“تدريب لا مرئي”.. كيف تتعلم النماذج من حضورك الخامل؟
AI بالعربي – متابعات
في العالم الرقمي المعاصر، لم يعد التفاعل مرهونًا بالكلمات أو الأفعال المباشرة. فحتى حين يجلس الإنسان صامتًا أمام شاشة هاتفه أو حاسوبه، فإن حضوره الصامت هذا يُصبح مصدرًا غنيًا للبيانات. هذه الظاهرة تُعرف باسم “التدريب اللا مرئي”، حيث تتعلم النماذج والخوارزميات من كل تفصيلة صغيرة: سرعة التمرير، مدة التوقف أمام صورة، أو حتى إعادة النظر في مقطع فيديو.
ما يثير الانتباه هو أن هذا “الحضور الخامل” لا يقل قيمة عن التفاعل المباشر. بل إنه في أحيان كثيرة أكثر صدقًا، لأنه يكشف عما يجذب انتباه الإنسان دون أن يُفصح عنه بالكلمات. هكذا تتحول الخوارزميات إلى مرايا دقيقة تعكس تفضيلاتنا ورغباتنا، وتعيد تشكيل تجاربنا الرقمية بشكل لم نعهده من قبل.
مفهوم التدريب اللا مرئي
التدريب اللا مرئي يعني أن الذكاء الاصطناعي لا يحتاج إلى مدخلات واضحة كي يتعلم. بينما في الماضي كان النظام يعتمد على ما يكتبه المستخدم أو ما يختاره صراحة، فإن النماذج الحالية قادرة على التقاط “الإشارات الصامتة”. هذه الإشارات قد تكون زمن التوقف عند مقطع، أو إعادة مشاهدة جزء معين من فيديو، أو مجرد حركة بطيئة للتمرير.
هذه البيانات، رغم بساطتها، تُعتبر ذهبًا خامًا بالنسبة للخوارزميات. فهي تكشف بدقة ما يشدّ انتباه المستخدم وما يُثير اهتمامه، حتى لو لم يُعبّر عن ذلك. وبمجرد دمج هذه الإشارات في قواعد البيانات الضخمة، تبدأ النماذج في التعلم بشكل متواصل، وتصير أكثر قدرة على التنبؤ بسلوك المستخدم مستقبلاً.
كيف تجمع النماذج هذه البيانات؟
الآلات لا تنام ولا تغفل. كل ثانية يقضيها المستخدم أمام الشاشة تُسجل وتُحلل. عندما يُعيد الفرد مشاهدة فيديو معين أكثر من مرة، تعتبر الخوارزمية أن هذا المحتوى له قيمة خاصة بالنسبة له. وعندما يمر سريعًا على موضوع آخر، يُسجل النظام أن هذا النوع من المحتوى أقل أهمية.
التقنيات المتقدمة مثل تتبع حركة العين والتعرف على الأنماط الحركية تضيف طبقة أخرى من الفهم. بعض المنصات باتت قادرة على رصد أي جزء من الشاشة ينظر إليه المستخدم أكثر، وحتى الوقت الذي يقضيه في قراءة فقرة معينة. بهذا يتحول “الحضور الخامل” إلى لغة كاملة تُترجم إلى بيانات قابلة للتحليل.
أمثلة واقعية على التدريب اللا مرئي
منصة “تيك توك” تقدم المثال الأوضح. فحتى من دون الضغط على زر الإعجاب أو كتابة تعليق، يكفي أن يتوقف المستخدم بضع ثوانٍ عند فيديو معين ليعرف النظام أن هذا المحتوى يثير اهتمامه. بناءً على ذلك، تبدأ المنصة في تقديم المزيد من الفيديوهات المشابهة، لتغرق المستخدم في تيار مستمر من المواد التي تناسبه.
أما “يوتيوب”، فهو يقيس حتى النسبة المئوية للمشاهدة. إذا توقف المستخدم عن مشاهدة مقطع عند الدقيقة الأولى، فهذا مؤشر سلبي. أما إذا شاهده حتى النهاية، فإن الفيديو يُصنف كناجح ويُقترح على آخرين. وفي التجارة الإلكترونية، فإن مجرد التوقف أمام صورة منتج لبضع لحظات يُسجل كإشارة اهتمام، تُترجم لاحقًا إلى إعلانات موجهة تُطارد المستخدم في منصات أخرى.
الأثر على الأفراد
بالنسبة للفرد، قد يبدو الأمر مريحًا. فالنظام يعرف تفضيلاته دون أن يطلب منه شيئًا، ويقدم له محتوى مصممًا خصيصًا له. لكن الوجه الآخر أكثر تعقيدًا. فحين يُحاط المستخدم فقط بما يعكس اهتماماته الحالية، فإنه يعيش في “فقاعة رقمية”. هذه الفقاعة تُعزز قناعاته وتُضعف قدرته على الاطلاع على وجهات نظر مختلفة.
كما أن فقدان الوعي بحجم البيانات المُجمعة عنه قد يؤدي إلى شعور بالتهديد. فالمستخدم لا يدرك غالبًا أن صمته الرقمي أكثر إفصاحًا من كلامه، وأن مجرد نظرة عابرة قد تُخزن وتُحلل وتُستخدم للتأثير على قراراته لاحقًا.
الأثر على المجتمعات
على مستوى المجتمعات، التدريب اللا مرئي يعيد تشكيل طريقة تداول المعلومات. المنصات الرقمية تُقرر أي محتوى يُبرز وأي محتوى يختفي، بناءً على إشارات خفية من ملايين المستخدمين. هذا يعني أن ما يراه الناس على شاشاتهم ليس بالضرورة انعكاسًا موضوعيًا للواقع، بل هو نتاج حسابات خوارزمية تعطي الأولوية لما يثير الانتباه.
والأخطر أن هذه العملية قد تُعمّق الانقسامات. فكل مجموعة تُغذى بالمحتوى الذي يوافق اهتماماتها ومواقفها، ما يعزز الانعزال ويضعف الحوار المجتمعي. وهكذا يتحول التدريب اللا مرئي من أداة لتحسين التجربة إلى عامل يعيد صياغة النسيج الاجتماعي.
بين الفوائد والمخاطر
رغم هذه التحديات، لا يمكن إنكار الفوائد. في التعليم، يمكن للخوارزميات أن تتعلم من أنماط الطلاب الصامتة لتقديم محتوى يناسب مستوى تركيزهم. في الصحة الرقمية، يمكن للتطبيقات أن تراقب أنماط النوم أو الحركة لتقديم توصيات شخصية. وحتى في الترفيه، يُمكن للنظام أن يقدم تجارب أكثر إرضاءً بفضل هذه الإشارات غير المرئية.
لكن يبقى التحدي الأكبر في غياب الشفافية. المستخدم لا يعرف دائمًا ما يُجمع عنه ولا كيف يُستخدم. وهذا يفتح بابًا واسعًا للنقاش حول الخصوصية، وحول حق الأفراد في التحكم في بياناتهم غير المرئية.
المستقبل: هل يمكن التحكم في التدريب اللا مرئي؟
المستقبل يحمل اتجاهين متناقضين. الاتجاه الأول هو المزيد من الانغماس، حيث تزداد دقة الخوارزميات في رصد الحضور الخامل عبر أجهزة أكثر ذكاءً مثل النظارات الرقمية أو الأجهزة القابلة للارتداء. الاتجاه الثاني يدعو إلى وضع تشريعات تُلزم الشركات بالكشف عن نوعية البيانات التي تجمعها، وبمنح المستخدمين حق التحكم فيها.
التوازن بين الاتجاهين سيحدد ما إذا كان التدريب اللا مرئي سيبقى أداة للراحة والتخصيص، أم أنه سيتحول إلى تهديد للحرية الفردية وللتنوع المجتمعي.
واجهة تعكس كيف تُجمع البيانات من تفاعلات غير واعية للمستخدم

رمزية لتعلم النماذج من مجرد حضور المستخدم

صورة تمثل انعزال الأفراد داخل فقاعات رقمية

س: ما المقصود بالتدريب اللا مرئي؟
ج: هو عملية تعلم الخوارزميات من إشارات المستخدم غير المباشرة، مثل مدة التوقف أو سرعة التمرير، حتى دون أفعال واضحة.
س: ما إيجابيات هذا النوع من التدريب؟
ج: يقدم محتوى وتجارب مخصصة، ويحسن الخدمات في التعليم والصحة والترفيه.
س: ما المخاطر المرتبطة به؟
ج: تهديد الخصوصية، تعزيز الفقاعات الرقمية، وإعادة تشكيل المجتمعات بطريقة استقطابية.
س: كيف يمكن الحد من مخاطره؟
ج: عبر زيادة الشفافية، وسن قوانين لحماية البيانات، وتثقيف المستخدمين حول حقوقهم الرقمية.
الخلاصة
“تدريب لا مرئي” يكشف عن مرحلة جديدة في علاقة الإنسان بالآلة، حيث لم يعد التفاعل مرهونًا بالكلمات أو الأفعال، بل أصبح الصمت نفسه مصدرًا للتعلم. وبينما يتيح هذا التوجه فرصًا هائلة لتحسين التجارب والخدمات، فإنه يثير أسئلة خطيرة حول الخصوصية، الحرية، والتنوع. المستقبل يتوقف على مدى قدرتنا كمجتمعات على وضع ضوابط تحمي إنسانيتنا من أن تُستبدل ببيانات غير مرئية تُغذي خوارزميات لا نراها.
اقرأ أيضًا: تزييف بلا غش.. محتوى مقنع رغم كونه خياليًا
Beta feature
Beta feature