الذكاء الاصطناعي أم الصناعي؟

المهندس طارق جلال التميمي

في ظل تسارع تكنولوجي كبير جدًا، أصبح مصطلح “الذكاء الاصطناعي” مصطلحًا نستخدمه ونسمعه بشكل يومي. للأسف نلاحظ في الأيام الأخيرة استخدام البعض لمصطلح “صناعي” بدل “اصطناعي” هل هذا صحيح؟ هل يوجد فرق بينهما؟ هذا الالتباس المفاهيمي ليس مجرد مسألة أكاديمية، بل يمتد ليؤثر على فهمنا لهذه التقنية المهمة جدًا وكيفية تعاملنا معها. تتنوع وتتعدد وجهات النظر.

يرى البعض أن المصطلحين مترادفان، ويصر آخرون على وجود فروق جوهرية بينهما. وفي خضم هذا النقاش، تبرز محاولات جادة لتوحيد المصطلحات وتقديم حلول لغوية مبتكرة تتناسب مع التطورات المتسارعة. في هذا المقال، سنغوص في أعماق هذا الموضوع، ونستكشف جذور المشكلة، ونحلل الفروق اللغوية والمفاهيمية بين “الذكاء الصناعي” و”الذكاء الاصطناعي”. كما سنسلط الضوء على وجهات النظر المختلفة، ونستعرض الحلول المقترحة، ونقدم دليلًا عمليًا يساعدك على فهم الفروق الدقيقة بين المصطلحين واستخدام كل منهما في سياقه الصحيح. هدفنا هو تزويدك بفهم شامل وعميق لهذا الموضوع، وتصحيح المفاهيم الشائعة، وتمكينك من استخدام اللغة العربية بدقة وثقة في عصر الذكاء الاصطناعي.

عندما ظهر مفهوم “Artificial Intelligence” في منتصف القرن العشرين من 70 عامًا تقريبًا، أول من استخدم المصطلح كان جون مكارثي في خمسينيات القرن الماضي. واجه المترجمون العرب تحديًا في إيجاد مقابل دقيق للذكاء الاصطناعي في اللغة العربية. فكلمة “Artificial” يمكن أن تُترجم إلى صناعي أو اصطناعي، ولكل منها معنى لغوي مختلف. هذا التنوع في الترجمة أدى إلى ظهور مصطلحات مختلفة للتعبير عن نفس المفهوم، مما خلق حالة من الإرباك وعدم الوضوح. وقد ساهمت وسائل الإعلام والترجمة غير المتخصصة في تفاقم المشكلة، حيث تم استخدام المصطلحين بشكل عشوائي دون مراعاة الفروق بينهما.

ونتيجة لذلك، أصبح من الشائع أن نجد من يستخدم المصطلحين “الذكاء الصناعي” و”الذكاء الاصطناعي” للإشارة إلى نفس الشيء أو حتى يستخدمهما في الكتابة، مما رسخ هذا الالتباس في أذهان الجمهور. لإزالة هذا الغموض، لا بد من تحليل كل مصطلح على حدة من الناحية اللغوية والمفاهيمية.

هذا التحليل سيكشف لنا عن الفروق الدقيقة التي تميز كل مصطلح عن الآخر، ويساعدنا على فهم سبب تفضيل مصطلح على آخر في السياقات العلمية والأكاديمية.

1. الذكاء الاصطناعي: الأكثر دقة وشيوعًا

التحليل اللغوي: مصطلح “الذكاء الاصطناعي” هو الأكثر قبولًا واستخدامًا في الأوساط الأكاديمية والعلمية العربية. وهو يتكون من كلمتين: الذكاء والاصطناعي. كلمة “الاصطناعي” مشتقة من الفعل “اصطنع”، وهو يعني صنع الشيء وابتكاره على غير مثال سابق. وهذا المعنى يتوافق تمامًا مع مفهوم الذكاء الاصطناعي، الذي هو ذكاء من صنع الإنسان، تم ابتكاره وبرمجته لمحاكاة القدرات الذهنية البشرية.

التحليل المفاهيمي: يشير مصطلح “الذكاء الاصطناعي” إلى مجال واسع من علوم الحاسوب يهدف إلى إنشاء أنظمة قادرة على أداء مهام تتطلب عادةً ذكاءً بشريًا، مثل التعلم، وحل المشكلات، والتعرف على الأنماط، واتخاذ القرارات. وهذا المفهوم لا يقتصر على التطبيقات الصناعية، بل يمتد ليشمل مجالات متنوعة مثل معالجة اللغات الطبيعية، والرؤية الحاسوبية، والتعلم الآلي، والشبكات العصبية. وكما يشير موقع “مسار للأبحاث”، فإن كلمة “الاصطناعي” هي الأكثر دقة للتعبير عن الذكاء الذي تملكه الآلات، لأنها تشير إلى ما هو مصطنع أو مبرمج لمحاكاة القدرات البشرية. وهذا ما تؤكده أيضًا شركة “توتيل للترجمة”، التي توضح أن الذكاء الاصطناعي يعني الذكاء الذي لا يصدر من كائن حي.

2. الذكاء الصناعي: مصطلح غير دقيق

التحليل اللغوي: أما مصطلح “الذكاء الصناعي”، فهو يتكون من كلمتين: الذكاء والصناعي. كلمة “الصناعي” مشتقة من الصناعة، وهي تشير إلى كل ما يتعلق بالإنتاج والتصنيع في المصانع. وبالتالي، فإن هذا المصطلح يوحي بأن هذا النوع من الذكاء يقتصر على التطبيقات الصناعية فقط، وهذا غير صحيح.

التحليل المفاهيمي: من الناحية المفاهيمية، يعتبر مصطلح “الذكاء الصناعي” غير دقيق ومضلل. فهو يقصر مفهوم الذكاء الاصطناعي على جانب واحد فقط من تطبيقاته، وهو الجانب الصناعي. وهذا يتجاهل تمامًا المجالات الأخرى الواسعة التي يستخدم فيها الذكاء الاصطناعي، مثل الطب، والتعليم، والتمويل، والترفيه وغيرها. وكما يوضح موقع “أمنية”، فإن الذكاء الصناعي هو الذكاء المحوّل من صيغة إلى أخرى، وعملية استخراج المواد الأولية وتحويلها إلى مواد قابلة للاستعمال. وهذا التعريف، وإن كان صحيحًا في سياقه، إلا أنه لا يعبر عن المفهوم الشامل للذكاء الاصطناعي.

إن النقاش حول المصطلح الأنسب ليس مجرد نقاشٍ لغوي، بل هو انعكاس لوجهات نظرٍ مختلفة حول كيفية فهم وتعريب هذا المفهوم الجديد. وتتنوع هذه الوجهات بين الرأي الأكاديمي، والرأي اللغوي، والاستخدام العملي في المؤسسات المختلفة.

الرأي الأكاديمي: بين الترادف والتفريق في الأوساط الأكاديمية، نجد تباينًا في الآراء. فمجلة حراء العلمية، على سبيل المثال، ترى أنّه على المستوى المفاهيمي، لا يوجد فرقٌ جوهري بين المصطلحين، حيث إن كليهما يعبّران عن قدرة الأنظمة على محاكاة الذكاء البشري. إلا أنّها في النهاية تفضّل استخدام الذكاء الاصطناعي لكونه الأكثر تداولًا ودقة. ومن ناحية أخرى، يتبنى مسار للأبحاث موقفًا أكثر حسمًا، حيث يؤكد أنّ مصطلح الذكاء الصناعي غير دقيق، وأنّ الاصطناعي هو الوصف الأدق للذكاء الذي تملكه الآلات. هذا الرأي تدعمه غالبية الأبحاث الحديثة والمعاجم المتخصصة التي تميل إلى استخدام المصطلح الأكثر شمولية والتي يتفق معها أغلب الكتّاب والخبراء في الموضوع.

الرأي اللغوي: الدقة في التعبير من منظورٍ لغوي بحت، يركز النقاش على الجذور اللغوية ودقة التعبير. فكما ذكرنا سابقًا، كلمة “اصطناعي” مشتقة من “اصطنع”، وهي تحمل معنى الابتكار والإبداع في الصنع، وهو ما يتناسب مع طبيعة الذكاء الاصطناعي. أمّا كلمة “صناعي”، فهي ترتبط بالصناعة والتصنيع، وهو ما يقصر المفهوم على جانبٍ واحد فقط. لذلك، يرى اللغويون أنّ “الذكاء الاصطناعي” هو المصطلح الأكثر توافقًا مع قواعد اللغة العربية وقدرتها على التعبير عن المفاهيم الجديدة بدقة. فهو لا يصف مجرد ذكاءٍ مصنوع، بل ذكاءً تم ابتكاره وتصميمه ليحاكي القدرات الذهنية البشرية.

الاستخدام العملي: “الاصطناعي” يحسم الموقف على أرض الواقع، وفي الاستخدام العملي، نجد أنّ كفة “الذكاء الاصطناعي” هي الراجحة. فالمؤسسات الحكومية الكبرى في العالم العربي، مثل حكومة الإمارات العربية المتحدة وحكومة المملكة العربية السعودية، قد اعتمدت هذا المصطلح بشكلٍ رسمي في جميع مبادراتها ومشاريعها المتعلقة بهذا المجال. كما أنّ الجامعات والمراكز البحثية المرموقة تستخدم مصطلح “الذكاء الاصطناعي” في مناهجها الدراسية وأبحاثها العلمية. وحتى وسائل الإعلام الكبرى بدأت تتجه بشكلٍ متزايد نحو استخدام هذا المصطلح، إدراكًا منها لأهمية الدقة والمواكبة العلمية. هذا التوجه نحو توحيد الاستخدام العملي يعكس وعيًا متزايدًا بأهمية استخدام المصطلح الصحيح، ويساهم في ترسيخ مفهومٍ دقيق وواضح للذكاء الاصطناعي في اللغة العربية.

الحل الأكثر بساطة وواقعية هو تبنّي مصطلح الذكاء الاصطناعي بشكلٍ رسمي وموحّد في جميع الأوساط العلمية والإعلامية والتعليمية. ويستند هذا الحل إلى عدة مبرراتٍ قوية:

الدقة والشمولية: كما أوضحنا سابقًا، فإنّ هذا المصطلح هو الأكثر دقة في التعبير عن المفهوم الشامل للذكاء الاصطناعي.

الشيوع والانتشار: هو المصطلح الأكثر استخدامًا في المؤسسات الحكومية والأكاديمية المرموقة، مما يسهل عملية توحيده.

الوضوح وتجنب الالتباس: اعتماده كمصطلحٍ موحد سيقضي على حالة الإرباك الحالية، ويوفر لغةً مشتركة وواضحة للجميع.

ورغم أنّ هذا الحل قد يبدو مثاليًا، إلا أنّه قد يواجه بعض المقاومة من قبل الذين اعتادوا على استخدام المصطلحات الأخرى. ولكن مع مرور الوقت، يمكن أن يصبح هو المعيار السائد.

الذكاء الاصطناعي: هو المصطلح الأكثر دقةً وشمولية، ويشير إلى الذكاء المبتكر والمصمم لمحاكاة القدرات البشرية. وهو الأكثر شيوعًا في الأوساط الأكاديمية والرسمية.

أما الذكاء الصناعي: فهو مصطلحٌ غير دقيق، ويقصر المفهوم على التطبيقات الصناعية فقط. استخدامه نادر. وبناءً على ذلك، فإنّ التوجه المستقبلي يتجه بوضوح نحو ترسيخ استخدام “الذكاء الاصطناعي” كمصطلحٍ موحّد ومعياري في اللغة العربية.

في ختام هذا المقال، نؤكد مجددًا على أهمية توحيد المصطلحات العلمية والتقنية في اللغة العربية. فاللغة هي وعاء الفكر، ودقة اللغة هي أساس دقة الفكر. وإنّ الجدل الدائر حول “الذكاء الصناعي” و”الذكاء الاصطناعي” ليس إلا مثالًا واحدًا على التحديات التي تواجهها لغتنا في عصر العولمة والتكنولوجيا. إنّ الجهود المبذولة لتوحيد المصطلحات، هي جهودٌ تستحق كل التقدير والتشجيع. فهي تساهم في تعزيز قدرة اللغة العربية على استيعاب المفاهيم الجديدة والتعبير عنها بدقةٍ وعمق، وتضمن لها مكانة لائقة بين لغات العالم. ندعو في الختام إلى مزيدٍ من البحث والنقاش حول هذا الموضوع، وإلى تضافر الجهود بين اللغويين والعلماء والمترجمين والإعلاميين من أجل بناء معجمٍ عربي موحّد للمصطلحات التقنية. فهذا هو الطريق نحو مستقبلٍ لغوي مشرق، يمكن فيه للغة العربية أن تواكب التطورات العلمية والتقنية، وتكون قادرة على حمل رسالة العلم والمعرفة إلى الأجيال القادمة. ورسالة لكل شخصٍ متحدث سواء في الإعلام أو على منصات المؤتمرات ألّا نستخدم مصطلح صناعي بتاتًا للدلالة على هذا التطور المهم.