ما الذي تخطئ أميركا في فهمه حول سباق الذكاء الاصطناعي؟
أميركا وخطأ التركيز على التطوير دون التوظيف في سباق الذكاء الاصطناعي
رادها إينغار بلومب – مايكل سي. هورويتز
منذ أعوام عدة انغمست الولايات المتحدة في سباق محتدم مع الصين في مضمار تطوير الذكاء الاصطناعي المتقدم، ومع الأخذ بعين الاعتبار التداعيات العميقة للذكاء الاصطناعي على الأمن والدفاع الوطنيين، إضافة إلى الاقتصاد، يتضح أن رهانات ذلك السباق مرتفعة تماماً، ولكن يصعب في الغالب معرفة الرابح، وثمة إجابات كثيرة عن ذلك الأمر تتعلق بالأداء، بمعنى معرفة أي نماذج الذكاء الاصطناعي يتفوق على الآخرين في السرعة والمنطق والدقة، وإذا أُخذ بتلك المؤشرات فإن الولايات المتحدة تحوز قصب السبق بشكل واضح، وبالأحرى إنها تتحكم به بفضل تمتعها بوجود المهندسين الأرقى مستوى عالمياً، واستثمار مليارات الدولارات في مراكز البيانات وضوابط التصدير على معظم الرقاقات المتقدمة في الحوسبة الرقمية.
ويفسر هذا التركيز على الأداء ما حدث في يناير 2025 حينما أُطلق نموذج جديد قوي في الذكاء الاصطناعي حمل اسم “أر-1” R-1، صنعته شركة “ديب سيك” الصينية، فترافق ذلك مع فورة في عناوين الإعلام وتحطم الأسواق في أرجاء العالم، ولقد بدا وكأن نجاح “ديب سيك” يحمل رسالة مفادها أن تقدم الولايات المتحدة في سباق الذكاء الاصطناعي لم يعد يمتلك ذلك الهامش المريح الذي أركن كثيرون إلى الاعتقاد به.
وفي المقابل فمن شأن التركيز على الجانب التكنولوجي فقط أن يخفي الطبيعة الحقيقية لهذه المنافسة، وثمة أهمية للأداء بحد ذاتها، لكن النماذج التي تحتل المرتبة الثانية تقدم قيمة كبيرة للمستخدمين، خصوصاً حينما تكون رخيصة ومفتوحة المصدر وواسعة الاستخدام [التقنية المفتوحة المصدر تكون الشيفرة الأساس التي تتحرك عليها المنظومة الرقمية، مكشوفة ومعروفة وقابلة للتعديل بواسطة المستخدم].
والدرس الحقيقي من نجاح “ديب سيك” هو أن التنافس في مجال الذكاء الاصطناعي لا يتعلق فقط بأية دولة تطور النماذج الأكثر تقدماً، بل أيضاً بالقادر منها على تبنيها بسرعة على مستوى اقتصادها وحكومتها، ويُؤثر عن المخططين العسكريين قولهم إن “الهواة يتحدثون عن التكتيك، فيما يناقش المتمرسون المسائل اللوجستية”.
وفي الذكاء الاصطناعي يتحدث الهواة على مؤشرات الأداء، فيما يناقش المتمرسون تبني التكنولوجيا، وبالتالي، وبغية أن تحافظ الولايات المتحدة على تقدمها، فيوجب على الحكومة الأميركية توظيف الذكاء الاصطناعي في المؤسسة العسكرية والوكالات الفيدرالية والاقتصاد الواسع، وبهدف الوصول إلى تلك النقطة يجب على الحكومة الأميركية إرساء مجموعة من القواعد بهدف تحديد مسار يفضي إلى التركيز على الشفافية والحق في الاختيار، مع الاستمرار في تعزيز الثقة ودعم تطوير بنية تحتية لتقنية حوسبة السحاب ومصادر جديدة للطاقة، وكذلك ينبغي بالحكومة مساعدة صناع التكنولوجيا الأميركية في تصدير منتجاتهم من الذكاء الاصطناعي إلى بقية أرجاء العالم بهدف دعم الشركات الأميركية وترسيخ القيم الديمقراطية وإيقاف الهيمنة التكنولوجية الصينية، ولا خيار سوى الفوز بسباق تبني التكنولوجيا كي تتمكن الولايات المتحدة من جني الفوائد الاقتصادية والعسكرية الفعلية للذكاء الاصطناعي.
الموجة المقبلة
في الغالب يؤدي الحديث عن الذكاء الاصطناعي العسكري إلى إثارة المخاوف من روبوتات قاتلة ينفلت عقالها في التسبب بأذى عشوائي واسع مع عدم إمكان محاسبتها على أفعالها، وعلى رغم ذلك، سواء في المجال العسكري أو سواه، معظم عمليات توظيف الذكاء الاصطناعي سيجري عبر تعاون بين الإنسان والآلة، مما يعني أن أدوات الذكاء الاصطناعي ستسرع مسارات الأعمال الموجودة بالفعل إضافة إلى تحسين أدائها، وفي ما يتعلق بالقطاع العسكري الأميركي لا تزال الأسلحة ذاتية التشغيل، على عكس المركبات غير المأهولة التي يُسيرها البشر عن بُعد، تتطلب وجود إنسان مسؤول لاتخاذ قرار استخدام القوة.
وفي سياق الأمن القومي يعني ذلك الأمر بصورة أساس تحسين طريقة وسرعة استخدام العسكريين ووكالات الاستخبارات للبيانات في صنع القرارات، وسيُمكن الذكاء الاصطناعي من تحسين عمليات رصد الأخطار، ويعطي البشر وقتاً أكبر للاستجابة، وكذلك سيسمح للعسكريين بإجراء خطط تدريب أكثر تفصيلاً وأشد واقعية، إضافة إلى تقليص وقت الاستجابة للأزمات وتسهيل عمل آليات المساندة للعمل العسكري مثل التمويل والمسائل اللوجستية.
وبالفعل شرع العسكريون حول العالم في تطوير أدوات الذكاء الاصطناعي ونشرها ووضعها قيد التطبيق على الأرض، ولقد قدمت الحرب في أوكرانيا فرصة لروسيا كي تسارع إلى دمج الذكاء الاصطناعي مع مجموعة متنوعة من الأنظمة العسكرية، وشمل ذلك الأسلحة ذاتية التشغيل والمنظومات التي تترجم بيانات أدوات الاستشعار وتقدمها لصناع القرار من البشر على هيئة بنك أهداف، وتستثمر إيران وكوريا الشمالية كلاهما في أدوات الذكاء الاصطناعي لدعم العمليات العسكرية والرقابة والتتبع الحكوميين والنشاطات السيبرانية.
أما في الولايات المتحدة فتتبنى الـ “بنتاغون” الذكاء الاصطناعي في عدد من التطبيقات تشمل تخطيط العمليات، وتوقع مواعيد صيانة المنصات الحيوية وتعزيز استقلالية منظومات الأسلحة، وتظهر كل هذه التطبيقات أهمية التبني الواسع للذكاء الاصطناعي، وثمة فارق شاسع بين أداة تتيح لقلة من القادة اتخاذ القرارات بسرعة أكبر وبين الاستخدام الواسع لأدة تعمل على تسريع النشاط العملياتي في العمل العسكري.
وفي الاقتصاد، وعلى غرار ما سبق ذكره، فإن فوائد الذكاء الاصطناعي ستتبلور من حجم انتشاره، وفي عام 2023 ظهر تقرير لمؤسسة “ماكينزي” للاستشارات يقدر أن التوظيف الواسع للذكاء الاصطناعي قد يثمر عن تريليونات الدولارات للاقتصاد العالمي المتأتية من زيادة الإنتاجية، وكذلك تحفز التطورات في الذكاء الاصطناعي عمليات الابتكار في العلوم والطب والصناعة المتطورة وغيرها، وفي المقابل لن تجني الدول فوائد من أنظمة الذكاء الاصطناعي إلا إذا تمكنت من الوصول إليها، ويرجح أن تعمد البلدان الغنية إلى توظيف الذكاء الاصطناعي قبل غيرها، وبالتالي سيجب على صناع السياسة في الولايات المتحدة مساعدة الشركات الأميركية في تصدير تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي إلى الجنوب العالمي، ومن شأن ذلك الدفع قدماً بتحقيق أهداف التنمية، إضافة إلى المساعدة في احتواء نفوذ الصين العالمي لأن الصينيين يرجح أن يشكلوا البدلاء الأساس للموردين الأميركيين.
وفي الولايات المتحدة وخارجها لا يكفي الاكتفاء ببساطة بالتوصل إلى النماذج الريادية الأكثر تطوراً في الذكاء الاصطناعي، وحتى لو بقيت النماذج الصينية متأخرة عن منافساتها الأميركية فإن نجاح “ديب سيك” يبرهن على قدرة التكنولوجيا الرخيصة والمفتوحة المصدر على تقديم فوائد قيمة للمستخدمين، وفي ما يتعلق بمجموعة من التطبيقات العادية كصوغ عقود قانونية والمساعدة في البحوث التجارية وغربلة طلبات الزبائن، فإن تبني الذكاء الاصطناعي لا يقتضي بالضرورة الحصول على النماذج الأفضل في الأداء، وبالأحرى يكفي في تلك الأمور استعمال حلول جيدة بما فيه الكفاية وسريعة على نطاق واسع، وقد تجتذب نماذج صينية مثل “ديب سيك” دولاً تسعى إلى الحصول على أدوات في الذكاء الاصطناعي، تكون رخيصة وفاعلة وتصلح للتعامل مع مجموعة واسعة من الاستخدامات العادية، وفي المقابل تحوز الولايات المتحدة عدداً من نقاط التفوق على غرار الرقاقات الأكثر تقدماً، وبنية تحتية واسعة في حوسبة السحاب، ونماذج أساس للذكاء الاصطناعي أكثر تقدماً من سواها وعدد أكبر من التطبيقات المفيدة، ولكن هناك حاجة إلى وضع إستراتيجية في شأن نشر تلك الأشياء.
إن الفوز بسباق نشر الذكاء الاصطناعي سيحدد مستقبل القيادة العالمية للولايات المتحدة، وتستعمل بكين استثماراتها التكنولوجية في الخارج بغية إرساء فضاءات نفوذ تقدر على إضعاف مصالح الولايات المتحدة وتضخيم الضغوط السياسية الصينية، وإذا جرى تبني الأنظمة الأميركية للذكاء الاصطناعي في أرجاء العالم فستنتشر معها القيم التي تستند إليها تلك الأنظمة كحرية التعبير والخصوصية وغياب الانحياز المسبق، وإذا فازت النماذج الصينية في ذلك السباق فمن المرجح أن يتأتى من ذلك انتشار الرقابة والترصد والتتبع والانحياز المسبق.
التوظيف وليس الشراء
نظراً إلى أهمية التبني الواسع فلا يمكن للحكومة الأميركية أن تركز فقط على الحفاظ على الصدارة في النماذج المتقدمة، بل يجب عليها أيضاً دعم تطوير نماذج أقل كلفة وأكثر كفاءة ويمكن نشرها على نطاق واسع، ويتطلب ذلك في المقام الأول نظرة واقعية إلى ما يمكن أن تحققه الولايات المتحدة وما لا يمكن أن تحققه من خلال ضوابط التصدير التي فرضتها إدارة بايدن لمنع وصول الصين إلى أشباه الموصلات المتقدمة وغيرها من تقنيات الذكاء الاصطناعي، فبما أن الذكاء الاصطناعي يعد تكنولوجيا ذات استخدامات عامة فلا ينبغي لصناع السياسات أن يتوقعوا أن تتمكن ضوابط التصدير من منع الصين من الحصول على تقنيات الذكاء الاصطناعي الرئيسية إلى أجل غير مسمى، فالنماذج في الذكاء الاصطناعي ليست كالسلاح النووي الذي تعتمد مكوناته الأساس، مثل اليورانيوم والبلوتونيوم، على مواد نادرة يمكن فرض رقابة مشددة عليها لمنع انتشارها.
الذكاء الاصطناعي وجه آخر للصراع
أما في حال الذكاء الاصطناعي، ومع أن نوعية الجهاز أمر مهم، لكن النماذج ذاتها هي برمجيات يمكن نسخها ونقلها بسهولة، ولن تتمكن الحكومات من فرض قيود صارمة على القدرة الحاسوبية كما تفعل مع المواد النووية، لأن الرقائق تستخدم في عدد هائل من التطبيقات الأخرى، وبالنتيجة فإن ضوابط التصدير أداة محدودة، فهي تستطيع حماية تقنيات فائقة الدقة لفترة محدودة لمساعدة الشركات الأميركية في البقاء في المقدمة أمام منافسيها الصينيين، لكنها لا تستطيع كبح التقدم التكنولوجي ما دون الحد الأقصى، وستؤدي حتماً إلى آثار غير مقصودة ومنها تشجيع الشركات الأجنبية على ابتكار طرق بديلة، والسؤال المطروح هو: ماذا ستفعل الولايات المتحدة بالوقت الذي تكسبه من خلال هذه القيود؟
ويجب على صناع السياسة في واشنطن وضع تنظيمات للذكاء الاصطناعي تتولى تعزيز الانتشار المسؤول للتكنولوجيا، ويتطلب ذلك الأمر أن تُقدم الولايات المتحدة بديلاً موثوقاً وملموساً يتمحور حول الشفافية والحق في الاختيار بدلاً من تشريعات أكثر تقييداً مثل التي يفرضها الاتحاد الأوروبي على تطبيقات الذكاء الاصطناعي التي لا تنصاع لقواعد الاتحاد الكثيرة، ويرجع ذلك إلى أن المقاربات التي يتبناها الاتحاد الأوروبي تستجيب لأخطار فعلية ماثلة، لكنها تخنق الابتكار وتطيح بالجهود الرامية إلى جعل النماذج أكثر شفافية، وكذلك فإنها تشجع المستخدمين على إيجاد طرق بديلة للوصول إلى الأدوات المحظورة، خصوصاً إذا توافرت بصيغة التطبيقات المفتوحة المصدر، ومثلاً فإن تطبيق “ديب سيك” متاح في الاتحاد الأوروبي على رغم عدم انصياعه لمتطلبات الخصوصية المدرجة في “تشريع حماية البيانات العامة” General Data Protection Regulation المعتمد في الاتحاد الأوروبي، أو “قانون الاتحاد الأوروبي عن الذكاء الاصطناعي” EU AI Act ومتطلباته في الأمن والحماية.
وثمة مقاربة أفضل تتمثل بتخفيف الأخطار مع تشجيع التبني السريع للأدوات الموثوقة، ويجب على إطار حوكمة الذكاء الاصطناعي أن يجسد مزيجاً من المقاربات الطوعية والتنظيمية بهدف خفض إمكان حدوث أخطار كوارثية على غرار نماذج الذكاء الاصطناعي التي تمكن من تطوير أسلحة دمار شامل، مع الاستمرار في التطوير الطوعي ضمن مجالي الأمن والموثوقية، فمن المستطاع مثلاً ضمان جزاءات مخففة على مطوري النماذج الذين يتبنون أدوات أو معايير حكومية في التعامل مع الأخطار في حال حدوث أذى ناجم عن استعمال تلك النماذج، وكذلك يفترض أن تضع الولايات المتحدة تشريعات تحمي حقوق الملكية الفكرية وتضمن خصوصية البيانات، ومن شأن تلك الإجراءات حماية الصناعة الأميركية وإحداث فارق بين المنتجات الأميركية وتلك التي يصنعها منافسوها.
التركيز بصورة حصرية على الجانب التكنولوجي يحجب الطبيعة الحقيقية لسباق الذكاء الاصطناعي
ويساعد إطار من هذا النوع في تحفيز تبني تقنيات الذكاء الاصطناعي المصنوعة في أميركا، ولقد أدى تحسين الفرامل إلى التمكن من صنع سيارات وقطارات أكثر سرعة وآماناً، وبالطريقة نفسها ستتعزز كفاءة ونفعية الذكاء الاصطناعي في ظل وجود إستراتيجية حوكمة تتضمن قواعد شفافة وحرية خيار للمستخدم وقيوداً ضئيلة، وتؤدي الأدوات التي تعزز الشفافية إلى تدعيم الثقة وتجعل المستهلكين ورجال الأعمال أكثر ميلاً إلى استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي، وعلى العكس من ذلك فإن الاكتفاء بتقييد استعمال أدوات الذكاء الاصطناعي سيؤدي إلى إبطاء الابتكار، ويحفز لدى المستهلكين الميل إلى الالتفاف على المتطلبات التنظيمية، فيما سيعمد مطورو الذكاء الاصطناعي إلى البحث عن أسواق أخرى بكل بساطة.
وكذلك سيفضي وجود إطار تنظيمي للذكاء الاصطناعي، يتضمن أخطار وتبادلات متوازنة، إلى إقناع بلدان الشرق الأوسط مثل السعودية والإمارات العربية المتحدة بالاستثمار بصورة أكثر حصرية في مراكز البيانات الأميركية وتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، ويعني ذلك وجود قواعد واضحة في شأن ما يجب على تلك البلدان تجنبه، مثل مشاركة أنواع معنية من التقنيات مع خصوم الولايات المتحدة، وكذلك ما ستحصل عليه على غرار الوصول إلى النماذج المتقدمة في الذكاء الاصطناعي ضمن مراكز بيانات بتقنية حوسبة السحاب تعمل ضمن الإطار السيادي لتلك الدول.
وبالفعل شرعت بلدان الخليج العربي في إظهار اهتمامها القوي بالتكنولوجيا الأميركية في الذكاء الاصطناعي، وبالتالي لا يلزم الولايات المتحدة سوى تسهيل وصول تلك البلدان إلى نماذجها المتقدمة في الذكاء الاصطناعي مع الحرص على منع انتقال التكنولوجيا إلى الصين بطريقة تتضمن الالتفاف على ضوابط التصدير الأميركية، وكذلك تستلزم تلك الأمور آليات معززة في بلدان الخليج العربي بغية التثبت من قدرة شركاتها التكنولوجية والشراكة بين القطاعين العام والخاص فيها، تستطيع تأمين وحماية التكنولوجيا الأميركية التي قد تتسرب إلى كيانات تهيمن الصين عليها في حال غياب الحماية.
ومن خلال تعزيز الشراكات في الذكاء الاصطناعي مع بلدان الخليج العربي ستُشجع الولايات المتحدة تلك البلدان على توسيع توافقها مع الولايات المتحدة وتوسّع وصول الصناعة الأميركية إلى مصادر الطاقة في الخليج العربي، كما أن التعاون مع الخليج لتمكين الوصول الموثوق سيساعد الشركات الأميركية في تقديم خدمات الذكاء الاصطناعي إلى دول الجنوب العالمي عبر شراكات مثل تلك التي أُعلنت العام الماضي بين “مايكروسوفت” وشركة التكنولوجيا الإماراتية “جي-42” في كينيا، والتي تهدف إلى توفير أدوات الذكاء الاصطناعي وخدمات السحابة للشركات هناك.
وهدفت تلك الخطوة إلى تزويد قطاع الأعمال في كينيا بأدوات الذكاء الاصطناعي والوصول إلى تقنية حوسبة السحاب، وإذا لم تمهد الحكومة الأميركية الطريق أمام تعاون من هذا النوع فستُملأ الفجوة التقنية في بلدان الجنوب العالمي بواسطة منافسي أميركا على غرار “مبادرة الحزام والطريق الرقمية” Digital Silk Road initiative الصينية المصممة لتزويد الدول الصاعدة بحزمة من التقنيات الرقمية مثل شبكات الجيل الخامس للخليوي وخدمات حوسبة السحاب.
وبهدف تعزيز التوظيف المحلي للذكاء الاصطناعي تحتاج الولايات المتحدة إلى ضخ استثمارات أساس في صناعة أشباه الموصلات ومراكز البيانات والطاقة، فكما كانت السيارات عديمة الفائدة تقريباً من دون طرق، مما دفع بعض المحللين العسكريين خلال الحرب العالمية الأولى إلى إبداء ارتيابهم بمدى تأثير محركات حرق الوقود على الأعمال الحربية، فإن بعض تقنيات الذكاء الاصطناعي لن تقدر على تحقيق الوعود المنشودة منها إلا إذا توافرت لها بيئات حوسبة السحاب والوصول المتزايد إلى قوى الحوسبة [أي الرقاقات الإلكترونية المتطورة] وبيانات قابلة للاستخدام.
وكذلك تحتاج أميركا، وخصوصاً حكومتها، إلى مستويات كافية من قوة الحوسبة والطاقة بما يكفي لتشغيل نماذج الذكاء الاصطناعي، وثمة بداية مهمة تمثلت أخيراً في إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترمب خطة لاستثمار نصف تريليون دولار في أعمال القطاع الخاص المخصصة لإنشاء مراكز بيانات، وفي المقابل ظهرت تقارير صحافية تفيد بأنه لم يُضخ حتى الآن سوى 100 مليار دولار من ذلك الاستثمار، فيما سبقت أعمال القطاع الخاص المتعلقة بإنشاء مراكز البيانات صدور البيان الرئاسي.
وقد تفضي زيادة الاستثمار الحكومي إلى التشجيع على توظيف مزيد من الاستثمارات الخاصة في توظيف الذكاء الاصطناعي على نطاق واسع، وبالفعل خصصت الحكومة الفيدرالية 50 مليار دولار لدعم الإنتاج المحلي لأشباه الموصلات، بما في ذلك صنع الرقاقات الإلكترونية الأكثر تقدماً واللازمة لعمل مراكز بيانات الذكاء الاصطناعي، وتساعد تلك الأموال أميركا في إنتاج الرقاقات اللازمة لتطوير أدوات الذكاء الاصطناعي واستعمالها وانتشارها في قطاعات الاقتصاد، لكنها بحد ذاتها لا تكفي لضمان اعتماد وتوظيف تلك التكنولوجيا، إذ يتعين على الحكومة أن تلعب دوراً رائداً في فتح مصادر طاقة واسعة النطاق لتشغيل مراكز بيانات الذكاء الاصطناعي، ولقد استثمر مقدمو خدمات حوسبة السحاب في زيادة إنتاج الطاقة، لكن ينبغي للحكومة الفيدرالية أيضاً أن توسع البنية التحتية للكهرباء وتحدثها في مجالي التوصيل والنقل لتلك الطاقة، ويرجع ذلك لأن وجود شبكة كهرباء متطورة ومحدثة من شأنها زيادة فاعلية توزيع تلك الطاقة والوصول إليها، وبصورة محورية وحيوية يعتمد الانتشار الواسع لاستخدام الذكاء الاصطناعي على وصول كميات وافرة من الطاقة إلى مراكز البيانات التي تعاني جوعاً دائماً إليها.
لا يُجدي الاكتفاء ببساطة بامتلاك نماذج الذكاء الاصطناعي الأكثر تطورًا
وفي خطوة أخرى تستطيع الحكومة تسريع استخدام الذكاء الاصطناعي في الاقتصاد عبر إعطاء الأولوية إلى التبني السريع لتلك التكنولوجيا في وكالاتها المختلفة، ومع توجيه دولارات الحكومة الفيدرالية إلى تقنيات الذكاء الاصطناعي فإن الوكالات الكبرى مثل وزارة الدفاع تعطي إشارة إلى الشركات في شأن المناحي التي يجب الاستثمار فيها، وترشد رؤوس الأموال الخاصة إلى التقنيات التي يُرجح حصول طلب مرتفع عليها، وتوخياً لحدوث التأثير الأضخم ينبغي للوكالات الحكومية أن تشرح أولوياتها بوضوح وتسهل عمليات الشراء وتركز على تقديم القدرات بصورة متخصصة، وقد تتكفل تلك المقاربة بتقديم ما يكفي من العون [لقطاع الذكاء الاصطناعي] إذا وجه له الكونغرس مخصصات سنوية بدلاً من تمويله بواسطة قرارات مستمرة لا تفسح المجال في الغالب أمام إبرام عقود جديدة.
وكذلك يستطيع التمويل الحكومي طمأنة المستهلكين وقطاع الأعمال بأن أدوات الذكاء الاصطناعي آمنة وموثوقة، ويسير تبني الذكاء الاصطناعي التوليدي في قطاع الأعمال الأميركي أبطأ مما يتوقعه المستثمرون في تلك التكنولوجيا، ويعود ذلك جزئياً لأن الأخطار تعمل على التنفير من تلك الصناعة، وتشير الاستطلاعات إلى أن غالبية الجمهور الأميركي يبدي ارتياباً حيال الذكاء الاصطناعي، وفي المقابل تشير بعض الاستطلاعات إلى أن غالبية الجمهور متحمسة حيال إمكانات الذكاء الاصطناعي، فيما تسير عمليات تبني تلك التكنولوجيا بوتيرة سريعة بين صفوف الجمهور والقطاع التجاري، وقد يتكفل تبني القطاع العام الأميركي للذكاء الاصطناعي بطمأنة المخاوف المحيطة به.
وحتى في غياب إستراتيجية حكومية، فإن الشركات الأميركية تستمر في دفع مستويات الذكاء الاصطناعي إلى الأمام لكنها تبقى غير متيقنة من مدى تقدمها، والمدة التي ستقدر على الاحتفاظ بريادتها في تلك التكنولوجيا، فلطالما كانت المنافسة في التقنيات العامة، مثل الذكاء الاصطناعي، شرسة، ويبرهن نجاح “ديب سيك” على أن ريادة الولايات المتحدة في الذكاء الاصطناعي ليست مضمونة وسيُظهر منافسوها أنهم سيسرعون الخطى في ملاحقتها عقب تحقيقها أي اختراق وازن، ونظراً إلى عدم وضوح مدى قدرة النماذج الأكثر تطوراً على ترجمة تفوقها إلى مكاسب اقتصادية، فمن المرجح أن تدور المنافسة على قيادة الذكاء الاصطناعي في الغالب حول القدرة على توظيفها، وسيأتي البرهان الأوضح على قوة الولايات المتحدة في الذكاء الاصطناعي عبر اعتماد تلك التكنولوجيا في القطاعين العسكري والحكومي إضافة إلى القطاع الخاص، وبغية الوصول إلى تحقيق ذلك الهدف ينبغي للولايات المتحدة أن تزيل العوائق البيروقراطية والتنظيمية، مع الاستمرار في الاستثمار المؤسساتي وإرساء شبكات قوية للطاقة وصنع تقنيات رخيصة وعقد شراكات إستراتيجية تتيح المجال أمام استعمال الذكاء الاصطناعي على نطاق واسع.
المصدر: independentarabia