المقال البشري.. الأخير
أمجد المنيف
البشرية تقف عند مفترق طرق، ولو لم تتفق معي فهذا صحيح أيضًا.. كل السيناريوهات محتملة. في أوقات كثيرة سابقة رددوا الفرضية ذاتها، واكتشفوا أنها مجرد منعطفات في نفس الطرق القديمة، غير أن هذه المرة أصبحت الآلة شريكة الإنسان في الحياة، والقرار.
ما يفعله الذكاء الاصطناعي أسرع من انتباه المتجاهلين له. اللافت ليست السرعة، وإنما المدد الزمنية القصيرة في قفزاته، وقدرته على الانتقال لمراحل جديدة مختلفة تمامًا.
ستتأثر الحياة كلها، كل شيء سيتغير بوضوح أو بتدرُّج، وستغيب الكثير من المهن وتولد أخريات، وتتجدد الأولويات وطريقة العيش وأسلوب التعاطي مع الحياة. ستفرض معايير حديثة للتقييم والمراجعة، وسيكون التواصل والتعاملات وفقًا لما يحصده الشخص أو المنتجات والخدمات من نجوم وتصنيفات.
في مقالتي، أنا مهتم بما سيحدث بالكتابة. أول سؤال زارني، ودعاني للكتابة اليوم، ما الذي يملكه الكاتب ولا يجده القارئ في ChatGPT وGPT-4؟ الإجابة، باختصار: لا شيء!
سابقًا، خلال السنوات العشر الماضية كان التحدي في المقالة يتمثل في سقف الشبكات الاجتماعية، وكيفية مجاراته ما أمكن، وكان الحل في المقالات التحليلية والنظرة الخاصة للكاتب.. المشكلة أن هذه الميزة سرقتها الآلة، وأصبح لكل شخص مستشاره الخاص في كل الشؤون، الذي يجيبه بمقالات مطولة، تحليلية ومكتنزة بالرؤى والحقائق.
المرعب، وأتمنى أن يكون هذا التوصيف مناسبًا، هو قدرة الآلة على التطور بشكل سريع، وبناء قدرات تراكمية خرافية. وستتضاعف المخرجات ملايين المرات متى ما كانت المدخلات آنية، وهذا – بلا شك – سيؤثر في الكتابة والأخبار وستنبت التقارير المزيفة والشائعات.
قضى الإنسان حياته وهو يخترع طرق التعبير عن ذاته ورأيه، منذ أن كان يحفر الصخر ليعبر ويتواصل، حتى وصل الآن إلى أنه يوجه الفكرة وغيره يقوم بالتعبير. لأول مرة تسلب من الإنسان مهارة التعبير، ليقوم بها مساعده الشخصي، وما يحتاجه هو التفكير فقط.. وقد لا يحتاج إلى ذلك مستقبلاً، أقصد التفكير، لقدرة الآلة على الاستقراء والتنبؤ؛ سواء كتابة أو رسمًا ثابتًا ومتحركًا، ومستقبلاً بطرق لا نعرفها الآن!
أكثر ما يتكئ عليه مناهضو المتغيرات؛ هي افتقار الآلة للإبداع. لا أتفق مع فكرة أن الآلة لا تجيد العمل الإبداعي، لأنها ستتفوق على البشر بسعة المعرفة وتنوعها، ودقة المنتج وغزارته، واستدامة المخرجات بنفس المستوى والجودة. على سبيل المثال، أسلوب الكتابة.. سيتم تغذية الآلة بمئة مقال لي، وستنتج مقالة تحاكي طريقتي وأسلوبي ومفرداتي، بل ستكون أكثر جودة مما سأنتجه، بتكلفة أقل وأسرع!
نحتاج تقريبًا إلى كتابة مقالة من نصف ساعة إلى ساعتين، وفقًا للفكرة وعوامل أخرى.. بينما المنافس ينتج أضعافها في ثوانٍ. والكتاب الذي يستغرق شهورًا وأعوامًا، سيكون جاهزًا في لحظات. غير الكتابة للأفلام، وإنتاج المقاطع المرئية، وبناء السيناريوهات والصور، وغيرها أكثر إدهاشًا.
وأنا أهم بصياغة مقالتي عن هذه الثورة في صناعة المحتوى، وتحديدًا موت الكتابة والرأي، تذكرت مقال “سوزان سونتاج” في الذكرى العاشرة لوفاة “خورخي بورخيس” 1996، وتحديدًا هذا المقطع: “أود أن أعتذر لتحتم إخباري إياك بأن الكتب أصبحت أشياء مهددة بالانقراض. وبجانب الكتب، تلك الأجواء التي تجعل من الأدب وروحه يتغلغل في أعماقنا. كما يخبرنا التقنيون، فسوف نقتني قريبًا (شاشات عرض)، ونستطيع من خلالها طلب أي (نص) نريد. وسنستطيع تغيير مظهره، وطرح أسئلة عنه، والتفاعل معه.
حينما تصبح الكتب (نصوصًا) فنحن (نتعامل) معها وفقًا لشروط توفرها آلة. ستتحول الكلمة المكتوبة ببساطة إلى أفق وشكل آخر لواقعنا التلفزيوني، المدار من قِبل الإعلانات. هذا المستقبل المجيد الذي يُشيَّد لنا، وُصف بأنه (ديمقراطي). بالطبع، فهو لا يعني أكثر من موت الوعي، وموت الكتاب معه”.
لا أميل إلى أخذ الأمر بفكر متشنج، بقدر ما أراه تطورًا مهمًا للبشرية.. ستتغير معه أشياء كثيرة، على مستوى التواصل والوظائف ومنهجية الأعمال والأموال. ما يهم ليس الوقوف في وجه التقنية والتغيير، بقدر سن القوانين التي تحمي الأشخاص وأفكارهم وحقوقهم، وتضمن حماية الإبداع أيضًا.
شخصيًا، وبعدما طلبت من الآلة كتابة عشرات المقالات عن مواضيع معقدة ومتنوعة، هل ما زال هناك ما أستطيع كتابته مجددًا؟ لست متأكدًا.. للأسف! والسلام…