عندما يصبح الانقطاع رفاهية.. لماذا لا يستطيع البعض مغادرة الإنترنت؟

عندما يصبح الانقطاع رفاهية.. لماذا لا يستطيع البعض مغادرة الإنترنت؟

AI بالعربي – خاص

في عالم يُقاس فيه الحضور الرقمي بعدد الإشعارات والتفاعلات، لم يعد الانفصال عن الإنترنت مجرّد خيار، بل تحوّل إلى رفاهية لا يقدر عليها الجميع. يبدو الانقطاع في الظاهر قرارًا بسيطًا، لكنه في العمق محاطٌ بمنظومة من الالتزامات الشخصية والمهنية والتقنية التي تجعل الابتعاد عن الشبكة أمرًا أكثر تعقيدًا مما نعتقد.

تحكم المنصات الرقمية اليوم في تفاصيل الحياة اليومية، من العمل والتعليم إلى العلاقات الاجتماعية وحتى الترفيه. ومع تسارع وتيرة التواصل، أصبحت “المشاركة” معيارًا للوجود، والانقطاع يُفهم أحيانًا كغياب أو تجاهل أو حتى انسحاب غير مبرر. وهذا ما يجعل كثيرين يشعرون بالذنب أو الخوف عند التفكير في الابتعاد.

لكن المعضلة الأعمق تكمن في أن البعض لم يعد يمتلك الرفاهية الذهنية ولا البنية الاجتماعية التي تسمح له بالانفصال. فالعامل المستقل يعتمد على الإنترنت لكسب رزقه، والطالب يدرس عبر المنصات، والموظف يشارك في اجتماعاته عن بعد. أما العلاقات الشخصية، فقد انتقلت بدورها إلى الفضاء الرقمي، بحيث أصبح “الرد المتأخر” مؤشرًا على فتور العلاقة.

في دراسة أجراها “مركز بيرو للإنترنت والحياة” عام 2024، وُجد أن 71% من المشاركين يشعرون بأنهم “مضطرون” للبقاء متصلين لأسباب مهنية أو اجتماعية، بينما عبّر 58% عن رغبتهم في الحصول على فترات انقطاع منتظمة لكنهم “لا يستطيعون”. هذا التناقض بين الرغبة والقدرة يعكس طبيعة الارتباط القسري الذي تفرضه البنية الرقمية.

ورغم الحديث المتكرر عن “الديتوكس الرقمي”، فإن تطبيقه الفعلي لا يزال محدودًا، وغالبًا ما ينحصر في فئات معينة تملك الموارد والبيئة المساندة. فالقدرة على الانقطاع تتطلب عملًا لا يعتمد على الاتصال، وعلاقات تفهم الغياب، ونظام حياة لا يُعاقب على عدم التفاعل. ولهذا يتحوّل الانقطاع إلى امتياز طبقي لا يُتاح للجميع.

أكثر من ذلك، فإن المنصات الرقمية نفسها لا تشجع على الغياب. الإشعارات المتكررة، خوارزميات التفاعل، والمحتوى المصمم لإبقاء المستخدم مشدودًا، كلها تعمل على خلق بيئة يصعب مغادرتها نفسيًا وسلوكيًا. فالبقاء متصلًا لم يعد خيارًا واعيًا، بل نمطًا يُفرض بآلياته الدقيقة.

كما أن الانقطاع الرقمي لم يعد فقط فعل هروب، بل أصبح يُقرأ أحيانًا كإعلان موقف، أو تمرد على الأنماط السائدة، ما يجعل البعض يخشى من التبعات الاجتماعية أو المهنية لهذا الغياب. وهكذا يتحول الصمت إلى مخاطرة، والبقاء إلى ضمانة حضور.

فهل يمكننا فعليًا أن ننسحب من هذا الفضاء دون أن نخسر شيئًا؟ وهل هناك طريقة لإعادة هندسة علاقتنا بالإنترنت بحيث يصبح الانقطاع جزءًا صحيًا من الاستخدام؟ تلك أسئلة لم تعد ترفًا فكريًا، بل شرطًا لرفاهية ذهنية نادرة في زمن الاتصال الدائم.

اقرأ أيضًا: تشتيت ممنهج.. كيف تبني المنصات الرقمية بيئات لا تسمح بالتفكير العميق؟

 

اترك رد

Your email address will not be published.