AI بالعربي – متابعات
مع ازدياد الاعتماد على الذكاء الاصطناعي في البحث، والتحليل، وصناعة القرار، برزت تقنية RAG – Retrieval Augmented Generation بوصفها أحد أهم الحلول التي طُرحت لمعالجة مشكلة هلوسة النماذج اللغوية. الفكرة بدت منطقية ومطمئنة في ظاهرها: بدل أن يعتمد النموذج على ذاكرته الإحصائية فقط، يتم تزويده بمصادر حقيقية يسترجع منها المعلومات، ثم يبني إجابته بناءً عليها.
لكن مع الاستخدام العملي، بدأ يتكشف سؤال أكثر تعقيدًا وخطورة: متى تتحول الحقيقة المسترجعة إلى إعادة صياغة مضللة؟ وهل يكفي “الاسترجاع” لضمان الدقة، أم أن مرحلة “التوليد” قد تعيد إنتاج الخطأ بثقة أعلى؟
هذا المقال يحلل RAG بعمق، ليس كحل تقني فقط، بل كمنظومة معرفية جديدة، ويكشف أين تنتهي الحقيقة، وأين تبدأ إعادة الصياغة التي قد تضلل المستخدم دون قصد.
ما هو RAG ولماذا ظهر أصلًا؟
تقنية RAG تقوم على دمج مرحلتين أساسيتين في عمل النماذج الذكية. المرحلة الأولى هي استرجاع المعلومات من مصادر خارجية موثوقة مثل قواعد بيانات، مستندات، تقارير، أو مواقع محددة. المرحلة الثانية هي توليد إجابة لغوية اعتمادًا على هذه المعلومات المسترجعة.
الهدف من هذا الدمج هو تقليل اعتماد النموذج على التخمين، وتعزيز الإجابات بمحتوى واقعي ومحدّث. وبهذا المعنى، جاء RAG كاستجابة مباشرة لمشكلة الهلوسة التي عانت منها النماذج اللغوية الخالصة.
لكن المشكلة لا تختفي بالكامل بمجرد إضافة مصادر، لأن التوليد لا يزال عملية لغوية احتمالية، لا عملية نقل حرفي للحقائق.

من أين تبدأ الإشكالية في RAG؟
الإشكالية لا تكمن في الاسترجاع ذاته، بل في ما يحدث بعده. فالمعلومات التي يتم جلبها قد تكون صحيحة، دقيقة، وموثوقة، لكن النموذج لا يعرضها كما هي، بل يعيد صياغتها، يختصرها، يربط بينها، وأحيانًا يعممها.
في هذه المرحلة، قد يحدث الآتي:
المعلومة الصحيحة تتحول إلى استنتاج غير دقيق
السياق الأصلي يضيع أثناء التلخيص
التحفظ العلمي يتحول إلى صيغة تقريرية
الاحتمال يُقدَّم كحقيقة
الاستثناء يُمحى لصالح القاعدة
وهنا تتحول الحقيقة من “معلومة موثقة” إلى “سردية لغوية مقنعة” قد تحمل قدرًا من التضليل دون أن تكون مختلقة بالكامل.

الفرق بين نقل الحقيقة وإعادة بنائها
الإنسان عندما ينقل حقيقة قد يقتبسها حرفيًا، أو يشرحها مع الإشارة إلى حدودها وسياقها. أما النموذج اللغوي، فهو يعيد بناء الحقيقة داخل نص جديد، يهدف إلى التماسك والوضوح قبل أي شيء آخر.
هذا الفرق الجوهري يجعل RAG سلاحًا ذا حدين.
فهو يقلل من الاختلاق الصريح، لكنه لا يمنع التأويل غير الدقيق.
في كثير من الحالات، لا يكون الخطأ في المعلومة نفسها، بل في طريقة ربطها بسؤال المستخدم، أو في درجة اليقين التي تُعرض بها.

عندما يصبح التلخيص مصدرًا للتضليل
التلخيص هو أحد أخطر نقاط الضعف في أنظمة RAG. فالمعلومة المسترجعة قد تحتوي على شروط، أو استثناءات، أو نقاشات متعددة، لكن النموذج يميل إلى تلخيصها في جملة واحدة واضحة.
هذا التبسيط قد يكون مفيدًا، لكنه أحيانًا يزيل عناصر أساسية من الحقيقة.
ما كان “صحيحًا في ظروف معينة” يصبح “صحيحًا دائمًا”
وما كان “محل نقاش” يصبح “نتيجة محسومة”
في السياق العربي، حيث يميل المستخدم إلى الاعتماد على الإجابة المباشرة، يصبح هذا النوع من التبسيط خطرًا مضاعفًا، لأنه يُستقبل على أنه معرفة نهائية.

هل RAG أكثر أمانًا من النماذج التقليدية؟
الإجابة ليست نعم مطلقة ولا لا مطلقة.
RAG يقلل من الهلوسة الكاملة، لكنه لا يمنع الانحراف الدلالي.
النموذج قد يسترجع معلومة صحيحة، لكنه يدمجها مع سؤال لا تنطبق عليه تمامًا، أو يعممها خارج سياقها، أو يربطها بمعلومة أخرى صحيحة جزئيًا، لينتج إجابة تبدو منطقية لكنها غير دقيقة.
بعبارة أخرى، RAG لا يضمن الحقيقة، بل يرفع احتمالها فقط.
دور جودة المصادر في تضليل الإجابة
حتى في أنظمة RAG، تظل جودة المصادر عاملًا حاسمًا. إذا كانت المصادر نفسها تحتوي على تبسيط مخل، أو تحيز، أو معلومات قديمة، فإن النموذج سيعيد إنتاج هذه الإشكالات بلغة أفضل.
الخطير هنا أن اللغة المحسّنة تجعل الخطأ أقل قابلية للاكتشاف.
المعلومة الضعيفة عندما تُعاد صياغتها بأسلوب واثق تصبح أكثر إقناعًا، لا أكثر دقة.
ولهذا فإن RAG لا يعفي المؤسسات من مسؤولية اختيار المصادر، بل يضاعف هذه المسؤولية.
RAG في الإعلام وصناعة المحتوى
في غرف الأخبار وصناعة المحتوى، يُستخدم RAG لتلخيص تقارير، أو دمج مصادر متعددة، أو الإجابة على أسئلة تحليلية. هنا تظهر واحدة من أخطر الإشكاليات.
النموذج قد يسترجع تقريرًا اقتصاديًا دقيقًا، لكنه عند التوليد قد يختصره بطريقة تُغيّر دلالته العامة، أو تُسقط تحذيرات مهمة، أو تُبرز جانبًا واحدًا على حساب آخر.
النتيجة ليست خبرًا كاذبًا بالكامل، لكنها خبر منحرف دلاليًا، وهو أخطر أحيانًا من الخطأ الصريح.
التعليم والبحث الأكاديمي تحت اختبار RAG
في السياق التعليمي، يبدو RAG أكثر أمانًا، لكنه لا يخلو من المخاطر. الطالب الذي يعتمد على إجابة مدعومة بمراجع قد يطمئن إلى صحتها، دون أن يدرك أن النموذج أعاد تفسير النصوص بدل نقلها بدقة.
في البحث الأكاديمي، هذه الإشكالية قد تؤدي إلى بناء استنتاجات على فهم غير مكتمل للمصدر الأصلي، ما يخلق سلسلة من الأخطاء المعرفية المتراكمة.
لماذا لا يدرك المستخدم هذا التضليل؟
لأن التضليل في RAG ليس فجًا.
هو لا يأتي في صورة خطأ واضح، بل في صورة اختزال مريح.
المستخدم يرى إجابة مدعومة بمصادر، مصاغة بلغة سليمة، ومتسقة مع السؤال، فيفترض أنها دقيقة. غياب علامات الشك، أو الإشارة إلى حدود المعلومة، يجعل العقل البشري يتعامل معها كحقيقة مكتملة.
هنا تصبح الثقة ناتجًا عن الشكل، لا عن الجوهر.
متى تتحول إعادة الصياغة إلى خطر حقيقي؟
الخطر الحقيقي يظهر عندما تُستخدم أنظمة RAG في مجالات حساسة مثل الطب، القانون، السياسات العامة، أو الاقتصاد. في هذه السياقات، أي انحراف بسيط في الصياغة قد يؤدي إلى قرار خاطئ.
المعلومة الصحيحة إذا أُخرجت من سياقها قد تصبح ضارة، حتى لو لم تكن خاطئة في ذاتها.
هل الحل في تقليل التوليد؟
بعض الخبراء يرون أن تقليل مساحة التوليد وزيادة الاعتماد على الاقتباس المباشر قد يقلل من التضليل. لكن هذا الحل يصطدم بجوهر تجربة المستخدم، التي تبحث عن إجابة مفهومة، لا عن نصوص خام.
التحدي الحقيقي هو إيجاد توازن بين:
الوضوح
والأمان
والدقة
وسلامة السياق
وهو توازن لم تصل إليه الأنظمة الحالية بشكل كامل بعد.
المستخدم العربي بين الاطمئنان المفرط وسوء الفهم
في البيئة العربية، حيث ما زالت الثقافة الرقمية النقدية في طور التشكّل، يُنظر إلى RAG بوصفه ضمانًا للحقيقة. وجود “مصادر” يكفي لبناء الثقة، حتى لو لم تُفهم كيفية استخدامها.
هذا يجعل المستخدم العربي أكثر عرضة لتقبّل إعادة الصياغة المضللة، خاصة عندما تأتي بلغة عربية فصيحة ومنظمة.
كيف يمكن التعامل مع RAG بوعي؟
التعامل الواعي مع RAG يبدأ من إدراك أنه نظام مساعد لا حكم نهائي.
المخرجات يجب أن تُقرأ بوصفها تفسيرًا، لا نقلًا حرفيًا للحقيقة.
وفي القضايا الحساسة، يجب الرجوع إلى المصدر الأصلي لا الاكتفاء بالإجابة المولدة.
أما على مستوى المؤسسات، فيجب تصميم أنظمة RAG تُبرز حدود المعرفة، وتُظهر درجة اليقين، بدل تقديم كل إجابة بصيغة حاسمة.
هل RAG مرحلة انتقالية أم نموذج دائم؟
من المرجح أن يكون RAG مرحلة مهمة في تطور الذكاء الاصطناعي، لكنه ليس النهاية. ما نراه اليوم هو محاولة للجمع بين المعرفة واللغة، لكنها ما زالت محكومة بقيود التوليد الاحتمالي.
حتى يتم تطوير نماذج تفهم الحقيقة لا تصوغها فقط، ستظل إعادة الصياغة سيفًا مرفوعًا فوق دقة المعلومة.
الخلاصة التحليلية
RAG قدّم وعدًا جذابًا: ذكاء اصطناعي يستند إلى الحقيقة لا إلى التخمين. لكن الواقع أكثر تعقيدًا. الحقيقة المسترجعة قد تفقد دقتها عندما تمر عبر فلتر اللغة، وتتحول من معلومة موثقة إلى رواية مختصرة، وربما مضللة.
المشكلة لم تعد في الوصول إلى المعلومة، بل في كيفية إعادة تقديمها.
وفي عصر الذكاء الاصطناعي، يصبح السؤال الأهم ليس: هل المعلومة صحيحة؟
بل: هل قُدمت كما هي، أم كما أراد النموذج أن تبدو؟
س: ما هو RAG؟
ج: هو نظام يجمع بين استرجاع المعلومات من مصادر خارجية ثم توليد إجابة لغوية بناءً عليها.
س: هل RAG يمنع الهلوسة؟
ج: يقلل منها، لكنه لا يمنع إعادة الصياغة المضللة.
س: أين تكمن خطورة RAG؟
ج: في مرحلة التوليد التي قد تُخرج المعلومة من سياقها الأصلي.
س: هل RAG آمن للاستخدام في المجالات الحساسة؟
ج: بحذر شديد، ومع تحقق بشري دائم.
س: كيف يتعامل المستخدم بوعي مع مخرجات RAG؟
ج: باعتبارها تفسيرًا مساعدًا، لا حقيقة نهائية، والرجوع إلى المصدر عند الحاجة.
اقرأ أيضًا: الذكاء الاصطناعي و”Vector Database”.. لماذا أصبحت قواعد المتجهات قلب البحث الدلالي؟








