تشتيت ممنهج.. كيف تبني المنصات الرقمية بيئات لا تسمح بالتفكير العميق؟

تشتيت ممنهج.. كيف تبني المنصات الرقمية بيئات لا تسمح بالتفكير العميق؟

AI بالعربي – خاص

في كل مرة تفتح فيها هاتفك، هناك إشعار، فيديو، إعلان، أو رابط يقاطع انتباهك. لكن الأمر لم يعد عشوائيًا، بل أصبح مقصودًا ضمن ما يمكن تسميته بـ “التشتيت الممنهج”، وهو نمط تصميم رقمي يُفكك الانتباه ويمنع تراكم الأفكار. فهل تبني المنصات الرقمية عمدًا بيئات لا تسمح بالتفكير العميق؟ الجواب يختبئ بين خوارزميات تحاكي ردود الأفعال وتُعيد برمجة السلوك اليومي.

يعتمد هذا التشتيت على مبادئ نفسية دقيقة، مثل “مكافأة المتغيرات” التي تجعل المستخدم ينتظر المحتوى المفاجئ أو الإعجاب غير المتوقع، مما يدفعه لتكرار الدخول بلا سبب واضح. كل منصة تُصمم واجهتها لتنتزع أقصى قدر من انتباه المستخدم، ولو على حساب تركيزه أو راحته النفسية. في النتيجة، يضيع المستخدم في تدفق لا نهائي من المواد التي تثير، تلمع، لكنها لا تسمح بالاستيعاب المتأني.

يُشير خبراء الأعصاب إلى أن هذه الأنماط من الاستخدام تؤثر على قدرة الدماغ في الحفاظ على التركيز لفترات طويلة، وتُضعف المهارات المرتبطة بالذاكرة العاملة والتفكير النقدي. كما يُظهر تقرير لمعهد “تايم ويل سبنت” أن متوسط مدة التفاعل على المنشورات لا يتجاوز 8 ثوانٍ، وهي فترة لا تكفي حتى لقراءة فقرة كاملة، فضلًا عن تحليل فكرة.

المنصات الرقمية لا تروّج للمحتوى الطويل أو المعقّد، بل تُعلي من شأن الفيديوهات القصيرة، العناوين الصادمة، والتفاعلات السريعة. والمفارقة أن التفكير العميق لا يجد طريقًا للانتشار وسط هذا الكم الهائل من التفاعل اللحظي. فكلما زادت التحديثات، تراجعت المسافة بين الفكرة والانفعال، وتحول المستخدم من قارئ إلى مستهلك شرِه لما هو سريع وفوري.

هذا التشتيت لا يحدث فقط عبر المحتوى، بل أيضًا من خلال تصميم الواجهات ذات الألوان الزاهية، والمؤثرات الحركية، والتدفق المتواصل. إنها بيئة تستهدف الإدراك الحسي المباشر وتُقصي العقل التحليلي. بل يمكن القول إن التصميم ذاته يُهيمن على العقل، ويمنعه من التوقف والتفكير، تمامًا كما تفعل آلة القمار الإلكترونية.

تُواجه محاولات بناء مساحات للتفكير العميق تحديات كبيرة في هذا السياق، إذ تبدو “بطء الفكرة” خيارًا غير قابل للتسويق، مقارنة مع المحتوى السريع الذي يولّد مشاعر لحظية. وهنا يظهر سؤال محوري: هل تسمح البنية الرقمية نفسها بولادة تفكير عميق، أم أنها بطبيعتها تقاومه؟ وهل الحل يكمن في تعديل الأنظمة، أم في مقاومة نمط الحياة الرقمي نفسه؟

مع تزايد الحديث عن “الصحة الرقمية”، يصبح من الضروري مساءلة النماذج التي تُهيمن على التصميم الرقمي الحديث، ليس فقط من زاوية الخصوصية أو البيانات، بل من حيث الأثر المعرفي. فهل نعيش في بيئة تُعيق التفكير دون أن نشعر؟ وهل يمكن استعادة العمق وسط ضجيج التشتيت الذكي؟

اقرأ أيضًا: الذكاء الاصطناعي وموت المؤلف.. من يملك النص الذي كتبه روبوت؟

 

اترك رد

Your email address will not be published.