آليات حماية التراث الأثري في عهد الذكاء الاصطناعي

6

AI بالعربي – خاص

 يُعدُّ التراث الأثري حجر الزاوية لهوية الشعوب، حيث يضفي عليها قيمًا اجتماعية وفنية وعلمية وتربوية، ويعكس مجموعة من الخبرات المتراكمة عبر العصور. لذا، فإن الحفاظ على هذا التراث وحمايته يعد أمرًا بالغ الأهمية، خاصة في عصر الذكاء الاصطناعي الذي يوفر آليات مبتكرة تساهم في نقل التراث إلى الأجيال الجديدة، مما يعزز الذاكرة الجماعية ويحميها من الزوال. فقد أدى دمج الذكاء الاصطناعي في مؤسسات التراث الثقافي والأثري والمتاحف إلى إحداث ثورة في الطریقة التي نحافظ بھا عليه، أو الأسلوب الذي يساعد المناهج في تفسيره ودراسته، وعرضه بشكل لائق.

ماذا يعني التراث؟

التراث – في معناه الأشمل – مجموعة القيم والتقاليد والرؤى التي تُورَّث من جيل إلى آخر، ويعكس في جوهره الهوية الثقافية لكل مجتمع. ولا يعني التراث فقط انتماءه للماضي أو كونه حدثًا تاريخيًا، بل هو أيضًا امتداد ثقافي يتفاعل مع العصر الراهن ويؤثر في حياة الأفراد المعاصرين.

والتراث الأثري يشمل الآثار القديمة والأثرية التي تم العثور عليها في المواقع الأثرية، بينما يشمل التراث المادي الأشياء والمنتجات التي تم إنتاجها على مر الزمان والتي تمتلك قيمة تاريخية أو ثقافية.

الذكاء الاصطناعي ودوره في قطاع التراث الأثري

مع ظهور تقنيات الذكاء الاصطناعي، تم فتح آفاق جديدة في مجال الحماية، مما أدى إلى تطوير طرق مبتكرة وفعالة لتعزيز جهود الحفاظ على التراث الأثري. وتسهم تطبيقات الذكاء الاصطناعي بشكل كبير في عمليات الرقمنة والتوثيق، مما يتيح للمؤرخين والباحثين فرصة الوصول إلى التراث الثقافي بطرق لم تكن متاحة من قبل.

أحدثت تقنيات الذكاء الاصطناعي ثورة في عالم الرقمنة، حيث تتضمن أدوات مثل المسح الآلي (Automated Scanning) والنمذجة ثلاثية الأبعاد (3D Modeling) وتطبيقات الواقع الافتراضي (Virtual Reality Applications) لإنشاء نسخ رقمية دقيقة من العناصر التراثية. وتعزز هذه التقنيات من إمكانية الوصول إلى المعلومات، مما يسهل على الباحثين والمعلمين والجمهور التفاعل مع التراث الثقافي وفهمه بشكل أفضل. فبفضل هذه الأدوات، يمكن الحفاظ على الجوانب المختلفة للتراث الثقافي، وتقديمها بطريقة تفاعلية وجذابة، إضافة إلى حماية القطع الأثرية من الأضرار من خلال مراقبة التغيرات البيئية والتنبؤ بالمخاطر المناخية باستخدام أجهزة الاستشعار وتحليلات البيانات.

آليات الذكاء الاصطناعي في حفظ التراث الأثري

تعتممد المؤسسات الأثرية وهيئات المتاحف على عدد من الآليات والأساليب المختلفة التي من شأنها أن تحافظ على التراث الأثري، ولا سيَّما إن كانت من شأنها حمايتها من عوامل التعرية أو التعامل المباشر أثناء الاستكشاف، وكذلك     ضمان عرضها بشكل أكثر إيضاحًا وقربًا للعوام والزائرين. لذا، فإن هذه الآليات تأتي لتحقيق هذه الأغراض، كما يلي:

  • المسح الآلي

يُعتبر المسح الضوئي بالليزر تقنية حديثة مهمة في الحفاظ على التراث الثقافي، ولكنها تتطلب كميات ضخمة من البيانات ومعالجة طويلة لإنتاج نموذج ثلاثي الأبعاد ذي دقة عالية. ومع تقدم التكنولوجيا، أصبح تحليل نماذج السحابة النقطية أكثر سهولة، لكن دقة المسح تتأثر بعوامل متعددة مثل قدرات الجهاز، وبعد الكائن، وزاوية شعاع الليزر، وخصائص المواد. كما أن خطوات ما بعد المعالجة، مثل التسجيل والتصفية، قد تؤدي إلى أخطاء غير متوقعة، مما يُبرز التحديات المتعلقة بتقييم الدقة النهائية.

  • النمذجة ثلاثية الأبعاد 3D Modeling

نظم المعلومات الجغرافية (GIS) واحدة من أبرز التقنيات المستخدمة في نمذجة التراث الثقافي ثلاثي الأبعاد، خصوصًا المباني التاريخية. وتعتمد هذه الطريقة على التثليث من صورتين أو أكثر لإعادة بناء الكائن رقميًا. كما تضمن هذه الآلية تطوير مجموعات وأرشيفات تاريخية افتراضية.

  • تطبيقات الواقع الافتراضي

توفر تقنيات الواقع الافتراضي تجربة غامرة للمستخدمين لاستكشاف مشاهد افتراضية، مما يعزز شعورهم بأنهم جزء من الفضاء ثلاثي الأبعاد. على عكس الأساليب التقليدية، يمكّن الواقع الافتراضي المستخدمين من التفاعل مع البيئة، مستخدمًا نماذج تنقل مثل المشي والطيران لتحسين الإحساس بالوجود. ومع ذلك، تواجه عملية بناء النماذج ثلاثية الأبعاد تحديات تتعلق بإنتاج كميات كبيرة من البيانات مثل المثلثات والقمم والأنسجة. لذا، يُستخدم برامج النمذجة العامة لتسهيل تصميم نماذج تفاعلية ثلاثية الأبعاد.

  • التحليل والترميم

مع تطور تقنيات الاستشعار ومراقبة الصحة الهيكلية، يتم تطوير أنماط بيانات متنوعة تساهم في الحفاظ على التراث. لقد أدت التطورات في التعلم العميق إلى استكشاف تقنيات الكشف عن الأضرار باستخدام الصور والبيانات السحابية ثلاثية الأبعاد. وتستخدم تقنيات الاستشعار البصري، مثل الطائرات بدون طيار والكاميرات، كبدائل للفحص البصري لأضرار التراث. وقد أظهر الذكاء الاصطناعي، وخاصة التعلم العميق، نتائج ملحوظة في الكشف عن الأضرار، رغم أنه يركز على الأضرار السطحية. ويعزز دمج تقنيات أخرى، مثل السحب النقطية والاستشعار بالأشعة تحت الحمراء، مع خوارزميات الذكاء الاصطناعي من قدرات الكشف.

  • التكامل والتخطيط

يمكّن الذكاء الاصطناعي من التنبؤ بالموازنات وتخطيط المشاريع من خلال جدولة المهام وتتبعها في الوقت الفعلي، مما يقلل من الأخطاء البشرية. ومن الممكن أن يؤدي دمج حلول الذكاء الاصطناعي من مجالات أخرى، مثل تحسين نقل القطع الأثرية وتعزيز التخطيط لإعادة التأهيل، إلى تحسين الكفاءة. كما يساعد الذكاء الاصطناعي في التنبؤ بنتائج الترميم ودراسة مشكلات قابليتها للبناء، مما يضمن الاستقرار الهيكلي وتقليل المخاطر. وفي النهاية، يوفر الذكاء الاصطناعي أساليب ترميم فعالة من حيث التكلفة، مما يسهم في الحفاظ على المواقع المدرجة في قائمة التراث العالمي.

متاحف تعتمد الذكاء الاصطناعي

ريجكس

متحف ريجكس في أمستردام لا يزال في طليعة استخدام الذكاء الاصطناعي لتعزيز فهم الفن التاريخي، حيث تعاون مؤخرًا مختبر علوم الكمبيوتر والذكاء الاصطناعي (CSAIL)  التابع لمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا مع شركة مايكروسوفت لاستكشاف الروابط بين لوحات تاريخية، بما في ذلك بعض الأعمال الموجودة في المتحف. في الوقت نفسه، تم تنفيذ مشروع “Night Watch” لاستعادة التحفة الفنية الشهيرة “The Night Watch” للفنان رامبرانت من عام 1642، حيث أعلن إردمان أن المتحف سيصدر قريبًا صورة ضخمة للعمل بدقة 717 جيجابكسل، تم إنشاؤها من مجموعة صور تتجاوز حجمها 5.6 تيرابايت. وتعتبر هذه العملية ثورة في مجال الفن، حيث يتم استخدام كثير من الصور لتدريب الشبكات العصبية، مما يمكنها من تحديد أنماط الرسم واستعادة الشوائب التي قد تؤثر في جودة العمل الفني، مما يعكس قدرة التكنولوجيا الحديثة على إحياء التراث الفني وتجديده بطرق غير مسبوقة.

تجربة المتاحف في باريس

تسعى المتاحف في باريس إلى جذب الفئة الشابة من خلال دمج التجارب الغامرة والذكاء الاصطناعي مع الحفاظ على التجربة التقليدية للزوار في استكشاف الأعمال الفنية. كلويه سيغانو، رئيسة قسم العروض الحية في مركز بومبيدو، تؤكد أن هذه التقنيات تمثل “لغة الأجيال الجديدة”، حيث إن الجيل الرقمي يرى أن أي صالة خالية من التكنولوجيا الحديثة تفتقر إلى الجاذبية.

بينما تركز بعض المراكز الثقافية الخاصة، مثل “لاتولييه دي لوميير”، على تطوير معارض رقمية مبتكرة، فإن استخدام التقنيات الحديثة لا يزال محدودًا في المتاحف الرسمية. فقد بدأ متحف اللوفر في استخدام التقنيات الحديثة في عام 2019، حيث أطلق تجربة الواقع الافتراضي التي جعلت ليوناردو دافنشي يتحدث عن أعماله، بما في ذلك لوحة “الموناليزا”. ومنذ أكتوبر الماضي، يستطيع زوار المتحف اكتشاف الأعمال المصرية القديمة باستخدام هواتفهم الذكية وتقنية الواقع المعزز، مما يتيح لهم الحصول على معلومات إضافية مباشرة حول الأعمال الفنية.

من ناحية أخرى، يتمتع متحف أورسيه برؤية خاصة لتجربته الغامرة، حيث ركّب عددًا من الأجهزة في معرض مخصص لأعمال فنسنت فان غوخ الأخيرة. ويعمل المتحف على ضمان أن كل تجربة يتم التحقق منها علميًا، مع الحفاظ على التوازن المالي للمؤسسة. وقد أطلق المتحف تجربة انغماس استمرت 45 دقيقة خلال افتتاح المعرض الانطباعي الأول باستخدام خوذات الواقع الافتراضي.

متحف هيلفرسوم في هولندا

لا يقتصر الابتكار على باريس فقط، بل يتبعه متحف هيلفرسوم في هولندا، الذي يقدم تجربة مخصصة لكل زائر من خلال تقنية التعرف على الوجه. هذا التوجه نحو استخدام الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا الحديثة يعكس الرغبة المستمرة في تحسين تجربة الزوار وتعزيز العلاقة بين الفن والجمهور.

معرض توت عنخ آمون التفاعلي

أحدث “معرض توت عنخ آمون التفاعلي” في المتحف المصري الكبير، بالشراكة مع مؤسسة مدريد آرتيس ديجيتالس، مثالًا رائدًا لتطبيق الذكاء الاصطناعي في العرض المتحفي بمصر. يتيح المعرض للزوار تجربة تفاعلية غامرة، حيث يمكنهم رؤية أنفسهم في حياة الملك توت عنخ آمون واستكشاف تاريخ يمتد لأكثر من 3400 عام. يتضمن المعرض عرضًا بصريًا بزاوية 360 درجة مع موسيقى تصويرية، مما يعزز من استكشاف الزوار لعجائب وأسرار الكنوز الملكية، من أساطير هليوبوليس إلى كنوز المقبرة. يستمر المعرض لمدة ثلاثة أشهر، مما يعكس أهمية استخدام التكنولوجيا الحديثة في تعزيز التجارب الثقافية.

مخاطر وتحديات

تواجه آليات الذكاء الاصطناعي المستخدمة في حفظ وعرض القطع الأثرية، على الرغم من تقديمها لتجارب غامرة وممتعة، مجموعة من المخاطر. تشمل هذه المخاطر تحديات تتعلق بالخبرة الرقمية وقيود البيانات، فضلاً عن الحاجة إلى بنية تحتية ملائمة:

الخبرة الرقمية

في حال نقص الخبرة الرقمية لدى العاملين في المتاحف تبرز الحاجة الملحة لتوفير متخصصين مدربين قادرين على استخدام تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي بشكل فعال، إضافة إلى ضرورة الفهم العميق لهذه التقنية وتحدياتها كتفاوت مستويات المعرفة الرقمية بين الزوار، وضرورة تحديد موظفين مناسبين لذلك.

وصول محدود للبيانات

يعكس الوصول المحدود إلى البيانات التحدي الذي يواجه المتاحف في الحصول على المعلومات الضرورية لتطوير تطبيقات الذكاء الاصطناعي. ونظرًا للقيود المفروضة من اللوائح والمعلومات الحساسة، قد تجد المتاحف صعوبة في جمع البيانات من مصادر متعددة مثل الزوار والبائعين الخارجيين والمنظمات الأخرى. ويشكل هذا تحديًا إضافيًا، حيث إن البيانات ضرورية لتطوير نماذج فعالة، تراعي الأمان والخصوصية عند جمع وتخزين البيانات، مع ضرورة ضمان أن تكون البيانات ذات جودة عالية ومتاحة بتنسيقات متسقة.

تكلفة البنية التحتية

يمكن أن تكون تكلفة إنشاء وصيانة البنية التحتية المطلوبة لتطبيق تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي في المتاحف مرتفعة للغاية؛ لما تشمله من شراء أجهزة، وتركيب أنظمة شبكية، وتطوير برمجيات، بالإضافة إلى توظيف الأفراد لإدارة وصيانة النظام. وكذلك لا بد من النظر نحو التكاليف المرتبطة بتثقيف الموظفين حول استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي وصيانة النظام بمرور الوقت. على سبيل المثال، قد يتطلب تنفيذ تقنية التعرف على الوجوه بنية تحتية مكلفة تشمل الكاميرات والبرامج والخوادم، كما يجب مراقبة النظام وصيانته بانتظام لضمان توافقه مع أحدث اللوائح.

نظرة مستقبلية

بالرغم من المخاطر، فإنَّ تلافيها ومراعاة الدقة في تجنبها سيخدم التراث الأثري ويكون عونًا لحفظه واستمراره. فوضع إرشادات أخلاقية محددة للذكاء الاصطناعي على المجالين المادي وغير المادي سيكون له الأثر في دعم وتعزيز تنميته المستدامة دون المساس بقيمه وأهميته وإحساس الانتماء والأثر الاجتماعي القوي.

اترك رد

Your email address will not be published.