناعى فى البحث فى قواعد بيانات محاكمات مدنية بالولايات المتحدة لدراسة التحيز العمرى والعنصرى والنوعى. والجدير بالذكر أن البحث فى قواعد بيانية هائلة مثل تلك الحالة يستهلك من الآلة بضع ساعات، فى حين يستهلك من الصحفى أشهرا طويلة ومجهودا كبيرا يمكن للصحفى بذله بوجه أفضل وأكثر فاعلية. فبالفعل تقدر وكالة Associated Press أن استخدام الـAI وفر ٢٠ بالمائة من وقت مراسليها فى عام ٢٠١٧.
والتقنيات الحديثة فى الصحافة لا تقتصر على الذكاء الاصطناعى، فهناك أيضا تقنية الواقع الافتراضى والواقع المعزز، وهو مجال يتوقع زيادة قيمته من ٣٧ مليار دولار فى ٢٠١٩ إلى ١.٣ تريليون دولار فى عام ٢٠٣٠. لذا، فجميع الدلائل تشير إلى طفرة تقنية أخرى فى جميع المجالات وفى مجال الإعلام.
لكن كل تلك الاستخدامات لا تعنى مطلقا أن الـAI سوف يحل محل الصحفى واندثار مهنة الصحافة. الـAI مثله مثل الحاسوب والإنترنت، آلة يستخدمها الصحفى ويطوعها لخدمة عمله اليومى وتطويره من حيث النوع والفاعلية لتحرره من المهام الرتيبة التى تستنفذ طاقته ووقته، لتوفير تلك الطاقة للأعمال الأكثر تعقيدا والتى تحتاج خبرات تحليلية وفكرية وقدرة لإجراء مقابلات صحفية ذات معنى تضيف للمحتوى عمقا آخر وبعدا إنسانيا لم تتمكن الآلة من الوصول إليه بعد.
البقاء هنا ليس للآلة، ولكن للصحفى الذى سيقدر على اعتناق التقنية الجديدة وتطويعها لخدمته وتطوير وتثقيف نفسه على كيفية استخدامها لصالحه والابتعاد عن محاربة أمر محسوم منذ انطلاقه. فقد أثبتت لنا قوانين الطبيعة أن البقاء دائما للأكثر قدرة على التطور مع اختلاف الظروف والمعطيات.
والمواكبة والتطوير هنا لن يكون مسئولية الصحفى وحده، فكثير من العبء هنا سيقع على المؤسسات الإعلامية لتطوير أنظمتها وموظفيها معا، مما قد يرجح كافة المؤسسات الكبرى التى لديها الإمكانيات المادية لتحقيق ذلك، ومما قد يصنع فجوة بين تلك المؤسسات والمؤسسات الصغيرة والمتوسطة. أجرت مؤسسة جوجل وLondon School of Economics استقصاء بحثى يضم ٧١ مؤسسة حبرية فى ٣٢ دولة فى عام ٢٠١٩ عن استخدام الذكاء الاصطناعى ووجدت أن أكثر من نصف تلك المؤسسات ليست جاهزة لاستخدام تلك التقنيات، وأن المؤسسات الصغيرة أكثر تخوفا. ووجد البحث أن أكبر التحديات فى هذا النحو هو الموارد المالية وعدم توافر الخبرات والمهارات اللازمة. ذلك دفع الكثير من المؤسسات إلى الرغبة فى إيجاد موظفين جدد مدربين بالفعل على استخدام تلك التقنيات فى العمل الإعلامى، مما يشير مجددا إلى أهمية تبنى تلك التطورات وعدم مقاومة تغيير قائم لا محال.