المحتوى المولّد يتحرّك بسرعة الشائعة

AI بالعربي – متابعات

لم تعد الشائعة، في عصر الذكاء الاصطناعي، حادثة عارضة أو انحرافًا طارئًا في تدفّق المعلومات، بل تحوّلت إلى نموذج حركة. ما كان ينتشر قديمًا بفعل الهمس أو الإثارة أو الفراغ المعرفي، بات اليوم يُنتج ويُضخّ ويُعاد تدويره بسرعة تكاد تسبق قدرة العقل على التمييز. المحتوى المولّد آليًا لا يحتاج إلى نية خبيثة كي يتحوّل إلى شائعة، يكفي أن يكون سريعًا، جذابًا، وقابلًا للتصديق جزئيًا.

الفرق الجوهري أن الشائعة التقليدية كانت تعيش على الهامش، بينما الشائعة المولّدة تعيش في القلب. في صلب المنصات، داخل الخلاصات، وبين الأخبار الحقيقية، بلا علامة فارقة. ليست كذبة صريحة، بل حقيقة مبتورة، أو احتمالًا مُضخّمًا، أو رواية ناقصة تكتسب وزنها من كثافتها لا من صدقيتها.

محتوى يولَّد آليًا ينتشر على الشبكات أسرع من إشارات التحذير
محتوى يولَّد آليًا ينتشر على الشبكات أسرع من إشارات التحذير

الذكاء الاصطناعي لا يختبر صحة ما يقول، بل احتمالية انتشاره. هو يتعلّم أي صيغة تُقرأ، أي عنوان يُنقَر عليه، أي سردية تُعاد مشاركتها. ومع هذا المنطق، تتحوّل الشائعة من خلل إلى ميزة. كلما كان المحتوى أسرع في الانتشار، زادت قيمته الخوارزمية، بغضّ النظر عن عمقه أو دقته.

من الخبر إلى التدفق

في السابق، كان الخبر يمرّ بمراحل: جمع، تحرير، نشر، ثم تفاعل. اليوم، المحتوى المولّد يقفز فوق هذه المراحل. يولد جاهزًا للتدفّق. لا ينتظر تحققًا، ولا يحتاج إلى سياق. يكفي أن يُشبه الخبر، أن يحمل نبرته، أن يستخدم لغته، حتى يُعامل على أنه كذلك.

هذا التسارع يخلق بيئة لا يُقاس فيها المحتوى بمدى صحته، بل بمدى حركته. ما يتحرّك أكثر يُرى أكثر، وما يُرى أكثر يُصدَّق أكثر. وهكذا، تتحوّل السرعة إلى معيار للمعرفة، لا عائقًا أمامها.

أحد باحثي الإعلام الرقمي يصف الأمر بقوله: “لم تعد الشائعة ما يناقض الحقيقة، بل ما يسبقها.”

الزمن كعامل تضليل

الشائعة التقليدية كانت تحتاج وقتًا لتنتشر. أما المحتوى المولّد، فينتشر في لحظته الأولى. هذا الاختصار الزمني يُضعف آليات الشك. القارئ لا يملك فرصة للتوقّف، للتساؤل، للمقارنة. كل شيء يحدث الآن، دفعة واحدة.

الذكاء الاصطناعي يضاعف هذا الأثر لأنه قادر على إنتاج نسخ متعددة من القصة نفسها. زوايا مختلفة، عناوين متنوّعة، نبرات متباينة. القارئ يرى القصة تتكرّر، فيظنها مؤكدة، بينما هي مجرد إعادة صياغة آلية للفكرة ذاتها.

نسخ متعددة من خبر واحد تنتشر في وقت واحد عبر منصات مختلفة
نسخ متعددة من خبر واحد تنتشر في وقت واحد عبر منصات مختلفة

قابلية التصديق بدل الحقيقة

الشائعة لا تنجح لأنها كاذبة، بل لأنها معقولة بما يكفي. المحتوى المولّد يتقن هذا الحدّ الرمادي. لا يذهب بعيدًا في الخيال، ولا يلتزم بالدقة. يقدّم معلومة ناقصة، لكنها منسجمة مع ما نعرفه أو نعتقد أننا نعرفه.

الخوارزمية تتعلّم هذا التوازن بدقة. تعرف أن الكذب الصريح يُكتشف سريعًا، وأن الحقيقة الكاملة قد تكون مملّة. فتنتج منطقة وسطى: محتوى يبدو ذكيًا، مطّلعًا، لكنه يترك فجوات تُملأ بالافتراض.

الشائعة بلا مصدر

أحد أخطر التحوّلات هو اختفاء المصدر. المحتوى المولّد غالبًا ما يأتي بلا توقيع واضح، بلا سياق إنتاج، بلا جهة مسؤولة. ينتشر كصوت بلا جسد. وحين يُسأل عنه، يصعب تتبّعه. من قال؟ من كتب؟ من قرر الصياغة؟ الأسئلة تضيع في الزخم.

هذا الغياب للمصدر لا يثير الشك كما كان يفعل سابقًا، لأن الجمهور اعتاد على المحتوى المجهول. المهم أن يبدو متماسكًا. أن يُشبه ما يُنشر عادة. وهكذا، تفقد فكرة “المصدر” وزنها الأخلاقي والمعرفي.

الشائعة بوصفها محتوى جذابًا

في منطق المنصات، الشائعة ليست خطرًا بل فرصة. تثير التفاعل، تخلق نقاشًا، تزيد الوقت الذي يقضيه المستخدم. الذكاء الاصطناعي لا يُكافأ على التهدئة، بل على الحركة. وكلما كان المحتوى قابلًا للتأويل، كان أكثر قدرة على إشعال الجدل.

هذا لا يعني أن الأنظمة “تريد” التضليل، بل أنها لا ترى سببًا كافيًا لإبطائه. فالتدقيق يكلّف وقتًا، والوقت عدوّ الانتباه.

مؤشر سرعة يتفوّق على علامة التحقق
مؤشر سرعة يتفوّق على علامة التحقق

الوعي تحت ضغط السرعة

تحت هذا الضغط، يتغيّر سلوك المتلقّي. لا يقرأ ليفهم، بل ليلحق. لا يسأل عن الدقة، بل عن الجديد. ومع كل مشاركة سريعة، يصبح جزءًا من سلسلة الانتشار، حتى لو لم يقتنع تمامًا بالمحتوى.

هذا النمط يخلق وعيًا متوتّرًا، دائم الاستجابة، قليل التأمّل. الشائعة لا تُفكَّك، بل تُستبدل بشائعة أحدث. الحقيقة لا تُكذَّب، بل تُنسى.

هل يمكن إبطاء الحركة؟

إبطاء المحتوى المولّد يبدو اليوم كفعل مقاومة. ليس تقنيًا فقط، بل ثقافيًا. يتطلّب إعادة تعريف للقيمة: من السرعة إلى الدقة، من الانتشار إلى المعنى. لكن هذا يتعارض مع الاقتصاد القائم على الانتباه.

بعض الباحثين يقترحون إدخال “احتكاك متعمّد” في المنصات: تأخير بسيط، تنبيه، طلب قراءة قبل المشاركة. لكن هذه الحلول تصطدم بسؤال جوهري: هل يريد المستخدم فعلًا أن يتباطأ؟

هل كل محتوى مولّد يتحوّل إلى شائعة؟
لا، لكن قابلية التحوّل أعلى بسبب السرعة والكثافة.

لماذا نصدّق المحتوى السريع؟
لأن التكرار والانتشار يخلقان وهم الموثوقية.

هل المشكلة تقنية أم ثقافية؟
هي مزيج من الاثنين، لكن الجذر ثقافي بالأساس.

هل يمكن للمستخدم حماية نفسه؟
جزئيًا، عبر التمهّل ومراجعة المصادر.

هل ستختفي الشائعة الرقمية؟
غير مرجّح، لكنها قد تتغيّر في الشكل.

في النهاية، المحتوى المولّد لا يتحرّك فقط بسرعة الشائعة، بل يعيد تعريفها. لم تعد الشائعة خبرًا كاذبًا ينتشر، بل نمطًا من المعرفة السريعة، الهشّة، القابلة للاستبدال. وفي عالم كهذا، يصبح السؤال الأهم ليس: هل هذا صحيح؟ بل: هل نملك الوقت لنسأل أصلًا؟

اقرأ أيضًا: التبسيط المُفرط كمخدر ثقافي

  • Related Posts

    المحادثات الفارغة تصبح جذابة.. الذكاء الاصطناعي يضبط المزاج

    AI بالعربي – متابعات لم تعد المحادثة الرقمية وسيلة لتبادل المعلومات فقط، بل تحوّلت في السنوات الأخيرة إلى مساحة لإدارة الشعور ذاته. في عالم تتكاثر فيه المنصات الذكية، لم يعد…

    الكتابة الخالية من الخطأ لا تعني الحقيقة

    AI بالعربي – متابعات لطالما ارتبطت الحقيقة، في الوعي العام، بفكرة الإتقان. النص الجيد هو النص الخالي من الأخطاء، المتماسك لغويًا، المتوازن نحويًا، والمصاغ بعناية. ومع صعود الذكاء الاصطناعي، وصلت…

    اترك تعليقاً

    لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

    مقالات

    الذكاء الاصطناعي يشكل اقتصاداتنا.. ما النتائج؟

    • نوفمبر 29, 2025
    • 134 views
    الذكاء الاصطناعي يشكل اقتصاداتنا.. ما النتائج؟

    الذكاء الاصطناعي يؤجج حرب التضليل الإعلامي

    • نوفمبر 22, 2025
    • 179 views
    الذكاء الاصطناعي يؤجج حرب التضليل الإعلامي

    الذكاء الاصطناعي أَضحى بالفعل ذكيًا

    • نوفمبر 10, 2025
    • 260 views
    الذكاء الاصطناعي أَضحى بالفعل ذكيًا

    في زمن التنظيمات: هل تستطيع السعودية أن تكتب قواعد لعبة الذكاء الاصطناعي؟

    • نوفمبر 8, 2025
    • 266 views
    في زمن التنظيمات: هل تستطيع السعودية أن تكتب قواعد لعبة الذكاء الاصطناعي؟

    “تنانين الذكاء الاصطناعي” في الصين وغزو العالم

    • أكتوبر 30, 2025
    • 286 views
    “تنانين الذكاء الاصطناعي” في الصين وغزو العالم

    الذكاء الاصطناعي في الحياة المعاصرة.. ثورة علمية بين الأمل والمخاطر

    • أكتوبر 12, 2025
    • 425 views
    الذكاء الاصطناعي في الحياة المعاصرة.. ثورة علمية بين الأمل والمخاطر