الاستغناء عن الرأي.. تحوّل التعليق إلى تنبؤ

AI بالعربي – متابعات

لم يعد الرأي فعلًا بشريًا خالصًا كما كان. ففي السنوات الأخيرة، أصبح الإنسان يواجه مشهدًا لم يسبق له مثيل: خوارزميات تقدم رأيًا عنه، بدل أن ينتجه هو. منصات التواصل التي كانت ملعبًا للتعبير الفردي تحولت إلى منظومات توقع تتنبأ بما ستقوله، بما ستوافق عليه، بما ستعارضه، بل وحتى بما “ستغضب” منه، دون أن ينتظر النظام أن تكتب حرفًا واحدًا. هكذا أصبح التعليق الذي كان يومًا لحظة حرية شخصية جزءًا من سلسلة حسابات تتنبأ بميولك وتحدد سلوكك قبل أن يتكوّن رأيك أصلًا. يقول الباحث الكندي في علم الإعلام ريكارد فوس: “نحن نعيش زمنًا لم يعد الرأي فيه نابعًا من ذاتنا، بل من علاقة بين تاريخ بياناتنا وذكاء خارجي يفهمنا بطريقة احتمالية”. لم يعد السؤال: ما رأيك؟ بل: من سيكتب رأيك قبل أن تتشكل فكرتك نفسها؟

ستخدم يجلس أمام شاشة تعرض تعليقًا جاهزًا يطغى على مساحة النص الفارغة
ستخدم يجلس أمام شاشة تعرض تعليقًا جاهزًا يطغى على مساحة النص الفارغة

من التعليق إلى التوقع: انقلاب صامت في بنية التعبير
كان الرأي سابقًا رحلةً داخل الوعي. يبدأ من لحظة انفعال، ثم يتحول إلى فكرة، ثم يُصاغ في جملة. أما اليوم، فالرحلة اختُصرت إلى “نقرة”. تعرض عليك المنصة تعليقًا “مقترحًا”، صياغة جاهزة، نبرة محسوبة، كلمات تعرف الخوارزمية أنها قريبة من طريقة كتابتك. تضغط الزر، فيصبح “رأيك” جزءًا من سلسلة لا تشبهك إلا ظاهريًا. ومع الوقت، يبدأ الإنسان نفسه يتكلم كالأداة التي تقترح عليه. يتحول الأسلوب إلى نسخة رقمية منك، لكنه ليس أنت. وتتحول عملية التعبير عن الذات إلى فعل شبه آلي، تنشأ فيه الجملة أولًا داخل المنصة قبل أن تنشأ داخل ذهنك. وهذا التحول لم يحدث بضجيج، بل وقع كالإزاحة الهادئة التي لا تُكتشف إلا حين تحاول كتابة شيء من دون مساعدة. فجأة تشعر بأن اللغة ثقيلة، وأن الجملة لا تتدفق، وأنك لا تملك مفرداتك الخاصة بعد الآن. لقد أصبحت أنت المستخدم، والرأي هو الخاصية، والآلة هي المؤلف غير المعلن.

العاطفة المؤتمتة: كيف أصبحت ردود أفعالنا مُحسوبة؟
المنصات اليوم لا تراقب ما نقوله فحسب، بل تعرف مسبقًا ما “يفترض” أن نشعر به. لحظة ظهور خبر، كارثة، حدث سياسي، فوز فريق، أو جدل اجتماعي، تُظهر الخوارزمية محتوى مشحونًا بنبرة عاطفية محددة، لأن النموذج يعرف عبر بياناتك السابقة نوع الانفعال الذي تستجيب له. فإذا كنت تميل إلى الغضب، يُعرض عليك ما يثير غضبك. وإذا كنت تميل إلى السخرية، تظهر لك منشورات ساخرة. وهكذا يبدأ التعليق — الذي كان يومًا فعلًا حرًا — بالتحول إلى “استجابة محسوبة”. لم تعد تكتب ما تشعر به، بل ما توقعت الخوارزمية أنك ستشعر به. هذا ما يسميه الفيلسوف الفرنسي أدريان تولان بـ “النبؤة العاطفية الذاتية”. يقول: “نعيش في دائرة مغلقة من التوقع: المنصة تتوقع شعورك، فتعرض عليك محتوى يشبهه، فتشعر بما توقعته، فتثبت توقعها، فيتحول الانفعال إلى نمط، والنمط إلى هوية”. هكذا تتحول العاطفة من تجربة شخصية إلى معادلة، ويصبح الرأي مجرد استجابة داخل نظام لا يسمح بانحراف كبير عن المسار.

شاشة تعرض خوارزمية تتنبأ بميول المستخدم قبل أن يكتب تعليقه
شاشة تعرض خوارزمية تتنبأ بميول المستخدم قبل أن يكتب تعليقه

كيف تموضع الخوارزميات رأيك داخل مجموعات جاهزة؟
لم يعد رأيك ملكك، بل أصبح جزءًا من “كتلة المستخدمين”. هذه الكتلة تُقسمك إلى فئات: من أنماط القراءة، التسجيل، التفاعل، أوقات النشاط، مستوى الانتباه، وحتى سرعة تمرير الشاشة. وبناءً على هذه الفئات، تضعك الخوارزمية داخل “قبيلة رقمية” تشبهك إحصائيًا، لا فكريًا. ومن ثم تصنع حولك بيئة فكرية متجانسة، تجعل رأيك يتكرر داخل حلقة مغلقة لا تعرف اختلافًا. إذا كنت تنتمي لقبيلة “الغاضبين”، ستجد محتوى غاضبًا. إذا كنت في قبيلة “السياسيين”، ستجد تحليلات مبالغًا فيها. وإذا كنت في قبيلة “المحبين للروحانيات”، ستجد مواد ملغّفة بالطمأنينة. ومع مرور الزمن، يتحول رأيك إلى مرآة لهذه البيئة، لا مرآة لذاتك. وحين تحاول قول شيء خارج القالب، ستجده غير متوقع من قبل النظام، وبالتالي أقل انتشارًا، أقل ظهورًا، وأقل تأثيرًا — فينتهي بك الأمر بالعودة إلى ما يعتبره النموذج “نطاقك الطبيعي”. ومعه، يتقلّص الهامش الفردي للتفكير.

تأثير التوقع على الكتابة: لغة بلا صاحب
حين تتحول عملية التعليق إلى عملية توقع، تتغير اللغة نفسها. تصبح الجمل أقصر، الإيقاع أسرع، الأفكار أقل تعقيدًا. لماذا؟ لأن الخوارزمية تفضل الشكل الذي يسهل تحويله إلى بيانات. لا تحب التعقيد، ولا الاستطراد، ولا الجمل الطويلة غير المتوقعة. ولذلك يتعلم البشر — دون قصد — كتابة ما يناسب النظام. يتحول الأسلوب إلى نسخة حسابية. صياغة متقاربة، نبرة واحدة، إيقاع واحد، تكرار يقترب من قالب صناعي أكثر مما يقترب من صوت إنساني. والنتيجة: فقدان التنوع الأسلوبي الذي يميز الكاتب عن غيره. الجميع يكتب ويعلّق بالأسلوب نفسه تقريبًا، لأن الجميع — وإن لم ينتبه — يكتب داخل منطق واحد: منطق التوقع.

عندما يصبح الرأي مُنتَجًا تجاريًا
الشركات تعرف قيمة “الرأي المتوقّع”. لأنه أسهل في التوجيه. يمكن تسويقه، إعادة تدويره، تحويله إلى سلوك قابل للبيع. رأيك — أو ما تظنه رأيًا — يتحول إلى مؤشر أولوية: هل ستشتري؟ هل ستشارك؟ هل ستغضب؟ هل ستدافع؟ هل ستضغط؟ هذه الأسئلة لا تُسأل لك، بل تُسأل عنك. والنتيجة أن الشركات لم تعد بحاجة لمعرفة رأيك الحقيقي، بل لتوقعه فقط. وإذا كان التوقع كافيًا، فلماذا تُبقي على حرية الرأي أصلًا؟ هذا هو السؤال المخيف الذي يطرح نفسه. ليس لأن حرية التعبير أصبحت مهددة سياسيًا، بل لأنها أصبحت غير ضرورية اقتصاديًا. المنصة لا تحتاج رأيك كي تعرفك. تحتاج بياناتك فقط كي تكتب عنك.

منحنى بيانات يظهر كيف يتم استبدال الرأي الحقيقي بالرأي المتوقع
منحنى بيانات يظهر كيف يتم استبدال الرأي الحقيقي بالرأي المتوقع

هل يختفي التعليق الحر نهائيًا؟
الإنسان ليس كائنًا قابلًا للبرمجة بالكامل. ما زالت هناك مساحات للعفوية، للتجربة، للغضب المفاجئ، للنبرة التي لا تتوقعها الخوارزمية، للرأي الذي يولد فجأة من تجربة شخصية لا تعكسها البيانات. لكن هذه المساحات تضيق، ليس لأن التكنولوجيا تفرض ذلك بالقوة، بل لأنها تخلق بيئة أصبح الرأي فيها عبئًا إضافيًا. حين يمكن للنظام أن يكتب عنك، فلماذا تكتب أنت؟ حين تصبح الجملة جاهزة، لماذا تتعب نفسك في صياغتها؟ وهكذا تتحول الحرية إلى رفاهية. لا تُمنع، لكنها لا تُستخدم.

محنة الإنسان الحديث: هل نعرف حقًا ماذا نفكر؟
إذا كان النظام يتوقع رأيك، ويقترح عليك ردّك، ويضعك داخل فئة، ويقدم لك محتوى يشبهك، في أي لحظة بالضبط يتشكل “رأيك الحقيقي”؟ هذا سؤال جوهري. لأن الرأي ليس مجرد قيمة سياسية أو اجتماعية. إنه جزء من الهوية: أنت رأيك. وإذا أصبح رأيك مجرد نسخة من توقع، فمن أنت إذًا؟ يقول الفيلسوف الإيطالي لورينزو غابريالي: “لا يتشكل الرأي في الفراغ، بل في المسافة بين الانفعال والتعبير. فإذا ألغيت المسافة، ألغيت الإنسان الذي كان يقف فيها”. الرأي إذًا ليس نهاية الطريق، بل بدايته. وإذا قصرنا الطريق إلى “اقتراح” لا يسع إلا احتمالًا واحدًا، فلم يعد هناك رأي بل مجرد نتيجة.

هل تتنبأ المنصات فعلًا بتعليقات المستخدمين؟
نعم، بشكل متزايد. تعتمد المنصات على نماذج لغوية وسلوكية تتوقع الصياغات، النبرة، وطبيعة الانفعال.

هل يعني هذا اختفاء الرأي الحر؟
ليس اختفاءً، بل تراجعًا أمام مقترحات جاهزة تُسهّل التعبير لكنها تُضعف استقلاليته.

كيف يمكن استعادة صوتنا الشخصي؟
عبر الكتابة البطيئة، الرفض الواعي للاقتراحات الجاهزة، والعودة إلى صياغة رأي يشبه تجاربنا لا بياناتنا.

تأمل أخير: حين يصبح الصمت فعل مقاومة
لم يعد الرأي صرخة، بل تحوّل إلى بصمة احتمالية داخل نموذج يكتب عنا أكثر مما نكتب عنه. ورغم ذلك، يبقى شيء لا يستطيع الذكاء الاصطناعي مصادرته مهما تطور: لحظة الوعي التي تتشكل قبل الضغط على زر “نشر”.

تلك اللحظة الصغيرة التي تفصل بين الإنسان والآلة، بين ما نريد قوله وما يريد النظام أن نقوله. فإذا حافظنا على تلك المسافة، ولو كانت ضيقة، بقي الرأي فعلًا إنسانيًا. وإذا أضعناها، لم نعد نعرف إن كنا نكتب رأينا… أم نعيد تدوير توقع أعدّه النظام نيابة عنا.

اقرأ أيضًا: نسيان اللغة الأم.. النماذج تفرض لهجات جديدة

  • Related Posts

    “السعودية” تعزز موقعها العالمي في الذكاء الاصطناعي بدعم إستراتيجي واسع

    AI بالعربي – متابعات تقدّمت السعودية إلى المركز الثالث عالميًا في مؤشرات الذكاء الاصطناعي. ويرى المتحدث باسم سدايا ماجد الشهري أن هذا التقدم يعكس دعم ولي العهد المباشر للقطاع. ويسهم…

    نسيان اللغة الأم.. النماذج تفرض لهجات جديدة

    AI بالعربي – متابعات لم تعد اللغة الأم حصنًا آمنًا أمام التحولات التقنية الكبرى. فمع صعود النماذج اللغوية العملاقة، ظهر نوع جديد من “الهيمنة اللغوية” لا يصدر عن دولة، ولا…

    اترك تعليقاً

    لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

    مقالات

    الذكاء الاصطناعي يشكل اقتصاداتنا.. ما النتائج؟

    • نوفمبر 29, 2025
    • 64 views
    الذكاء الاصطناعي يشكل اقتصاداتنا.. ما النتائج؟

    الذكاء الاصطناعي يؤجج حرب التضليل الإعلامي

    • نوفمبر 22, 2025
    • 97 views
    الذكاء الاصطناعي يؤجج حرب التضليل الإعلامي

    الذكاء الاصطناعي أَضحى بالفعل ذكيًا

    • نوفمبر 10, 2025
    • 184 views
    الذكاء الاصطناعي أَضحى بالفعل ذكيًا

    في زمن التنظيمات: هل تستطيع السعودية أن تكتب قواعد لعبة الذكاء الاصطناعي؟

    • نوفمبر 8, 2025
    • 187 views
    في زمن التنظيمات: هل تستطيع السعودية أن تكتب قواعد لعبة الذكاء الاصطناعي؟

    “تنانين الذكاء الاصطناعي” في الصين وغزو العالم

    • أكتوبر 30, 2025
    • 215 views
    “تنانين الذكاء الاصطناعي” في الصين وغزو العالم

    الذكاء الاصطناعي في الحياة المعاصرة.. ثورة علمية بين الأمل والمخاطر

    • أكتوبر 12, 2025
    • 355 views
    الذكاء الاصطناعي في الحياة المعاصرة.. ثورة علمية بين الأمل والمخاطر