AI بالعربي – متابعات
لم يعد مشهد الطفل الذي يتعلّم أمام شاشة غريبًا على أحد، لكن ما تغيّر اليوم هو طبيعة “المعلّم” خلف تلك الشاشة. فبدل أن يكون إنسانًا يوجّه بعاطفة وخبرة، أصبح محرّك ذكاء اصطناعي يقرأ الأنماط، ويقيس الانتباه، ويعدّل المحتوى في لحظته. ومع هذا التحوّل، تبرز تساؤلات كبرى: هل ما زال التعليم إنسانيًا؟ أم أننا ندخل عصرًا تتولّى فيه الخوارزميات تربية الأجيال؟
يقول التربوي الأميركي “هوارد غاردنر”: “التعليم ليس نقل معرفة فقط، بل نقل معنى.” غير أن هذا “المعنى” بدأ يتعرّض لإعادة تعريف عميقة في زمن التعليم القائم على البيانات والتعلّم التنبّئي. فالمحرّكات التعليمية الحديثة لا تسأل الطالب “ماذا تعلّمت؟”، بل تحاول أن تعرف “كيف تفكّر؟” و“ما الذي يجذبك أو يربكك؟”
المعلّم الرقمي: من التلقين إلى التحليل
خلال العقد الأخير، تطوّرت تقنيات التعليم الذكي من مجرّد أدوات مساعدة إلى منصّات قادرة على تحليل شخصية الطالب وتوقّع احتياجاته المعرفية.
في الصين، تستخدم مدارس تجريبية نظامًا يُعرف باسم Smart Class 3.0 يراقب تعابير الوجه ونبرة الصوت ومستوى الانتباه، ليقدّم ملاحظات فورية للمدرّس — أو أحيانًا للآلة نفسها إذا كانت هي من تقود الدرس.
يقول الباحث في جامعة سنغافورة “لو وي”: “الخوارزمية أصبحت شريكًا في العملية التربوية، لا أداة فقط.”
فهي تعرف متى يشعر الطالب بالملل، ومتى يحتاج إلى محتوى تفاعلي، ومتى يجب تخفيف صعوبة السؤال. إنّها أشبه بمعلم خارق يراقب كل طالب على حدة في فصل يضم المئات.
لكن السؤال الأخلاقي يفرض نفسه: هل يكفي أن يكون التعليم دقيقًا وموجّهًا بالبيانات إن فقد روحه الإنسانية؟

من المعلّم الإنسان إلى المربّي الاصطناعي
في الأنظمة التعليمية التقليدية، كانت العلاقة بين المعلّم والطالب علاقة وجدانية تُبنى على الثقة والتجربة المشتركة. أمّا اليوم، فقد أصبحت خوارزمية الذكاء الاصطناعي هي “المربّي الجديد”، تتابع التقدّم وتصدر التقييمات وتقدّم النصح وحتى “الدعم النفسي” عبر محادثات آلية.
تطبيقات مثل Socratic من غوغل أو Khanmigo من مؤسسة خان أكاديمي تمثل هذا الجيل الجديد من “المعلّمين الآليين”. فهي لا تكتفي بالشرح، بل تطرح الأسئلة بالطريقة التي تثير الفضول، وتقدّم أمثلة مخصصة بناءً على مستوى الطالب وسرعته في الفهم.
لكن الخطر يكمن في أن هذه الأنظمة، رغم ذكائها، لا تمتلك الضمير الأخلاقي أو الحسّ القيمي. فهي قد تعلّم بدقّة، لكنها لا “تربّي” بالمعنى التربوي العميق. التربية ليست فقط في تصحيح الإجابات، بل في تشكيل الشخصية والموقف من العالم.
ويحذّر عالم الاجتماع “زيغمونت باومان” من “مجتمع السيولة المعرفية”، حيث يصبح التعليم عملية استهلاك سريعة للمعلومة دون تأمل أو نقد. وهذا بالضبط ما قد تفعله الخوارزميات حين تختزل الفهم في الكفاءة الحسابية.

التعليم التنبّئي: من المعرفة إلى التشكيل
أحد أخطر أبعاد الذكاء الاصطناعي في التعليم هو قدرته على التشكيل المسبق للعقول.
فعبر تحليل بيانات الملايين من الطلبة، تستطيع الأنظمة التنبّؤ بالمسار الأكاديمي لكل طالب وتوجيهه نحو تخصّصات محدّدة، ما يجعل حرية الاختيار نفسها جزءًا من معادلة برمجية.
تخيّل طالبًا تبدأ الخوارزمية منذ طفولته بتتبع اهتماماته وتكوّن له “خطة حياة” محسوبة بدقّة: ماذا سيحبّ، ماذا سيدرس، وأين سيعمل.
من جهة، يبدو ذلك كحلم للآباء والمؤسسات، لكنه أيضًا يحمل خطر تحويل التعليم إلى هندسة سلوكية دقيقة تُنتج أجيالًا متشابهة في التفكير.
قول الباحثة “كاثرين بويد” من جامعة كمبريدج: “الذكاء الاصطناعي قد يعلّم بفاعلية، لكنه قد يقتل العشوائية الجميلة التي تخلق الإبداع.”
فالتعليم الحقيقي لا يقوم على الكمال، بل على الخطأ والتجربة والدهشة — وهي عناصر يصعب ترجمتها إلى أكواد.

المعلّم الأخير: هل يمكن للآلة أن تربّي؟
الذكاء الاصطناعي اليوم يكتب القصص، ويحلّ المسائل، ويقترح المناهج، بل ويجري حوارات فلسفية مع الطلبة. لكنه لا يعرف “لماذا” يفعل ذلك. إنّه ذكي بلا نية، دقيق بلا روح.
وهذا ما يجعل المعلّم البشري، رغم ضعفه أمام سرعة التقنية، لا يزال عنصرًا لا يمكن تعويضه.
يقول الفيلسوف مارك أوجيه: “المعرفة بلا سياق تولّد فراغًا، والمعلّم هو من يمنح المعرفة سياقها الإنساني.”
ولهذا، قد يكون المستقبل الأمثل هو الشراكة بين المعلّم والمحرّك، لا استبدال أحدهما بالآخر. فحين تعمل الخوارزمية كمرآة للذكاء الإنساني لا كبديل عنه، يصبح التعليم أكثر ثراءً وعدلًا.
جيل بين قلبٍ بشريّ وعقلٍ رقميّ
نحن على أعتاب عصر تتعلّم فيه الأجيال من مصادر لا تعرف التعب، ولا تخطئ إملائيًا، لكنها أيضًا لا تشعر ولا تحلم.
ربما سيأتي يوم يُسأل فيه الطفل: “من علّمك ذلك؟” فيجيب بثقة: “المحرّك.”
لكن خلف هذه الإجابة البسيطة يختبئ مستقبل معقّد لمهنة التعليم ولمعنى التعلّم ذاته.
فالخوارزمية قد تُدرّب العقل، لكنها لا تزرع القيم. قد تُنمّي المهارة، لكنها لا تبني الإنسان.
وما لم نحافظ على دور المعلّم كضمير للمعرفة، قد نصحو على أجيال تعرف كل شيء — إلا ما يجعلها بشرًا بحق.
اقرأ أيضًا: الموت في زمن الخوارزمية.. كيف تؤرخ الآلة لحياتك؟








