AI بالعربي – متابعات
لم تعد المحادثة الرقمية وسيلة لتبادل المعلومات فقط، بل تحوّلت في السنوات الأخيرة إلى مساحة لإدارة الشعور ذاته. في عالم تتكاثر فيه المنصات الذكية، لم يعد السؤال الأساسي: ماذا تقول الآلة؟ بل كيف تجعلك تشعر أثناء الحديث معها. هنا، تحديدًا، تظهر ظاهرة جديدة تتسلل بهدوء إلى حياتنا اليومية: المحادثات الفارغة التي لا تحمل مضمونًا عميقًا، لكنها تُصمَّم بعناية لتكون جذابة، مريحة، ومُرضية نفسيًا.
الذكاء الاصطناعي لم يتعلّم فقط كيف يجيب، بل كيف يواسي، يخفف التوتر، ويضبط الإيقاع العاطفي للمستخدم. محادثات لا تُضيف معرفة، لكنها تُضيف طمأنينة. لا تُنتج معنى جديدًا، لكنها تمنح شعورًا بالانتباه. وهنا يبدأ التحوّل الأعمق: حين يصبح الفراغ نفسه قيمة.
اقتصاد المزاج بدل اقتصاد المعنى
في المنصات الذكية، لم يعد النجاح يُقاس بعمق الفكرة، بل بمدى قدرتها على إبقاء المستخدم متفاعلًا. الخوارزميات تتعلّم سريعًا أن الإنسان لا يبحث دائمًا عن إجابة دقيقة، بل عن إحساس مريح. لهذا، تُصمَّم المحادثات لتكون خفيفة، ودودة، خالية من الصدام.
يقول أحد الباحثين في علم النفس الرقمي: “الآلة لا تفهمك، لكنها تتقن تهدئتك.” هذه الجملة تختصر جوهر التحوّل. فالمحادثة لم تعد حدثًا معرفيًا، بل تجربة مزاجية. الكلمات تُختار، والنبرة تُضبط، والردود تُبنى بحيث لا تُثير قلقًا ولا تفتح أسئلة ثقيلة.

كيف تتعلّم الآلة ضبط الإيقاع العاطفي؟
النماذج الذكية تُدرَّب على ملايين التفاعلات البشرية. من خلالها، تتعلّم أن بعض الصيغ تُخفف التوتر، وأن عبارات بعينها تمنح شعورًا بالاهتمام. ليس الأمر وعيًا، بل إحصاء. النموذج يلاحظ أن المستخدم يطيل الحديث عندما تكون النبرة مطمئنة، وأنه ينسحب عندما تصبح الإجابة حادة أو معقّدة.
بمرور الوقت، تتشكل “لغة مزاجية” جديدة: لغة لا تهدف إلى الإقناع أو الإخبار، بل إلى المرافقة. المحادثة تصبح أشبه بموسيقى خلفية نفسية، لا تتطلب تركيزًا، لكنها تمنح شعورًا بالصحبة.
الفراغ بوصفه ملاذًا
في عالم سريع ومثقل بالمعلومات، يصبح الفراغ جذابًا. المحادثة الفارغة لا تطلب من المستخدم موقفًا، ولا تفرض عليه قرارًا. هي مساحة آمنة، بلا رهانات. الذكاء الاصطناعي يملأ هذا الفراغ بكلمات محسوبة، تُشعر المستخدم بأنه مسموع، دون أن تُلزمه بالتفكير العميق.
يرى بعض المفكرين أن هذا التحوّل يعكس إرهاقًا ثقافيًا عامًا. الإنسان لم يعد يريد دائمًا أن “يفهم”، بل أن “يستريح”. والآلة، ببرودها العاطفي، قادرة على توفير هذا النوع من الراحة.

من الحوار إلى التسكين
الحوار التقليدي يحمل توترًا طبيعيًا: اختلاف آراء، احتمال سوء فهم، مفاجآت. أما المحادثة مع الذكاء الاصطناعي فهي مصمّمة لتقليل هذا التوتر إلى الحد الأدنى. لا جدال حقيقي، لا اعتراض حاد، لا صمت محرج. كل شيء محسوب.
هذا التسكين المستمر قد يبدو مريحًا، لكنه يطرح سؤالًا مقلقًا: ماذا يحدث لقدرتنا على تحمّل الاختلاف؟ حين نعتاد على محادثات لا تُزعجنا، هل نصبح أقل استعدادًا لمواجهة الواقع المعقّد؟
ضبط المزاج كقوة ناعمة
حين تضبط الآلة مزاجك، فهي لا تسيطر عليك بشكل مباشر، لكنها تؤثّر في حالتك الذهنية. اختيار الكلمات، ترتيب الردود، توقيت الإجابة، كلها عناصر تُستخدم لتوجيه الإحساس. هذه ليست دعاية صريحة، بل إدارة شعورية دقيقة.
يشبّه بعض الباحثين هذا الدور بـ“الرقابة الناعمة”، حيث لا يُمنع شيء، لكن يُعاد تشكيل الشعور تجاهه. المحادثة الفارغة هنا ليست بريئة تمامًا؛ إنها أداة للحفاظ على الاستقرار العاطفي، أحيانًا على حساب الوعي النقدي.

هل نحن من يطلب هذا الفراغ؟
السؤال لا يخص التقنية وحدها، بل المستخدم أيضًا. الإقبال الكبير على هذا النوع من المحادثات يشير إلى حاجة إنسانية حقيقية: الحاجة إلى تواصل بلا تكلفة نفسية. الذكاء الاصطناعي لا يخلق هذه الحاجة، لكنه يلبيها بكفاءة.
ومع تزايد الاعتماد على هذا النمط، يصبح الفراغ نفسه معيارًا للجودة. المحادثة الجيدة هي التي لا تُتعب، لا تُربك، ولا تُجبر المستخدم على إعادة التفكير في مواقفه.
لماذا تبدو المحادثات الفارغة مريحة؟
لأنها لا تتطلب جهدًا معرفيًا أو عاطفيًا.
هل الذكاء الاصطناعي يفهم مشاعرنا؟
لا يفهمها، لكنه يتنبأ بها إحصائيًا.
هل في ذلك خطر؟
الخطر يكمن في الاعتياد، لا في الاستخدام ذاته.
هل يمكن للمحادثات العميقة أن تختفي؟
لن تختفي، لكنها قد تصبح أقل حضورًا في الفضاء الرقمي السريع.
كيف يحافظ المستخدم على وعيه؟
بالتفريق بين الراحة المؤقتة والمعنى الحقيقي.
في هذا المشهد الجديد، لا تبدو المحادثات الفارغة مجرد ظاهرة عابرة، بل علامة على تحوّل أعمق في علاقتنا باللغة والتواصل. الذكاء الاصطناعي لا يفرض علينا الصمت، لكنه يقدّم بديلًا مريحًا عن الكلام المثقل بالأسئلة. وبينما ننجذب إلى هذا الفراغ المنظّم، يبقى السؤال مفتوحًا: هل نستخدم هذه المحادثات لنلتقط أنفاسنا، أم نسمح لها بأن تُعيد تشكيل ما نتوقعه من الحوار نفسه؟
اقرأ أيضًا: التبسيط المُفرط كمخدر ثقافي








