السيناريوهات المستقبلية للذكاء الاصطناعي
أنطون كورينك
الذكاء الاصطناعي قد يكون في طريقه لتجاوز الذكاء البشري، وعلينا أن نكون على أهبة الاستعداد ويشهد الذكاء الاصطناعي تطورا سريعا، وتسارعت وتيرة التقدم في الأعوام الأخيرة. فقد أدهش نموذج الذكاء الاصطناعي ChatGPT، الذي تم إطلاقه في نوفمبر 2022، مستخدميه بمستواه غير المسبوق في توليد نصوص ورموز تضاهي الجودة البشرية، وترجمة اللغات بسلاسة، وكتابة المحتوى الإبداعي، والإجابة عن الأسئلة بمعلومات وافية. ولكن على خلفية ذلك، تطورت النماذج التأسيسية التي يقوم عليها الذكاء الاصطناعي التوليدي سريعا طوال ما يزيد على عشرة أعوام. فقد تضاعفت الموارد الحاسوبية المستخدمة في تدريب نظم الذكاء الاصطناعي الأكثر تطورا على الإطلاق كل ستة أشهر خلال العقد الماضي. ومنذ أعوام قليلة فقط، ما كان لأحد أن يتصور القدرات الحالية لكبرى نماذج الذكاء الاصطناعي التوليدية، حيث يمكنها تحقيق مكاسب هائلة في إنتاجية كبار المستشارين والمبرمجين وحتى الاقتصاديين حول العالم.
دفع التقدم الأخير في الذكاء الاصطناعي كبار الباحثين إلى توقع استمرار وتيرة التقدم الحالية، بل وتسارعها خلال الأعوام المقبلة. ففي مايو 2023، تحدث جيفري هنتون، عالم الحاسوب الذي أرسى الأسس النظرية للتعلم العميق، عن تحول هائل في منظوره قائلا “طرأ تحول مفاجئ في نظرتي لهذه الأشياء وما إذا كانت ستصبح أكثر ذكاء منا”. ويعتقد أن الذكاء العام الاصطناعي – أي الذكاء العام الذي يمتلك القدرة على فهم أي مهمة بشرية يمكن للإنسان أداؤها وتعلمها – قد يتحقق خلال خسمة أعوام إلى 20 عاما.
غير أن هناك بعض المتشككين في صفوف الباحثين في مجال الذكاء الاصطناعي. وتعكس هذه الآراء المتباعدة الشعور الكبير بعدم اليقين إزاء وتيرة التقدم مستقبلا، وما إذا كان سيتسارع أم قد يتوقف في نهاية المطاف. وعلاوة على ذلك، هناك شعور كبير بعدم اليقين حول الانعكاسات الاقتصادية الأوسع نطاقا لتطور الذكاء الاصطناعي ونسبة المنافع المتوقعة إلى الأضرار الناتجة عن التطور المتزايد في تطبيقات الذكاء الاصطناعي.
وفي جوهر الأمر، تمتد حالة عدم اليقين إلى أسئلة عميقة حول طبيعة الذكاء وقدرات العقل البشري.
ويوضح أحد البيانات أن قدرات العقل البشري على حل المهام متزايدة التعقيد غير محدودة. ويتفق ذلك مع تجربتنا الاقتصادية منذ الثروة الصناعية: فقد كان الإنسان في صدارة التطور الآلي، حيث نجح في أتمتة المهام البسيطة (الآلية والمعرفية)، وأعاد توزيع العمالة لأداء مزيد من المهام المتبقية الأكثر تعقيدا – أي أنه انتقل إلى الطرف الأيمن من توزيع المهام المعقدة. وباستخدام أساليب الاستقراء المبسطة، يفترض أن هذه العملية ستستمر مع تطور الذكاء الاصطناعي واستخدامه في أتمتة عدد متزايد من المهام المعرفية.
أما المنظور الثاني بشأن السناريوهات المطروحة، فيفترض وجود حد أقصى لتعقد المهام التي يمكن أن يؤديها العقل البشري. وتشير نظرية المعلومات إلى أن العقل البشري عبارة عن جهاز حاسوبي يعمل باستمرار لمعالجة كميات هائلة من البيانات. وتشمل مدخلات العقل كل ما يدرك بالحواس – المشاهد المرئية والأصوات والمشاعر المادية المتولدة عن اللمس وغيرها – وتتضح مخرجاته في صورة أفعال مادية وأفكار واستجابات شعورية. وحتى المظاهر المعقدة التي تميزنا كبشر، مثل المشاعر والابتكار والبديهة، يمكن عدها مخرجات حاسوبية ناتجة عن تفاعلات معقدة بين الدوائر العصبية وردود الأفعال الحيوية الكيميائية. ورغم أن هذه العمليات متطورة للغاية وتنطوي على تعقيدات لا يتسنى لنا إدراكها تماما، يفترض هذا المنظور وجود حد أقصى لتعقيد المهام التي يمكن أن يؤديها العقل البشري.
وهناك تفاوت كبير بين انعكاسات المنظورين على نطاق الأتمتة المتوقع مستقبلا. فحتى 2023، يعد العقل البشري الجهاز الحاسوبي الأكثر تطورا فيما يتعلق بالقدرة على أداء مجموعة واسعة من المهام الفكرية بشكل ثابت. ولكن إذا صح المنظور الثاني، يعني ذلك أن نظم الذكاء الاصطناعي الحديثة تتطور سريعا. وفي الواقع، فإن عديدا من مقاييس التعقيد الحاسوبي للنماذج التأسيسية المتطورة تقترب بالفعل من مقاييس العقل البشري، في حين أن القدرات الحاسوبية المعقدة للعقل البشري مقيدة بعلم الأحياء، كما أن للعقل البشري قدرة محدودة على نقل المعلومات إلى الكائنات الذكية الأخرى -كالبشر أو الذكاء الاصطناعي-، وهو ما يرجع إلى بطء الحواس واللغة في نقل المعلومات. أما نظم الذكاء الاصطناعي، فتواصل تطورها سريعا ويمكنها تبادل المعلومات بسرعة أكبر كثيرا.
وحول الحديث عن الاستعداد لأكثر من سيناريو فطالما كان منهج المحفظة هو الحل الأمثل من منظور الاقتصاديين للتعامل مع عدم اليقين. فنظرا إلى الاختلاف الكبير بين آراء كبار الخبراء حول العالم حيال تقدم الذكاء الاصطناعي في المستقبل، لن يكون من الحكمة تعليق جميع آمالنا على سيناريو واحد وصياغة خططنا الاقتصادية على أساسه. وعوضا عن ذلك، ينبغي أن يكون لنا في عدم اليقين حيال المستقبل حافز على التحوط والتحليل الدقيق لمجموعة من السيناريوهات المختلفة الممكنة، بداية من سيناريو المسار المعتاد وحتى إمكانية الذكاء العام الاصطناعي. وبخلاف مراعاة حالة عدم اليقين السائدة، يساعد تخطيط السيناريوهات على وضع تصور ملموس للفرص والأخطار المحتملة وإعداد خطط لمواجهة الطوارئ والاستعداد لمختلف النتائج الممكنة.
وللحديث عن الرؤية المستقبلية لانتشار الذكاء الاصطناعي فيما يلي ثلاثة سيناريوهات تكنولوجية تغطي مجموعة كبيرة من النتائج الممكنة التي ينبغي لصناع السياسات الاقتصادية الانتباه لها:
السيناريو الأول، “السيناريو التقليدي أو سيناريو المسار المعتاد”: تطور الذكاء الاصطناعي يسهم في تعزيز الإنتاجية وأتمتة مجموعة كبيرة من المهام المعرفية، وتنشأ عنه أيضا فرص جديدة للعمال المتضررين للانتقال إلى وظائف جديدة أكثر إنتاجية في المتوسط عن وظائفهم السابقة التي حل الذكاء الاصطناعي محلهم فيها.
السيناريو الثاني، “السيناريو الأساس، الذكاء العام الاصطناعي خلال 20 عاما”: على مدار الـ20 عاما التالية، يتطور الذكاء الاصطناعي تدريجيا وصولا إلى نقطة الذكاء العام الاصطناعي، ليصبح قادرا على أداء جميع المهام البشرية في نهاية الفترة، ما يؤدي إلى تراجع قيمة العمالة. ويتفق ذلك مع منظور القدرة المحدودة للعقل البشري من خلال البيانات الإحصائية الواردة بافتراض أن الذكاء الاصطناعي سيستغرق 20 عاما قبل أن يتمكن من أداء المهام المعرفية الأكثر تعقيدا.
السيناريو الثالث، “السيناريو المتشدد، الذكاء العام الاصطناعي خلال خمسة أعوام”: هذا السيناريو يحاكي السيناريو الثاني ولكن إطاره الزمني أقصر كثيرا، حيث يصبح الذكاء العام الاصطناعي وجميع انعكاساته على العمل واقعا ملموسا خلال خمسة أعوام.
رغم عدم يقيني الشديد، تقدر احتمالية تحقق كل من هذه السيناريوهات بأكثر من 10 في المائة في وقت كتابة هذا المقال. ولمراعاة عدم اليقين والتأهب للمستقبل بشكل كاف، في رأيي أن صناع السياسات عليهم التعامل بجدية مع جميع السيناريوهات، وإجراء اختبارات لقياس قدرة أطر السياسات الاقتصادية والمالية على تحمل ضغوط كل سيناريو، وإصلاحها إذا لزم الأمر لضمان كفاءتها.
يمكن أن تؤدي جميع السيناريوهات الثلاثة إلى نتائج اقتصادية شديدة الاختلاف عبر مجموعة واسعة من المؤشرات، بما في ذلك النمو الاقتصادي، الأجور والعائدات على رأس المال، واستدامة أوضاع المالية العامة، وعدم المساواة، والاستقرار السياسي. كذلك تتطلب هذه السيناريوهات إصلاح شبكات الأمان الاجتماعي والنظم الضريبية، وتؤثر في كيفية تنفيذ السياسة النقدية والتنظيم المالي والاستراتيجيات الصناعية والإنمائية.
ويتم استعراض نتائج جميع السيناريوهات الثلاثة، من خلال مسار الناتج في كل سيناريو ومسار الأجور السوقية التنافسية. وهنا تبرز ثلاث نقاط:
أولا، بينما يتواصل النمو حسب المسار المعتاد خلال العقود الماضية في السيناريو المتحفظ، يسجل نمو الناتج معدلات أكثر سرعة في سيناريوهي الذكاء العام الاصطناعي نظرا لأن ندرة العمالة لم تعد العوامل المقيدة للناتج.
ثانيا، ترتفع الأجور بداية في جميع السيناريوهات الثلاثة ـ ما دامت العمالة نادرة، ثم تتراجع لاحقا مع اقتراب الاقتصاد من نقطة الذكاء العام الاصطناعي.
ثالثا، هناك قوة واحدة وراء انتعاش الناتج وانهيار الأجور في سيناريوهي الذكاء العام الاصطناعي: الاستعاضة عن العمالة النادرة بآلات أكثر وفرة نسبيا. ويشير ذلك إلى أنه من الممكن تصميم مؤسسات لتعويض العمالة عن خسائر الدخل وضمان الاستفادة من مكاسب الذكاء العام الاصطناعي في تحقيق الرخاء المشترك.