الذكاء الاصطناعي التوليدي و7 شروط للتحرر من تناقضاته
AI بالعربي – متابعات
ربما هي مجرد صورة لم تثر سوى قليل من الضحك لدى كثيرين، أقله لأن لعبتها مكشوفة، لكنها لم تخل أيضاً على الأرجح من تأثير الصدمة الناعمة المقصودة. يتعلق الأمر بتلك الصورة التي صنعت بتقنيات التزييف العميق للذكاء الاصطناعي التوليدي Generative Artificial Intelligence وتظهر البابا فرانسيس الثاني وقد اتشح بعلم يحمل ألوان الطيف الضوئي المستعمل في الإشارة إلى أصحاب الميول الجنسية غير التقليدية، أو مجتمع الـ”ميم”. الأرجح أن معظم من شاهد تلك الصورة أدرك فوراً أنها زائفة، لكن هل يكفي ذلك للقول إنها لم تترك تأثيراً؟ هل قصد صناعها إطلاق نوع من التطبع الأولي بين الرمز الديني السامق ورمز أصحاب تلك الميول التي تجد نفسها دوماً في تصادم مع الأديان السماوية بصورة عامة؟
ليس تلك سوى نقطة من سيول تعالت تلاطماتها منذ انطلاقة نموذج “تشات جي بي تي” Chat GPT للتحاور لغوياً مع البشر، وما تلاه من نماذج تعاملت مع مناح أخرى في حياتهم كالموسيقى، خصوصاً النصوص البصرية التي يستند تأثيرها إلى تراث عميق من علاقة البشر مع العين والثقة بها (وبالترافق مع الأذن غالباً). ومن الأمثلة عن ذلك التأثير البصري سقوط البورصة العالمية لدقائق قليلة عقب انتشار صورة مزيفة بالذكاء الاصطناعي عن تفجير طاول البنتاغون. يرى كثر أن ما يرى يصبح جزءاً من ذاكرة بصرية فيصعب التعامل معه كأنما لم يره أحد.
ولعل ذلك الأمر جزء بسيط وهين من أسباب الجهد الدولي الواضح لوضع ضوابط ومدونات سلوك تتناول المحتوى المزيف بالذكاء الاصطناعي التوليدي، بل مجمل المحتوى الرقمي، بل إنها تركز أساساً على ظاهرة ذلك النوع من ذكاء الآلات. ولعل مدونة السلوك الأوروبية عن الذكاء التوليدي ومبادرة الأمم المتحدة عن المحتوى الرقمي، وقد أعلنتا خلال الشهر الجاري، مجرد مثلين عن ذلك.
في الزمن الرقمي، بات من الصعب عدم إدراك التغلغل المتواصل للتقنية في صلب النسيج الاجتماعي للحياة اليومية للبشر. وأحياناً، قد يميل البعض إلى تقليص ذلك الأمر، بالإشارة إلى أن الكائن البشري صار “إنسان التكنولوجيا”Homo Technicus على رغم أن النظرة الأنثروبولوجية تشدد على أن العيش الإنساني له أبعاد متعددة ومتشابكة، لا يمكن فصل التكنولوجيا عنها، لكن يصعب أن تختزل بذلك البعد.
الاستنطاق النقدي للآلات الذكية
وفق مجموعة مقالات عن الذكاء الاصطناعي التوليدي نشرت في وسائل إعلام غربية كـ”فورين أفيرز” و”وول ستريت جورنال” و”اندبندنت” و”كوانتاماغازين” وغيرها، ثمة شروط سبعة يجب استيفاؤها كي تستطيع البشرية الاستمرار في الاستفادة من الإنجاز العلمي المذهل الذي يمثله الذكاء التوليدي، مع استمرار الحفاظ على مسافة التشكك المنهجي والتفكير النقدي في التعامل معه.
استباقاً، لا تعتمد تلك الشروط على صناع التقنية وحدهم، بل تقتضي انخراط كل الأطراف البشرية الفاعلة في المجتمعات الإنسانية فيها، خصوصاً من يمسكون بزمام القيادة في الفكر والتعليم والتشريع والقيادة.
(ب) أن يحرص صناع تلك التقنية على التدقيق في استمرار التطابق بين أهداف تلك الآلات وما يصبو إليه البشر. ووفق مثل قدمه الاختصاصي السويدي في الذكاء الاصطناعي نيك بوستروم، فإن آلة للذكاء الاصطناعي الخارق يصاغ لها هدف تحقيق زيادة دائمة في صنع مشابك الغسيل ستحول الأرض كلها إلى مصنع ضخم لتلك المشابك!
(ت) تعزيز الثقة بين الجمهور والشركات والعلماء الذين يصنعون الذكاء التوليدي. لقد قدم الاختصاصي جيوفري هينتون الذي وصف بأنه “عراب الذكاء الاصطناعي” في شركة “غوغل”، مثلاً عن عالم يستطيع الإيحاء بالثقة بأن من يعملون في شركات التكنولوجيا الذكية لا تقتصر أهدافهم على التقدم العلمي أو زيادة الثروات لديهم أو لدى مؤسساتهم، بل إنهم يهتمون بمصلحة البشرية بعمومها أيضاً. ومن المعروف أن هينتون استقال من “غوغل” كي يتفرغ لتنبيه البشرية عن مخاطر الذكاء الاصطناعي التوليدي والمناحي السلبية المفزعة والكوارثية التي يتضمنها.
(ث) إيجاد طريقة منهجية سهلة يستطيع الجمهور الواسع التمرس بها بسهولة، وتكفل الاستنطاق النقدي لآلات الذكاء الاصطناعي التوليدي، أثناء الحوار معها. يجب أن يدمج ذلك الاستنطاق بين التشكيك المنهجي العقلاني والتعامل الإيجابي مع الآلات الذكية.
(ج) من المفيد ظهور مؤشرات علمية واجتماعية عن الاستخدام المأمون للذكاء الاصطناعي التوليدي. ويجب أن تأتي بصورة تجمع بين نوعية النماذج المستعملة من الذكاء التوليدي، والسياق الفردي والاجتماعي لذلك الاستخدام. ولعله من المفيد أيضاً أن تسهم الشركات والعلماء في ذلك، بإيجاد وسائل فاعلة تضع تحت عين وأذن من يستعمل الذكاء التوليدي، ما يشير إلى مدى صوابية أو خطأ ما يحصل عليه.
التقنية كجزء من المعايير الاجتماعية
يتعلق الشرط الثالث للتحرر من تناقضات الذكاء التوليدي بظاهرة توضحت في سياق انتشار الوسيط الرقمي عموماً، تكمن في سرعة تأقلم البشر مع الأدوات والبرامج والمعطيات الرقمية، فتصل إلى حال معيارية، أي أن تندرج طرق استعمالها ضمن المعايير الاجتماعية بشكل مرن ومقبول على نطاق واسع. والأرجح أن قائمة الأمثلة على تلك المعيارية طويلة جداً وتشمل الانتشار الواسع للكمبيوتر بتنويعاته (لاب توب، ديسك توب، تابلت وغيرها) والخليوي بأنواعه المتعددة ووسائط التواصل الاجتماعي ومنصاته وغيرها. ولعل الذكاء الاصطناعي التوليدي يحتاج إلى حال معيارية مشابهة، يرجح ألا يتأخر ظهورها، مع ضرورة العمل على نشر الوعي بعدم الاعتماد على ذلك الذكاء بشكل مطلق، بل إن الحوار الإيجابي معه يتطلب استنطاقاً نقدياً له. وبعبارة أدق، يجب تذكير الأفراد والمجتمعات باستمرار بعدم التعامل بالذكاء الاصطناعي التوليدي بوصفه حكماً ومرجعية في الصواب والحقيقة والصوابية، بل التفاعل معه بتحفظ إيجابي. ولعل الركيزة الفعلية لذلك التحفظ اليقظ تتمثل في تذكر البشر دائماً أن الآلات هي أشياء، ليست كائنات ولا سحراً ولا جنياً يخرج من القمقم كي يحقق خيالات أحلامهم في لمح البصر.
يتمثل الشرط الرابع للتحرر من تناقضات الذكاء الاصطناعي التوليدي في أن تلك التقنية تسير بخطى حثيثة نحو إحداث ثورة جذرية في التعليم. ويرجع ذلك إلى أن ذلك الذكاء يعزز إمكانية جعل التعليم عملية أكثر فردية، بمعنى أن تصاغ لكل فرد على حدة وفق معطياته الشخصية والاجتماعية، مع تسريع في نقل العلوم والمعارف إلى البشر. مثلاً، في الجغرافيا، تتيح الخرائط التفاعلية المتطورة المستندة إلى الحقيقة المعززة Augmented Reality، تقديم صور بصرية وسمعية فورية تبين معلومات تفصيلية ثرية عن كل نقطة في الكرة الأرضية. وتختصر تلك العملية ما يمكن نقله في أشهر، بل ربما، سنوات في التعليم التقليدي.
واستطراداً، الأرجح أنه يجب على المدرسين استنباط طرق لتعليم الناشئة كيفية الاستنطاق النقدي للذكاء الاصطناعي. ولعل المهمة التي لا تقل أهمية عن ذلك تتمثل في ترسيخ مفهوم أن الكائن الإنساني هو كيان له أخلاق وقيم وسيكولوجيا، مع عقل يتميز بالقدرة على التوصل إلى فهم استخلاصي تجريدي (يوصف فلسفياً بأنه تجاوزي أو شامل) للأشياء كلها.
استقرار النظام العالمي تهزه الفجوة في التطور
ويستند الشرط الخامس للتحرر من تناقضات الذكاء الاصطناعي التوليدي إلى أهمية التشديد على أن سرعة الآلات في التقدم تفوق سرعة البشر في التطور. وبالتالي، فإن التفاوت في انتشار المعارف عن ذكاء الآلات الذكية التي يتوسع تغلغلها إلى النشاطات البشرية، سيؤدي إلى اختلالات ضخمة في النظام الدولي، إضافة إلى خلخلة المجتمعات المحلية. والأرجح أن شيئاً من ذلك الاضطراب يحدث فعلياً، لكنه قد ينفلت إذا تزايدت عملية التمركز في امتلاك المعرفة والأدوات المتعلقة بالذكاء الاصطناعي.
ويتضمن الشرط السادس للتحرر من تناقضات الذكاء الاصطناعي التوليدي أن تهتم الشركات الكبرى الصانعة للنماذج الكبرى والأساسية في الذكاء الاصطناعي، بوضع تلك التقنية في تصرف الفئات الاجتماعية الوسطى فما دون، وصولاً إلى المهمشين والفئات الأشد حرماناً. في الأقل، يجب أن تنال تلك الفئات مجموعة وازنة من المنجزات الإيجابية للذكاء الاصطناعي التوليدي في التعليم والصحة والبيئة وتحسين شروط العيش العام وغيرها.
وثمة شرط سابع لم يرد في المراجع الإعلامية التي استندت إليها السطور السابقة، يتمثل في ضرورة أن يسهم الذكاء الاصطناعي التوليدي بصورة فعلية في تقليص الفجوة المعرفية بين المجتمعات، خصوصاً نقل التقنيات العميقة سواء في المعلوماتية والاتصالات أو في التقنيات التقليدية أو في التكنولوجيات المتقدمة للطاقة النظيفة وغيرها. ألا يسري القول دائماً بأن التفاوت المتعاظم بين الدول والمجتمعات، خصوصاً في العلوم والتكنولوجيا، يشكل أحد مصادر الاضطراب في النظام الدولي العام؟ ما الذي يمنع تجربة إدخال الذكاء الاصطناعي التوليدي كعنصر لإعادة التوازن في ذلك الأمر؟
المصدر: اندبندنت عربية