الذكاء الاصطناعي يهدد إنسانية البشر ويفرض ثقافة أخرى
مشير باسيل عون
أصدرت جامعة مونريال (كندا) في عام 2018 وثيقة توجيهية “وثيقة مونريال من أجل تطوير الذكاء الاصطناعي تطويراً مسؤولاً” تضمنت الموضوعات الأساسية التي يجدر التفكير فيها من أجل تدبر قضية الذكاء الاصطناعي الذي غداً يجتاح كل مرافق الحياة الإنسانية. لا ريب في أن هذه الوثيقة ليست الوحيدة التي تصدر عن مركز جامعي بحثي، بل تنسلك في سياق التفكير الأكاديمي العالمي الذي يروم أن يستجلي الإشكاليات والرهانات والتحديات التي يستثيرها الذكاء الاصطناعي في وعي الإنسان المعاصر وفي واقع الحياة البشرية الراهنة. أما الضجيج الإعلامي الذي استثاره الروبوت لامبدا (Lambda) الفائق الذكاء، فيبين أن العلماء باتوا يخشون تجاوز الحد الفاصل بين الذكاء الاصطناعي الخاضع المضبوط، والذكاء الاصطناعي المستقل المتفلت من كل سيطرة إنسانية أخلاقية.
تعريف الذكاء الاصطناعي
يعرف العلماء الذكاء الاصطناعي بأنه مجموعة من المساعي النظرية والتقنية التي تجتهد في تطوير البرامج المعلوماتية المعقدة القادرة على محاكاة الذكاء البشري، لا سيما في أبرز سماته الإدراكية، كالتعقل والاستدلال والبرهنة والتعلم والتدرب. ومن ثم، يتجسد الذكاء الاصطناعي في أنظومات معلوماتية تقنية تتقلد الذكاء البشري، وتستخرج منه منطق آلياته وعملياته ومساراته التطبيقية، حتى تستطيع أن تنجز المهام الموكلة إليها، وتحسن من أدائها تحسيناً مستنداً إلى منطق التكرار التطويري. تتنوع حقول تطبيق الذكاء الاصطناعي بحيث يعثر عليه المرء في الأجهزة المؤتمتة (automatisation) التي تعمل بدفع آلي ذاتي، وفي أجهزة التعلم الذاتي، وفي الروبوتات المميكنة، وفي الكمبيوترات المتبصرة في مساراتها التدقيقية، وفي السيارات والمركبات والناقلات المستقلة الحركة، وفي الأنظمة اللغوية الرقمية المجردة، إلخ.
من المعروف أن ثلاثة أمور مذهلة أسهمت في إنجاح عمليات الذكاء الاصطناعي: كميات ضخمة من المعلومات المحفوظة والمستثمرة، قدرة معلوماتية حاسوبية تفوق التصور تؤهل هذا الذكاء لإدارة المعلومات الكونية المتراكمة بفضل نظام الغيم المعلوماتي (cloud)، خوارزميات حسابية ثورية لم يألفها العقل البشري تستند إلى طاقات التعلم العميق (deep-learning) الذي يصطنع دماغاً شبيهاً بالدماغ البشري مؤلفاً من خلايا عصبية تعمل عمل الخلايا الدماغية، ولكن من غير أن تخضع لانعطاباتها البيولوجية.
من إنجازات الذكاء الاصطناعي
خطا الذكاء الاصطناعي خطوات جبارة في السنوات الأخيرة، إذ استطاع في عام 2017 أن يتعرف على رموز الكلمات المتداولة في المحادثة، على غرار العقل البشري الذي يدرك معنى المفردات المستخدمة في الكلام. أما الخطوة الجبارة، فأنجزها هذا الذكاء حين تخطى قدرات الإنسان في امتحان القراءة الذي أجرته جامعة ستانفورد في عام 2018، بحيث تمكن من أن يتفاعل والكائنات البشرية تفاعلاً فطناً صائباً جعله يزودنا المعلومات الضرورية المفيدة في صورة طبيعية عفوية ملائمة. حدا هذا الإنجاز بنائب الرئيس التنفيذي في شركة “مايكروسوفت” هاري شوم (Harry Shum) إلى التصريح الخطير: “من الأكيد أنه ينبغي أن نحب الذكاء الاصطناعي! بعد النظر في كل الأمور، نسأل: ما نقيض الذكاء الاصطناعي؟ الجواب: الحماقة الطبيعية”. ليس في هذا الجواب من حرج أو إرباك، إذ يعتقد صاحبه أن هذا الذكاء أثبت فعاليته في جميع ميادين الإنتاج الإنساني، الصناعي والتجاري والطبي والإداري والرياضي والفني والهندسي والعسكري.
صلاحية الذكاء الاصطناعي في حقل الوعي الإنساني
غير أن المسألة الأخطر تنشأ من الاستفسار الذي ساقه عالم الرياضيات مؤسس المعلوماتية العلمية البريطاني الآن تورينغ (1912-1954): هل تستطيع الآلة أن تفكر؟ قياساً على هذا السؤال، أخذ الناس يتحرون إمكانات الذكاء الاصطناعي في حقل الوعي والوجدان، ذلك بأن الإنسان كائن مبني على تواطؤ ضمة من المؤهلات الحسية والإدراكية والشعورية. فالإنسان يدرك بواسطة عقله، ويحس بواسطة وجدانه، ويجمع الفعلين بواسطة وعيه الذي يؤهله لتناول ذاته المدركة والحاسة. ومن ثم، فإن الوعي أوسع من الإدراك والإحساس وأشمل منهما وأعظم.
اعتقد الفيلسوف الألماني لايبنيتس (1646-1716) أنه قادر على اختراع حساب يفكر (calculus rationator) مبني على قانون بسيط يقضي أن ننسب إلى كل مفهوم رقماً من الأرقام. لا شك في أن الابتكار الذهني هذا أثر تأثيراً بالغاً في الإعداد التدريجي الذي أفضى إلى اختراع الذكاء الاصطناعي. غير أن لايبنيتس الذي كان يطمح في ابتكار لغة حسابية كونية تعالج جميع المسائل، عاد فاستدرك معلناً أن هذه الطريقة لا يمكنها أن تتطور تطوراً سليماً، إذ لا تستطيع أن تتدبر مشكلة الترابطات الشائكة المعقدة بين المفاهيم المشرعة الهوية والمدى.
ربما يستطيع الذكاء الاصطناعي أن يحل محل الذكاء البشري (الإدراك)، ولكنه لن يقوى على الحلول محل الإحساس (الوجدان) المرتبط بالجسدية الإنسانية، ومحل التناول الجامع الشمولي (الوعي) الذي يتطلب تناصر مجموعة من العناصر الجسدية العضوية والدماغية العصبية لا يحتوي عليها الذكاء الاصطناعي في الجهاز الروبوتي المؤتمت، بيد أن العلماء يميزون الذكاء الاصطناعي الضعيف من الذكاء الاصطناعي القوي، فيعاينون في الثاني مستقبل الإنسانية التي تبحث عن تجاوز انعطابات البنية الجسدية والذهنية.
التعارض بين الذكاء الاصطناعي والوعي الإنساني
من الطبيعي أن تتضارب الآراء في شأن قدرة الذكاء الاصطناعي القوي على الحلول محل الوعي الإنساني. يرى المعارضون أن الوعي مرتبط بالكائن الإنساني الحي الذي يخضع لنظام بيولوجي شديد التعقيد، تتشابك فيه الأبعاد الجسدية والنفسية والمعنوية (الروحية). يصر عالم الاجتماع البريطاني هاري كولينز (1943)، في كتابه “الخبراء الاصطناعيون: المعرفة الاجتماعية والآلات الذكية” (Artificial Experts. Social Knowledge and Intelligent Machines)، على أن الذكاء يتطلب انتساباً عضوياً إلى اجتماع إنساني ناشط بين كائنات تعي جسديتها وعياً تفاعلياً، إذ إن الجسد، بحسب فتوحات الفينومينولوجيا المعاصرة، امتداد الوعي المتجلي في المنظورية العلائقية الخارجية.
ينبري باحثون آخرون ليعلنوا أن الروبوتات التي يقتصر ذكاؤها الاصطناعي على تدبير الرموز الحسابية البسيطة لا تستطيع أن تحل محل الوعي الإنساني الذي لا تخضع عملياته التفكرية والإدراكية والإحساسية لقوانين الفيزياء الكلاسيكية. يعلن عالم الرياضيات فيلسوف العلوم البريطاني رودجر بنروز (1931)، في كتابه “ظلال الذهن” (Shadows of the Minds. A Search for the Missing Science of Consciousness)، أن القوانين الفيزيائية المعروفة تعجز اليوم عن تفسير ظاهرة الوعي، ذلك أن النظام الفيزيائي المبني على ثنائية صفر/واحد أو ثنائية الظهور الناشط/الانحجاب المنطفئ (on/off) نظام مقيد بحتمية آلية لا تناسب حيوية الوعي المتفلت من كل معادلة حسابية أو منطق استدلالي معصوم.
ومن ثم، لا يمكن الكمبيوترات الحديثة أن تحاكي الذكاء البشري ولا أن تقوم مقام الوعي، إذ إنها مبنية على معادلات خوارزمية حتمية المسار، محدودة المدى. ليس دقيقاً، في نظره، قول الذين يدعون أن الذهن يعمل عمل الحاسوب الخوارزمي. في كتاب جدلي آخر يحلل طبيعة ارتباط الذهن والكمبيوتر بقوانين الفيزياء (The Emperor”s New Mind. Concerning Computers، Minds، and the Laws of Physics)، يعلن بنروز أن الوعي يتجاوز المنطق الحسابي الصوري، إذ يعتمد مساراً مفتوحاً من التصرف الذي لا يستطيع أن ينحصر في معادلة واحدة، ولا يمكن ترقب أفعاله. وحدها فيزياء الكوانتم والتموجات الحرة تستطيع أن تفسر بعضاً من عمليات الوعي المعقدة التي تجعل خلايا الدماغ العصبية تنشئ من الاستثارات التحفيزية ما يفوق قدرة الكمبيوترات على رصدها وتعليل تشابكاتها وتفاعلاتها. غير أن هذه الفيزياء ما برحت في طور التحقق العلمي.
إمكانات التواصل الوظيفي بين الذكاء الاصطناعي والوعي الإنساني
لا ريب في أن مثل هذا التحليل لم يستحسنه العلماء الذين يناصرون مبدأ التشابه بين الذكاء الاصطناعي والذكاء البشري. يؤكد عالم الكمبيوتر المشارك في تأسيس مختبر الذكاء الاصطناعي في معهد ماساشوستس التكنولوجي (MIT) مارڤن مينسكي (1927-2016) أن رودجر بنروز ينفي كل وجوه الشبه بين الذكاءين، وينكر أن يكون الفكر الإنساني منعقداً على بنية بسيطة خاضعة لمنطق التحليل العلمي. بخلاف ذلك، يصر مينسكي، في كتابه “الآلة الانفعال: تفكير الحس المشترك والذكاء الاصطناعي ومستقبل الذهن البشري” (The Emotion Machine. Commonsense Thinking، Artificial Intelligence and the Future of the Human Mind)، على أن الكائنات البشرية، مع أنها آلات معقدة التركيب والوظيفة، تخضع للقوانين الفيزيائية التي يمكنها أن تتطور تطوراً مدهشاً يجعل الروبوتات تحتضن استثارات الخلايا العصبية في أشد تعقيداتها إعضالاً واستعصاء وإرباكاً. وعليه، فإن الاختلاف الوحيد بين الكائنات البشرية والروبوتات الذكية يقوم في أن هذه الكائنات آلات ينبثق ذكاؤها من التفاعل الحر بين عناصر دماغية شتى غير ذكية لا تتمتع إلا باستقلال نسبي. في إثر التطور العلمي المذهل، ستصبح هذ الروبوتات أذكى من معظم الناس، بحيث تستطيع أن تنشئ بذكائها روبوتات جديدة تتجاوز قدراتها ذكاء البشرية برمتها.
مراتب الذهن الإنساني: الإدراك والوجدان والوعي
بمعزل عن علمية النظريات ورصانتها، أرى أن التحقق من طبيعة وظيفة الخلايا الدماغية عين المشكلة وجوهر القضية. إذا استطاع العلم أن يبين الشبه الكامل بين نشاط الخلايا العصبية ونشاط أجهزة الذكاء الاصطناعي، أمكنه حينئذ أن يتثبت من خضوع مسار الوعي الإنساني للقوانين الفيزيائية المتنوعة المناحي والخصائص. لا شك في أن ما أشرت إليه من ضرورة التمييز بين مراتب الذهن الثلاث، الإدراك والوجدان والوعي، يساعدنا في تعيين طبيعة العمل الذكائي الاصطناعي. أعتقد أن الروبوتات الذكية ستتجاوز مرتبة الإدراك في القريب من الأزمنة. أما مرتبة الوجدان ومرتبة الوعي، فلا أستطيع الجزم في شأن تجاوزهما، إذ تقترنان اقتراناً وثيقاً بطبيعة المراس الوجودي الأعمق الذي يختبره الإنسان في جسديته المنغرسة في صميم التواصل الإنساني.