اليابان تراهن على الذكاء الاصطناعي والروبوتات في رسم اقتصاد المستقبل
متابعات – AI بالعربي
لا جدال في أن اليابان وفي إطار مسيرة نهضتها الشاملة، أفلحت في وضع نفسها كعنوان أساسي على المستوى الدولي في مجال الابتكارات والتكنولوجيا المتقدمة.
ويمكن القول بوجود شعور بالفخر الوطني لدى اليابانيين بما حققوه في هذا المجال، وتراهن الحكومة اليابانية على أن يكون الذكاء الصناعي إحدى آليتها الرئيسة لإعادة كتابة خطة اليابان للمستقبل، والحفاظ على مكانة مميزة لها في هذا المضمار، الذي سيكون أحد الخطوط الفاصلة بين الدول المتقدمة وغيرها من ناشئة ونامية.
في 2016 نشرت الحكومة اليابانية خطتها الأساسية الخامسة للعلوم والتكنولوجيا، والتي حددت هدف اليابان لتصبح “المجتمع 5.0”. والمجتمع 5.0 هو رؤية اليابان للخطوة التالية في التطور البشري، التي تأتي بعد مجتمعات الصيد والجمع ثم المجتمع الزراعي ثم الصناعي، الذي تلاه والآن عصر المعلوماتية.
وهذا المجتمع الجديد والمستقبلي في الأساس يعزز القدرة التنافسية الصناعية، ويساعد على إنشاء مجتمع أكثر انسجاما مع الاحتياجات الفردية، ويتفهم الإمكانات الهائلة لتراكم البيانات والتقنيات الحديثة، وتصبح التكنولوجيا فيه وسيلة أساسية لإيجاد حلول للقضايا الاجتماعية.
وفي فبراير من العام الماضي، عززت اليابان رؤيتها تلك عبر وثيقة “المبادئ الاجتماعية للذكاء الصناعي” الذي يركز على الإنسان، وعدت الوثيقة أن “المجتمع 5.0” مجتمع مستدام يركز على الإنسان عبر الذكاء الصناعي وإنترنت الأشياء والروبوتات وغيرها من التقنيات المتطورة لإيجاد قيمة غير مسبوقة.
وباختصار هناك إدراك في اليابان، كما في غيرها من الدول المتقدمة على ضرورة أن تعيد الدولة توجيه نفسها كقوة رائدة في مجال الذكاء الصناعي، إذا أرادت أن تحافظ على مكانة مميزة في عالم المستقبل.
وتتوقع اليابان بأن يبلغ حجم سوق الذكاء الصناعي المحلي 833 مليار دولار بعد عشرة أعوام من الآن، وسيظهر قطاع النقل بما في ذلك سيارات الأجرة ذاتية القيادة والشاحنات، أكبر زيادة في الفترة بين عامي 2020- 2030، ومن المتوقع أن تبلغ حصة هذا القطاع من إجمالي سوق الذكاء الصناعي في اليابان نحو 295 مليار دولار، بينما ستبلغ حصة الذكاء الصناعي في قطاع التصنيع نحو 120 مليار دولار بحلول 2030.
من جانبه، يرى الدكتور إس. أدم، رئيس قسم التطوير في مجموعة “إس بي دي” لهندسة البرمجيات والتحول الرقمي، أن الشركات اليابانية لديها إمكانية كبيرة لأن تكون الرائدة في أبحاث الذكاء الصناعي، نظرا لما لديها من سيولة مالية لازمة لهذا الاستثمار المكلف، الذي يستغرق وقتا لتحقيق عائد.
وقال أدم لـ”الاقتصادية” إن “اغلب الدراسات تشير إلى أن 40 في المائة من جميع استثمارات الذكاء الصناعي في جميع أنحاء العالم لم تحقق أرباحا بعد، في حين أن عوائد الاستثمار الأولية تدور حول 1 في المائة في المتوسط، ومن ثم، فان اعتماد الذكاء الصناعي في مراحل مبكرة لا يحقق أي نتائج تقريبا، وتوسيع نطاق استخدامه على مستوى المؤسسة يمكن أن يرفع عائد الاستثمار إلى ما يزيد على 4 في المائة، وعادة ما تستغرق الشركات عددا من الأعوام في المتوسط لتحقيق التعادل في استثماراتها في الذكاء الصناعي”.
وأضاف “لذلك كلما كان لديك سيولة مالية أقوى كان في إمكانك الاستثمار في مجال الذكاء الصناعي والروبوتات، والانتظار لفترة طويلة قبل أن تحقق الأرباح، ومن هنا تمتلك اليابان نقطة قوة كبيرة في تلك الصناعة”.
إلا أن الباحث في الشأن الآسيوي بلير ونستون، يعتقد أن اتجاه اليابان إلى الاستثمار الكثيف في مجال الذكاء الصناعي وتحديدا الروبوتات، يعود في الأساس إلى الاحتياج الاقتصادي والمجتمعي الملح.
وقال لـ”الاقتصادية” إن “اليابان تدخل منطقة مجهولة من أجل اقتصاد حديث، فمعدل المواليد المنخفض باستمرار أدى إلى تقلص عدد السكان في سن العمل بنحو عشرة ملايين منذ ذروته في التسعينيات، مع تقلص آخر بنحو 20 مليونا آخرين بحلول 2030، ومع الرفض المجتمعي للمهاجرين والعمالة الوافدة، أصبح الوضع حرجا، وهناك 1.5 وظيفة شاغرة لكل باحث عن عمل، وبعض القطاعات الحيوية تعاني نقصا مزمنا مثل قطاع التمريض والتصنيع والبناء والبريد”.
وفي الواقع، فإن هذا النقص يترافق مع ضغوط حكومية على الشركات لخفض ساعات العمل الطويلة، ورفع الأجور، ومع استبعاد قيام أي حكومة يابانية بالدفاع عن سياسية وطنية شاملة لقبول تدفق المهاجرين بشكل جماعي، إذ يعد الدفاع عن أي خطة في هذا السياق بمنزلة انتحار سياسي في اليابان، فإنه لن يكون أمام طوكيو سوى المضي قدما في مسيرة دعم الذكاء الصناعي والروبوتات والأتمتة باستمرار، بصفتها بديلا مرحبا به من قبل الشركات اليابانية، التي تظهر استعدادا كبيرا لضخ مزيد من الاستثمارات في هذا المجال.
وفي هذا السياق، قال ونستون إن اليابان هي الدولة الأفضل للتعامل مع الأتمتة، ومن المحتمل أن تتسبب في بطالة أقل من أي مكان آخر، وإنه على الرغم من تزايد معدلات الروبوتات والذكاء الصناعي في اليابان، فإن معدلات البطالة انخفضت إلى 2.34 في المائة، و97.6 في المائة من خريجي الجامعات الجدد، وجدوا وظائف قياسية بحلول بداية عام العمل في أبريل.
ويظهر الاهتمام الياباني بضخ مزيد من الاستثمارات في مجال الذكاء الصناعي في التقديرات، التي تشير إلى أن معدل نمو الاستثمار السنوي في هذا القطاع يبلغ 73 في المائة سنويا من 2016-2021، وتقدر الحكومة اليابانية استثمارات القطاع الخاص الياباني في الذكاء الصناعي بنحو 600 مليار ين أي ما يقارب ستة مليارات دولار، إلا أن الحكومة تجد أن تلك الاستثمارات غير كافية لمنافسة الشركات الأمريكية، التي تستثمر 67 مليار دولار سنويا في مجال الذكاء الصناعي.
ويرى مهندس برمجيات في شركة دي سي إس إل البريطانية الدولية، أن إدراك الجانب الياباني بوجود فجوة في القدرة الاستثمارية بينه وبين الولايات المتحدة في هذا المجال يجعله يطرح استراتيجية تقوم على التخصص في أفرع محددة في استخدامات الذكاء الصناعي مثل الصناعات التحويلية والرعاية الصحية.
وقال لـ”الاقتصادية” إن “الاستراتيجية الاستثمارية اليابانية في مجال الذكاء الصناعي تقوم على عدم استخدام الشركات للذكاء الصناعي في جميع جوانب الأعمال، ولكن من المرجح أن تستخدم الذكاء الصناعي “الناعم” لتكملة العمل البشري في مجالات محدودة من الأعمال”.
لكن الخطوات الكبيرة، التي قطعتها اليابان في مجال الذكاء الصناعي لا تنفي أنها تواجه بتحديات ربما لا يزال من أبرزها العمل على توفير خبرات وطنية قادرة على التعامل مع العوائق، التي تكون أمام إدماج أنظمة الذكاء الصناعي في النشاط الاقتصادي.
وفي هذا السياق تحديدا، اتخذت الحكومة اليابانية رسميا إجراءات لتعزيز قدرة النظام التعليمي على تخريج 250 ألف طالب سنويا لديهم القدرة على فهم البيانات والتعامل مع الذكاء الصناعي، إضافة إلى تعليم متكرر لنحو مليون شخص سنويا لتعزيز معرفتهم في مجال الرياضيات وعلوم الذكاء الصناعي، مع تدريب 2000 شخص سنويا ليدخلوا ضمن فئة المستويات العالمية.
يضاف إلى ذلك أن يكون لدى جميع خريجي المدارس الثانوية “نحو مليون خريج كل عام” يمتلكون المهارات التعليمية اللازمة لاكتساب المعرفة الأساسية في مجال العلوم والرياضيات التي تشكل أساس علم البيانات والذكاء الصناعي.
مع هذا يرى بعض الخبراء في مجال الروبوتات والذكاء الصناعي أن على اليابان أن تتبنى استراتيجية ذات طابع أكثر “هجومية” إذا أرادت أن تحافظ على موقع متقدم في مجال الذكاء الصناعي والروبوتات، وأن استراتيجيتها الراهنة لا تضمن لها أن تتبوأ المركز الأول عالميا.
من ناحيته، قال الدكتور ريان ويتون كبير محللي الروبوتات في شركة استشارات سوق التكنولوجيا العالمية “إيه بي أي”، إن “الصين والولايات المتحدة تلحقان باليابان بسرعة في مجالات الروبوتات، التي تمتلك فيها اليابان تفوقا تاريخيا، وأعني روبوتات الرعاية المنزلية والخدمات الصحية”.
وأضاف في حديثه لـ”الاقتصادية”، أنه “إذا استمر هذا الوضع، فإن اليابان ستتحول من أكبر بائع روبوتات في العالم، كما كانت في السابق، إلى لاعب قوي نسبيا مثل ألمانيا وكوريا الجنوبية وسنغافورة وتايوان، وستفقد اليابان تأثيرها بالنسبة إلى أنظمة الروبوتات الصينية والأمريكية”.
وفي الواقع، فإن أحد التقارير الصادرة عن الاتحاد العالمي للروبوتات العام الماضي، أشار إلى أن كوريا الجنوبية، وليس اليابان لديها معظم الروبوتات الصناعية، التي تصنع الروبوتات، التي تستخدم في تجميع الإلكترونيات والمركبات.
إلا أن تاريخ اليابان الطويل في احتضان الروبوتات، وليس الخوف منها عندما يتعلق الأمر بالتوظيف، والتغيرات الديموجرافية والشيخوخة العمالية، التي تصيب جميع مفاصل الاقتصاد الياباني، والثقافة الشعبية ووسائل الإعلام الرافضة للهجرة جميعها قد تصب في مصلحة عالم الروبوتات والذكاء الصناعي في اليابان، وتمثل حافزا دائما للمضي قدما وبخطوات سريعة إلى الأمام لتجاوز منافسيها.