التعليم بالطبع إعداد معرفي للإنسان. ويكتسب هذا الإعداد أهمية خاصة عندما يكون متعلقا بالذكاء الاصطناعي، فالإعداد المعرفي لهذا الذكاء يتضمن جانبين مهمين يرتبطان بصفات هذا الذكاء. جانب عام يقضي بالتعرف على الذكاء الاصطناعي، وليس هذا التعرف شبيها فقط بالتعرف على مبادئ الفيزياء والكيمياء والعلوم الحيوية، وفهم أسس علوم الحياة وإدراك معطياتها، على سبيل المثال، بل هو أيضا للتعامل مع هذا الذكاء في الحياة اليومية وفي الأعمال المهنية. فآفاق الذكاء الاصطناعي، التي بدأت ملامحها في الظهور، تشير إلى أنه سيكون حاضرا في كل منزل، ومهنة، والخدمات المختلفة التي يحظى بها الإنسان في هذا العصر.
هناك، بعد ذلك، جانب خاص للإعداد المعرفي المطلوب، وهو ذاك الذي يركز على المعرفة المرتبطة ببناء أنظمة الذكاء الاصطناعي، والعمل على تطويرها، بل تقديم تطبيقات مفيدة لها في شؤون الحياة المختلفة. ولهذا الجانب أيضا طبيعة مختلفة، عن العلوم الأخرى، لأن فيه محاولات لنقل خصائص ذكاء الإنسان ومنهجيات عمله إلى أجهزة أوسع قدرة على استيعاب المعلومات، وأسرع عملا في معالجتها، واستخلاص مضامينها، واتخاذ القرارات بشأنها. ويشمل ذلك أنظمة معرفية خالصة كأنظمة الترجمة بين اللغات، أو كنظام “المحاور المدرب تشات – جيبيتي” الذي تحدثنا عنه على هذه الصفحة في 9 فبراير 2023، كما يتضمن أنظمة معرفية تتحكم بأنظمة ميكانيكية مختلفة، كما هو الحال بأنظمة الروبوتات الصناعية التي ذكرناها في المقال السابق.
يأتي هذا المقال ضمن سلسلة المقالات الحالية، على هذه الصفحة، حول مشهد الذكاء الاصطناعي في العالم. فقد سبقته مقالات شملت طرح ملامح المشهد العام، ثم جوانب البحث والتطوير، وشؤون التقنية، والأخلاقيات، والاقتصاد، وستتبعه مقالات تتضمن جوانب السياسات والحوكمة، والتعددية، وآراء العموم في قضايا هذا الذكاء. وتعتمد الإحصائيات والحقائق العالمية المعطاة في هذه المقالات، بالدرجة الأولى، على ما قدمه تقرير “دليل الذكاء الاصطناعي” لعام 2023، الصادر عن جامعة ستانفورد الشهيرة. وسيركز هذا المقال على مشهد الذكاء الاصطناعي في كل من التعليم العام من جهة، والتعليم العالي من جهة أخرى.
إذا بدأنا بنظرة إلى التعليم العام على مستوى العالم، لوجدنا أن منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم “اليونيسكو”، توصي بوجود موضوعات في مناهج هذا التعليم ترتبط بشؤون الذكاء الاصطناعي. وتشمل هذه الموضوعات: الخوارزميات، والبرمجة، والتقنية المعلوماتية، وتطبيقاتها في المجالات المختلفة، إضافة إلى الأخلاقيات والمضامين الاجتماعية المرتبطة بهذه التطبيقات. يذكر تقرير ستانفورد أن هناك دولا تقوم بالفعل بطرح مثل هذه الموضوعات في مناهج التعليم فيها مثل الصين، والبرتغال، والهند، وبعض دول الخليج، كما يبين أيضا أن دولا أخرى تستعد لمثل ذلك، مثل ألمانيا، والمملكة.
يلقى المشهد الأمريكي حول الذكاء الاصطناعي في التعليم العام اهتماما خاصا في تقرير ستانفورد، حيث يبين أن مناهج التعليم في “27 ولاية أمريكية” من الولايات الـ50 تقدم برامج في موضوعات الذكاء الاصطناعي. ويطرح التقرير أيضا ما تقوم به مؤسسة “المستوى المتقدم” الأمريكية في هذا المجال، حيث تقوم هذه المؤسسة بوضع مناهج متقدمة للتعليم الثانوي في الموضوعات المهمة، وبينها مناهج في الذكاء الاصطناعي.
توصي مؤسسة المستوى المتقدم الأمريكية المدارس بتبني المناهج المتقدمة التي تقترحها، جزئيا أو كليا، ثم تجري اختبارات في مضامينها، وتمنح شهادات للطلاب الناجحين فيها. وتختار المدارس من موضوعات المناهج ما تراه مناسبا لطلبتها، حيث تساعد شهادات النجاح هؤلاء على التوجه نحو التعليم العالي، وربما نحو بعض الوظائف التي تحتاج تعليما ثانويا متقدما في موضوعات محددة أيضا. وقد بلغ عدد المتقدمين لامتحانات مناهج المؤسسة في مجال علوم الحاسب عام 2021 أكثر من “181 ألف متقدم”، ولم يتجاوز مجمل هذا العدد في الماضي، بين عامي 2007 و2011، الـ”20 ألف متقدم”، ما يدل على إدراك أكبر لأهمية التعليم المتقدم في الموضوعات المهمة، وعلى رأسها الذكاء الاصطناعي.
ننتقل إلى مشهد التعليم العالي، في الذكاء الاصطناعي، حيث ركزت إحصائيات تقرير ستانفورد على دول شمال أميركا التي تشمل الولايات المتحدة الأمريكية، وكل من كندا والمكسيك. تبين هذه الإحصائيات أن دول شمال أميركا شهدت، ما بين 2010 و2021، تضاعفا، في عدد خريجي البكالوريوس في علوم الحاسب، قدره “3.67 مرة”، وتضاعفا أيضا في عدد خريجي الماجستير قدره أكثر من “مرتين”. يضاف إلى ذلك أن عدد رسائل الدكتوراه في موضوعات الذكاء الاصطناعي بين الحاصلين على هذه الدرجة في علوم الحاسب تضاعف من “10 في المائة” إلى أكثر من “19 في المائة”. وفي ذلك دلالة على زيادة تركيز بحوث مجالات علوم الحاسب الأكاديمية على موضوعات الذكاء الاصطناعي.
شهد الذكاء الاصطناعي، في شمال أميركا أيضا، تزايدا في توجه خريجي الدكتوراه في تخصصات علوم الحاسب والذكاء الاصطناعي نحو الشركات الصناعية مقارنة بتوجههم نحو الحياة الأكاديمية في الجامعات ومؤسسات التعليم العالي. فبينما كانت نسبة من يتوجهون نحو الشركات الصناعية “49 في المائة” عام 2010، زادت هذه النسبة على “65 في المائة” عام 2021. رغم ذلك، زاد عدد أعضاء هيئة التدريس المختصين في علوم الحاسب في شمال أميركا بنحو “33 في المائة”، وكانت هذه الزيادة “39 في المائة” في جامعات أميركا، وفي ذلك بالطبع دلالة على توجه مزيد من الطلاب نحو هذه التخصصات.
قد لا يختلف مشهد اهتمام التعليم، بتخصصات علوم الحاسب والذكاء الاصطناعي المختلفة، في الدول المتقدمة الأخرى، والدول الطامحة إلى التقدم، عن المشهد في شمال أميركا، بل ربما يتمتع هذا الاهتمام بجذور أعمق، في بعض الدول التي تتطلع إلى مسيرة مستقبلية متميزة. ولا شك أن المستقبل، في أي مكان، وعلى مر الأزمان، هو حصيلة ما يقوم به الإنسان في الزمن الحاضر. ويحتاج تحقيق الطموحات دائما إلى تخطيط موجه يتمتع بآفاق واسعة، وإرادة شغوفة دافعة إلى الأمام، وعمل دؤوب مسؤول. ولنا في المقال المقبل بمشيئة الله، حديث حول سياسات الذكاء الاصطناعي وشؤون حوكمته.